ما تأثير المتفرج في حياتنا؟

لأكثر من 40 عاماً، شعر أحمد بالذنب تجاه صديقه وليد الذي رافقه خلال سنواته الدراسية، فقد كان والداهما صديقين، ويعملان معاً في الشركة ذاتها، وكان أحمد يُلقي التحية دائماً على وليد عندما يصادفه في أروقة المدرسة. ومع ذلك، عندما كان وليد يستقل حافلة المدرسة يومياً، كان يتعرض للتنمر من ولدَين آخرَين، وفي كل يوم، كان أحمد يجلس في مقعده صامتاً.



تعالوا لنروي لكم حكايةً صغيرة أعزاءنا القراء:

لقد كان قلبه ينفطر عليه، حاله كحال الكثير من الطلاب في الحافلة الذين كانوا يشعرون بالسوء لسوء معاملته، فقد كان في إمكانهم فعل شيء ما، ولكن لم ينبس أحدهم ببنت شفة.

ما زال أحمد غير قادر على تفسير سبب عدم دفاعه عن وليد، فقد كان يعرف مَن يتنمر عليه منذ أن كانوا صغاراً، ولم يكن يعتقد أنَّهم أشخاص خطيرون؛ بل وكان يعلم في قرارة نفسه أنَّ بقية الطلاب كانوا سيقفون في وجه هذه المضايقات لو أنَّه تحدَّث دفاعاً عنه.

ولربما أكثر ما كان يؤرق أحمد هو عَدُّ نفسه شخصاً حازماً وأخلاقياً، إلا أنَّ تلك المزاعم لم تتوافق مع سلوكه في الحافلة، وحتى بعد مرور كل تلك السنوات على تلك الحادثة، لم يكن متأكداً من احتمال أن يُحرك ساكناً إذا تكرر الأمر أمامه الآن، الأمر الذي أقلقه بشدة.

يشعر الكثير منا بقلق أحمد، فقد وجدنا أنفسنا جميعاً في مواقف مماثلة، عندما رأينا شخصاً يتعرض للمضايقة في الشارع ولم نتدخل، أو عندما تركنا سيارةً تقطعَت بها السبل على جانب الطريق، بافتراض أنَّ سائقاً آخر سيتوقف للمساعدة، أو حتى عندما لاحظنا وجود نفايات على الرصيف وتركناها لشخص آخر ليلتقطها؛ حيث نشهد مشكلةً ما، ونفكر في العمل الإيجابي الذي يجب علينا فعله، ثمَّ نستجيب بعدم القيام بأي شيء، فهناك ما يعوقنا، ويبقينا مجرد متفرجين.

لماذا لا نساعد الآخرين في مثل هذه المواقف؟ ولماذا نكبت غرائزنا الأخلاقية أحياناً؟ هذه أسئلة تطاردنا جميعاً، وهي تنطبق جيداً على ما هو أبعد من السيناريوهات العابرة الموضحة آنفاً، فكل يوم نتخذ دور المتفرجين على العالم من حولنا، ولا يتوقف الأمر عند تجاهل الأشخاص المحتاجين في الشارع؛ بل نتجاهل المشكلات الاجتماعية والسياسية والبيئية الأكبر التي تهمنا، ولكنَّنا نشعر بالعجز عن معالجتها بمفردنا، وفي الواقع، انتشرَت ظاهرة "تأثير المتفرج" (bystander) على مر القرن الماضي.

سأل تشارلز جارفيلد (Charles Garfield)، أستاذ علم النفس السريري في كلية الطب بجامعة "كاليفورنيا" (University of California)، والذي كتب كتاباً عن الاختلافات النفسية بين المتفرجين والأشخاص الذين يُظهرون "الشجاعة الأخلاقية": "لماذا يستجيب بعض الناس لهذه الأزمات بينما لا يفعل الآخرون ذلك؟".

في ضوء هذه الحالات، أمضى الباحثون العقود القليلة الماضية في محاولة الإجابة عن سؤال "غارفيلد" (Garfield)؛ حيث تكشف النتائج التي توصلوا إليها عن أمر هام عن الطبيعة البشرية، ففي كثير من الأحيان، اختلافات دقيقة فقط هي التي تفصل المتفرجين عن الأشخاص الشجعان أخلاقياً في العالم، ويبدو أنَّ معظمنا قد ينتمي إلى أي من الفئتين، إلا أنَّ التفاصيل الطفيفة التي تبدو غير هامة في المواقف هي التي يمكن أن تحدد إلى أي فئة تنتمي شخصيتنا.

