ما هو الشغف؟ وكيف نكتشفه ونصل إليه؟

يتعاطى عدد كبير من النَّاس مع كلمة "شغف" بكثير من الاستخفاف وعدم الاهتمام، وكأنَّها كلمة عابرة لا تستحقُّ هذا القدر الكبير من التعمُّق والبحث والدِّراسة، ويبدأ الكثير منهم في تعليق سلبيَّتهم على مدى جدوى وجود هذه الحالة في الحياة، مُبرِّرين موقفهم السطحي ذاك بأنَّه لا وقت لديهم للبحث في موضوع كهذا، فالحياة مليئة بالتحديات والمسؤوليَّات الضاغطة، ومن الضروري ميل الإنسان إلى العقلانيَّة لا إلى التراجيديا والفلسفة.



هل شعرت بإحساس الخلق والتجلِّي بينما تقوم بعمل من الأعمال؟ هل تنتابك مشاعر الحماس والمتعة والانطلاق لدى قيامك بأحد الأعمال؟ هل يأخذك استثمارك في مهارات معيَّنة إلى عالم أكثر جمالاً وروعة؟ هل شعرت بحالة التدفق الرائعة والانسيابية المبهرة بينما تقوم بعمل من الأعمال؟ هل تمنَّيت أن تستيقظ كل يوم لتذهب إلى عمل آخر يشبه ذاتك وحقيقتك؟

كم مرة تجاهلت ذاك الإحساس الذي يقول لك في كل يوم: "اسلك مساراً جديداً، اتبع شغفك"؟ كم مرة لهثت وراء المنطق والأفكار وابتعدت عن مشاعرك وقلبك؟ كم مرة رفضت الرُّوتين والتقليديَّة، وانتقدت الموروث والتيارات الفكرية المقولبة؛ إلا أنَّك تعود لتغوص في دائرتهم ذاتها كل لحظة، دون أن تتَّخذ القرار المصيري بضرورة إعادة ترتيب حياتك، وتصنيف قيمك، والبحث عن شغفك، وبناء رسالتك؟ كم مرة سألت نفسك عن موعد انتهاء أَسرِك، وموعد بدايتك الجديدة الخاصة؟

وهنا يأتي السَّؤال الأهم: ألا تستحق تجربتك الأرضية إجراء تغيير جذري في منهجيِّة تفكيرك، واللَّهث وراء مشاعرك العميقة الصادقة التي ترشدك إلى رسالتك في الحياة؟

نعم، لقد ولِدنا برسالة وهدف وغاية، فهل سألت نفسك ذات مرة: "ما هي رسالتك في الحياة، وما القيمة المضافة التي ستقدمها إلى البشرية؟

يُعدُّ اكتشاف شغفك الخطوة الأولى في طريق رسالتك، ولكي تكتشف شغفك؛ عليك أن تتذكَّر العمل الذي يعطيك أكبر قدر من السعادة والإبداع والانسيابية في الأفكار؛ العمل الذي لن تُمانع بالاستيقاظ من أجله كل يوم ولآخر يوم في حياتك، والذي يعبر عنك ويكون من صميم روحك؛ العمل الذي لا يهم مدى رضا العادات والتقاليد عنه، والذي يقدم قيمة للآخرين.

يأتي الشَّغف غالباً من ألم قديم عايشته، ومن تجربة طفولية مؤلمة اختبرتها، وكأنَّ الألم أخذ شكلاً جديداً أكثر وعياً ورقياً وتطوراً، وكأنَّ الشَّغف هو دعوة لتأمُّل كل تفاصيل حياتك من جديد، ورحلة روحية للوصول إلى بعدٍ آخر يُلامسك ويشبهك، وتحدٍّ كبير للتعمق في أعمق مشاعرك، وذلك بهدف استبطان حقيقتك الصَّادقة ورسالتك الأسمى في هذا الكون.

الشَّغف وطريقة الوصول إليه؛ مدار حديثنا خلال هذا المقال.

ما هو الشَّغف؟

الشَّغف هو ذاك الإحساس الآسر الذي يتملكك أثناء قيامك بشيء ما، فتشعر بالكثير من الحماس والطَّاقة والانطلاق، والانسيابية في الأفكار، والحرية والسعادة. هو لحظة التوازن مابين عقلك وقلبك، هو الشعور الذي يجعلك غنياً مكتفياً، وراقياً وراضياً ومبدعاً. هو الشعور الذي لا تملُّ منه، والذي ترغب باستمراره مدى الحياة. هو حقيقتك الصَّرفة دون أي إضافة وتجميل.

إقرأ أيضاً: من أنا... ولماذا أعيش؟

كيف أستعد نفسيَّاً لاكتشاف شغفي؟

1. الإيجابية:

والمقصود بالإيجابية هنا؛ اعتماد أسلوب حياة صحي نفسياً، أي تبنِّي النظرة المختلفة للأمور، النظرة العميقة، كأن تكتشف الجانب الإيجابي الذي يختفي وراء الأمر السلبي الظاهري، وتستبطن أهميته في تشكيل مسار حياتك؛ أي أن تملك نظرة شمولية لحياتك.

ومن جهة أخرى، أن تسعى إلى تنظيف جسدك المشاعري من كل مشاعر سلبية مسيطرة عليه؛ كمشاعر الكره والغيرة والحسد والغضب والخوف، ومن السلوكات السلبية؛ كإطلاق الأحكام والتّعلق المرضي والخوف من التغيير وإدمان الشهوات.

إنَّ المشاعر السلبية تؤدي إلى تشوه رؤيتك في الحياة، فلا تعود تدرك غاية وجودك ولا تستطيع تحديد شغفك الحقيقي.

2. كسر الخوف:

يُعدُّ الخوف من أكثر العوائق في طريق اكتشاف شغفك؛ لأنَّ الاستسلام للخوف يشوِّه إدراكك ووعيك، ويكبِّلك ويقيدك ويرفع معدلات التوتر والقلق لديك، الأمر الذي يُضعِف أداءك وإنتاجيَّتك، ويُبعِدك عن السلام الداخلي والهدوء النفسي.

ولمواجهة الخوف عليك أن تتوقع أسوأ سيناريو ومن ثم تتقبله، وتعمل بعد ذلك على تحسين الأسوأ.

3. تحديد القيم:

لا يمكنك تحديد شغفك إن لم تحدد منظومة قيمك، حيث يرتبط الشَّغف مع القيم، وكأنَّه ترجمة حقيقية لها على أرض الواقع. وتتمثل منظومة القيم في تحديد أهم الأمور في حياتك؛ أي ما هي الأشياء التي تعني لك في حياتك، فعلى سبيل المثال قد تكون منظومة القيم لدى شخص ما على الشكل التالي: "الصحة، الصِّدق، الحب، الاحترام، العطاء والمشاركة، التميُّز، التطور، الحماس، الثقة بالنفس، العمل، المال، الشهرة، التأثير، ضبط الأعصاب".

والسؤال هنا: هل تترجم قيمك تلك على أرض الواقع؟ أم أنَّها مجرَّد حبر على ورق؟ وما هو معدُّل سعيك لتحقيق قيمك خلال يومك؟ وهل كل ساعة من ساعات يومك هامَّة بالنسبة إليك؟ أم أنَّك لا تُعير اهتماماً لمرور الساعات خلال يومك؟

إقرأ أيضاً: كيف تحدِّد قيمك الشخصية لتعيشَ حياةً ملؤها الإنجاز؟

4. الجلوس مع الذَّات:

لن تستطع الوصول إلى شغفك، إن لم تكن مستعداً للجلوس مع ذاتك، فمن الضروري جداً الغوص إلى داخل ذاتك وبصدق، والابتعاد قليلاً عن النَّاس والأعراف والموروثات، والتماهي مع نفسك فحسب. استرجع ماضيك وتصالح مع تجاربك المؤلمة، عبِّر عن ذاتك وفرِّغ ما قد قمت بتخزينه خلال سنوات طوال؛ كأن تجلس أمام كاميرا هاتفك المحمول، وتتكلَّم بصوت عالي وبمنتهى الشفافية عن كل مخاوفك وقلقك، صِف ألمك، ومن ثم شكِّل علاقة حب قوية مع نفسك من جديد، وتعهَّد للطفل الكامن في داخلك بالحب والاهتمام والحنان. كفاك هرباً من ذاتك، فهي مَن تستحق كل الحب أولاً ومن ثم الآخرين.

شاهد بالفيديو: 8 أشياء يجب أن تقوم بها حتى تعيش شغف الحياة

طريقة الوصول إلى شغفك:

1. المهارات:

عليك بداية البحث عن المهارات التي كنت تتمتع بها خلال سنوات حياتك، اسأل نفسك: "ما الذي كنت تحب القيام به بشدَّة؟"، "ما العمل الذي يحقق لك استمتاعاً وحالةً من تدفق الأفكار والإبداع اليسير، عملاً تستطيع القيام به دون ملل أو فتور، وتمتلك القدرة لتحويله إلى شكل مادي؟"، قد يملك شخص ما مهارة في التدريس منذ طفولته، حيث كان يستمتع بشدة عند تدريسه إخوته الصغار، ويميل إلى تحليل المعلومات واختصارها، ومن ثم إيصالها إلى الآخر بأيسر الطرق.