حدد الباحثون بعض العوامل غير المرئية التي تمنعنا من التصرف وفقاً لغرائزنا الأخلاقية، كما حددوا في الوقت ذاته كيف يمكننا محاربة معرقلات الإيثار غير المرئية هذه، فتقدِّم هذه النتائج مجتمعة تفسيراً علمياً لما يدفعنا إلى الإيثار أو الوقوف متفرجين.

ضعف الإيثار التعاطفي:

من بين أكثر المتفرجين شهرةً، 38 شخصاً الذين شهدوا مقتل إحدى جيرانهم عام 1964 في "نيويورك"، وهي امرأة شابة تدعى كيتي جينوفيزي (Kitty Genovese).

هاجم قاتل متسلسل "جينوفيزي" وطعنها في وقت متأخر من إحدى الليالي خارج شقتها، واعترف هؤلاء الجيران البالغ عددهم 38 شخصاً فيما بعد بسماع صراخها، وقال 3 منهم على الأقل إنَّهم شاهدوا جزءاً من الهجوم، ومع ذلك لم يتدخل أحد.

في حين صدم مقتل "جينوفيزي" الشارع الأمريكي، إلا أنَّه دفع أيضاً العديد من علماء النفس الاجتماعي إلى محاولة فهم سلوك أشخاص مثل جيران "جينوفيزي".

أحد علماء النفس هؤلاء كان جون دارلي (John Darley)، الذي كان يعيش في "نيويورك" في ذلك الوقت، وبعد عشرة أيام من مقتل "جينوفيزي" تناول "دارلي" الغداء مع طبيب نفسي آخر يدعى بيب لاتاني (Bibb Latané)، وناقشا الحادث.

قال "دارلي": "كانت تفسيرات الصحف تركز على الشخصيات المروعة لأولئك الذين شاهدوا جريمة القتل لكنَّهم لم يتدخلوا، قائلين إنَّهم جُرِّدوا من إنسانيتهم بسبب العيش في بيئة حضرية، وأردنا معرفة ما إذا كان في إمكاننا تفسير الحادث من خلال الاعتماد على المبادئ النفسية الاجتماعية التي عرفناها".

كان الهدف الرئيس من بحثهم هو تحديد ما إذا كان وجود أشخاص آخرين يمنع شخصاً ما من التدخل في حالة الطوارئ، كما بدا الحال في جريمة قتل "جينوفيزي"، وفي إحدى دراساتهم، جلس طلاب الجامعات في حجرة صغيرة وتمَّ توجيههم للتحدث مع زملائهم الطلاب من خلال نظام الاتصال الداخلي، وقيل لهم إنَّهم سيتحدثون مع طالب واحد أو اثنين أو خمسة طلاب آخرين، ويمكن لشخص واحد فقط استخدام نظام الاتصال الداخلي في كل مرة.

في الواقع لم يكن هناك سوى شخص واحد آخر في الدراسة، وهو عضو يعمل مع الباحثين، ففي بداية الدراسة، ذكر الشخص هذا أنَّه كان يعاني أحياناً من نوبات صرع، وفي المرة التالية التي تحدَّث فيها، علَت نبرة صوته، ولم يعُد كلامه مفهوماً، فقد كان يتظاهر بالاختناق قبل أن يصمت؛ حيث قال متلعثماً:

"إذا كان في إمكان شخص مساعدتي، فسوف يكون ذلك جيداً بكل تأكيد، وسيحصل لي أمر سيئ، أحتاج حقاً بعض المساعدة، سأموت، سأموت، ساعدني، أعاني من نوبة صرع".

%85 من المشاركين الذين اعتقدوا أنَّ لا أحد غيرهم كان على الخط، وبأنَّهم الشاهد الوحيد على النوبة التي أصابت الضحية، غادروا مقصوراتهم للمساعدة، وفي المقابل، حاول 62% فقط من المشاركين الذين اعتقدوا أنَّ هناك ثلاثة أشخاص على الخط و31% من المشاركين الذين اعتقدوا أنَّ هناك ستة أشخاص على الخط لتقديم المساعدة.