قد يرتبط الشَّغف مع الألم، فتتولد لديك مهارة في ذات الأمر الذي كان قاسياً عليك؛ على سبيل المثال: قد يعيش شخص ما ضمن بيئة أسرية وتتشكل لديه لسبب ما علاقة مضطربة مع ذاته، بحيث يخجل من التعبير عن ذاته، ولا يثق بنفسه ومظهره، ويميل إلى اتخاذ قراراته من الآخرين وإلى تقليدهم، فقد يخاف الكتابة؛ لأنَّه اعتاد طلب مساعدة شخص ما لإنجاز مواضيع التعبير المطلوبة منه خلال المدرسة.

يظهر الشَّغف في اللحظة التي يحب فيها هذا الشخص نفسه، ويجلس معها أكثر، ويعتاد الاستماع إلى صوته الداخلي بدلاً من أصوات الآخرين، وتتحول فجأة الأمور التي كانت تشكل عائقاً في حياته إلى مهارات حقيقية وإبداعات، فيحترف التعبير عن ذاته، وتصبح الكتابة من أهم الطُّقوس اليومية للتعبير عن مكنوناته ومخاوفه وأحلامه، ومن ثم تتطور علاقته مع المحيط، فيتحول إلى ذاك الإنسان الواعي الهادف لمشاركة الآخرين أفكاره القيِّمة بدلاً من تقليدهم، ولكي يطور مهارة الكتابة ومشاركة الأفكار؛ أدمن القراءة واستمتع فيها كلياً. نعم، ارتبط الشَّغف في حالة الشَّخص هذا مع المشاعر الأكثر عمقاً في داخله، وتحول ألمه إلى مصدر إبداعه.

2. المجالات:

اسأل نفسك: "ما هي أكثر المجالات التي تهتم بالبحث عنها والتعمق فيها؟"، قد تكون هذه المجالات بالنسبة لشخص ما: علم النفس، تطوير الذّات، تربية الأطفال، العلاقات الزوجية، ريادة الأعمال، وغيرها.

3. ربط المهارة مع المجال:

عليك هنا الربط ما بين المهارة والمجال الذي تحبه؛ كأن تربط بين مهارتك في الكتابة وبين حبك لمجال تطوير الذات، فتكتب مقالات في تطوير الذات. وكأن تربط مهاراتك في مشاركة الآخرين أفكارك مع حبك لمجال تربية الأطفال، فتصبح مدرِّباً في مجال تربية الأطفال.

4. الصفات:

اسأل نفسك عن الصفات الموجودة فيك والتي تتناسب عمَّا اخترته من مهارات، وابحث عن الصفات التي تنقصك في إتمام شغفك، وطورها لديك.

5. التفاضل:

في حال وجود أكثر من مهارة لديك، وترغب في اختيار المهارة الأكثر ملاءمة لك، عليك أن تضع مهاراتك موضع التجربة؛ كأن تختبر المهارات على مدار أسبوعين؛ بحيث تعيش مع المهارات على مدار اليوم، وتلاحظ وتسجل مقدار الاستمتاع، والقدرة على الاستمرارية دون ملل، وحجم الإبداع والانسيابيّة، واليسر في الإنجاز، لكل مهارة من المهارات على حدا، ومن ثم تختار المهارة التي حققت أكبر قدر من حالة الشغف لديك على مدار الفترة الزمنية الخاصة بالتجربة.

6. التماهي مع القيم:

احرص كل الحرص على ربط شغفك مع منظومة القيم لديك، ففي حال عدم وجود انسجام ما بين شغفك ومنظومة قيمك؛ فهذا يعني أنَّه ليس هو شغفك الحقيقي.

إقرأ أيضاً: كيف تُنشِئ قائمة بالأمور التي تمتلك شغفاً نحوها لتطوير حياتك

الخلاصة:

تمسَّك بشغفك ودافع عنه، واسأل نفسك: "ما هي الأشياء التي تستطيع تقديمها في سبيل شغفك؟"، "هل أنت مستعد لأن تهب له معظم وقتك وتفكيرك، ومنتهى قيمك؟"، "هل أنت على استعداد أن تتخذ قرارات هامة وخطيرة لكي تبقى قريباً من شغفك؟".

اجعل شغفك غالياً عليك، وعظِّم من قيمته، فهو السبب الحقيقي لسعادتك ورضاك النفسي والروحي، وهو الأساس الصلب لرسالتك في الحياة.

شاهد: كيف تكتشف شغفك؟

المصادر: 1، 2، 3، 4، 5، 6، 7




مقالات مرتبطة