عزا "دارلي" و"لاتاني" نتائجهم إلى مبدأ "انتشار المسؤولية" (diffusion of responsibility)"، فعندما اعتقد المشاركون في الدراسة أنَّ هناك شهوداً آخرين على حالة الطوارئ، شعروا بمسؤولية شخصية أقل للتدخل، وبالمثل، ربما رأى شهود مقتل "كيتي جينوفيزي" (Kitty Genovese) الأضواء في شقة أخرى، أو رأوا بعضهم بعضاً في النوافذ، وافترضوا أنَّ شخصاً آخر سيساعدها، والنتيجة النهائية هي ضعف الإيثار التعاطفي، واقترح باحثون آخرون أيضاً آثار "ارتباك المسؤولية" (confusion of responsibility)؛ حيث يفشل المتفرجون في مساعدة شخص يعاني من ضائقة؛ وذلك لأنَّهم لا يريدون أن يخطئ الناس ويعتقدون أنَّهم سبب تلك المحنة.

يشتبه "دارلي" و"لاتاني" أيضاً في أنَّ المتفرجين لا يتدخلون في حالة الطوارئ؛ وذلك لأنَّ ردود أفعال الأشخاص من حولهم تضللهم، ولاختبار هذه الفرضية، أجروا تجربةً طلبوا فيها من المشاركين ملء الاستبيانات في غرفة المختبر، وبعد أن بدأ المشاركون العمل، تمَّ ضخ الدخان في الغرفة لمحاكاة حالة طارئة.

عندما كان المشاركون بمفردهم، غادر 75% منهم الغرفة، وأبلغوا عن وجود الدخان، وعند وجود ثلاثة مشاركين في الغرفة، أبلغ 38% فقط منهم عن الدخان، ومن اللافت للنظر أنَّه عندما انضم إلى المشاركين اثنان ممن يتعاملون مع الباحثين الذين تلقوا تعليمات بعدم إظهار أي قلق، أبلغ 10% فقط من المشاركين عن الدخان.

استسلم المتفرجون السلبيون في هذه الدراسة لما يُعرَف بـ "تجاهل الأغلبية" (pluralistic ignorance): عَدُّ سلوك الآخرين الهادئ علامة على عدم وجود حالة طوارئ، فهناك أعراف اجتماعية قوية تعزز تأثير تجاهل الأغلبية؛ إذ لمن المحرج إلى حد ما أن تكون الشخص الذي يفقد أعصابه عندما لا يوجد خطر فعلي، من المحتمل أنَّ هذا ما حدث مع الأشخاص الذين شهدوا حادثة مقتل "كيتي جينوفيزي"، وفي الواقع، قال الكثيرون إنَّهم لم يدركوا ما كان يجري تحت نوافذهم وافترضوا أنَّه شجار بين عاشقَين، وقد تعزز هذا التفسير من خلال حقيقة أنَّ لا أحد آخر استجاب أيضاً.

بعد بضع سنوات، أجرى "دارلي" دراسةً مع عالم النفس دانييل باتسون (Daniel Batson)؛ حيث كان طلاب المدارس في جامعة "برينستون" (Princeton) يتجولون عبر الحرم الجامعي لإلقاء محاضرات، وعلى طول الطريق، مرَّ الطلاب بشخص يتعامل سراً مع الباحثين كان منحنياً ويئن من الألم في أحد الممرات، فاعتمدَت استجابتهم إلى حد كبير على متغير واحد: هل تأخروا عن محاضراتهم أم لا؛ حيث توقف 10% فقط من الطلاب للمساعدة عندما كانوا في عجلة من أمرهم، بينما قدَّم أكثر من ستة أضعاف العدد المساعدة عندما كان لديهم متسع من الوقت قبل محاضراتهم.

إنَّ الخوف من التأخر على موعد ما، ووجود أشخاص آخرين يشهدون الحدث ما هما إلا عاملَين من العوامل التي يمكن أن تحولنا جميعاً إلى متفرجين في حالة الطوارئ، وعامل هام آخر هو خصائص الضحية؛ حيث أظهرت الأبحاث أنَّه من المرجح أن يساعد الناس أولئك الذين يرون أنَّهم يشبهونهم، بما في ذلك أولئك الذين ينتمون إلى المجموعات العرقية أو الإثنية ذاتها التي ينتمون إليها، وعموماً، تميل النساء إلى الحصول على مساعدة أكثر من الرجال، لكنَّ هذا يختلف حسب مظهرهن؛ حيث تميل النساء الأكثر جاذبيةً وذوات الملابس الأنيقة إلى تلقي المزيد من المساعدة من المارة، ربما لأنَّهن يتناسبن مع الصورة النمطية للإناث الضعيفة.

نحن لا نحب أن نكتشف أنَّ إيثارنا يعتمد على التحيز أو تفاصيل موقف معيَّن، فتبدو خارجةً عن سيطرتنا، لكنَّ هذه النتائج العلمية تجبرنا على التفكير في كيفية أدائنا تحت الضغط، فقد كُشِف أنَّ جيران "كيتي جينوفيزي" ربما كانوا مثلنا تماماً، والأمر الأكثر إثارةً للخوف هو أنَّه يصبح من السهل فهم كيف أنَّ الناس الطيبين في "رواندا" أو "ألمانيا" في زمن النازية ظلوا صامتين ضد الأهوال التي تحدث من حولهم؛ حيث أقنعوا أنفسهم بأنَّ التدخل ليس من مسؤوليتهم، سواء كان سبب ذلك خوفهم أم ارتباكهم أم انجبارهم أم عدم إدراكهم لحجم ما يحدث.

ولكن مع ذلك، تحمَّل بعضهم هذه المسؤولية، وهذا هو النصف الآخر من قصة المتفرجين؛ حيث يشير بعض الباحثين إلى "المتفرج الإيجابي"، الذي يشهد حالة طوارئ ويدرك خطورة ما يحدث، ويأخذ على عاتقه القيام بشيء حيال ذلك.

ما الذي يدفع أولئك الناس إلى التصرف هكذا؟ هل يتلقون إشارات قوية في موقف ما تشير إلى أنَّها حالة طارئة؟ أم أنَّ هناك مجموعة معيَّنة من الخصائص - نوع الشخصية - تجعل بعض الناس أكثر ميلاً لأن يكونوا متفرجين إيجابيين، بينما يظل الآخرون سلبيين؟

لماذا يساعد الناس بعضهم؟

عالم النفس إرفين ستوب (Ervin Staub) هو رائد في دراسة الاختلافات بين المتفرجين الإيجابيين والسلبيين، والذي تبلورت اهتماماته البحثية من خلال تجاربه التي عايشها في طفولته في "المجر" خلال الحرب العالمية الثانية.

قال: "كنتُ سأُقتَل في "الهولوكوست"، وكان هناك متفرجون هامون في حياتي أظهروا لي أنَّه لا يتعين على الناس أن يكونوا سلبيين في مواجهة الشر"، وكانت إحدى هؤلاء الأشخاص هي خادمة عائلته "ماريا"؛ حيث خاطرت بحياتها لإيواء "ستوب" وأخته بينما قتل النازيون 75% من سكان "المجر" البالغ عددهم 600 ألف.

حاول "ستوب" أن يفهم ما الذي يحفز الأشخاص الذين يشبهون "ماريا" في العالم، فركَّزَت بعض أبحاثه على الدراسات التجريبية التي ابتكرها "دارلي" و"لاتاني"، واستكشاف ما يجعل الناس أكثر ميلاً للتدخل بدلاً من أن يكونوا متفرجين سلبيين.

إقرأ أيضاً: الدليل الكامل لتكوين عادات راسخة

في إحدى التجارب، وُضِع مشارك في الدراسة وشخص يتعامل مع الباحثين في غرفة معاً، وطُلِب منهم العمل على مهمة مشتركة، وبعد ذلك بوقت قصير، سمعوا صوت اصطدام وصرخات استغاثة، وعندما تجاهل الشخص المساعِد في البحث الأصوات، وقال: "هذا يبدو وكأنَّه شريط مسجل، أعتقد أنَّه جزء من تجربة أخرى"؛ حيث ذهب بعدها 25% فقط من المشاركين إلى الغرفة المجاورة لمحاولة المساعدة، ولكن عندما قال المساعِد: "يبدو هذا سيئاً، ربما يتعين علينا القيام بشيء ما"، اتخذ 66% من المشاركين إجراءً، وعندما أضاف المساعِد أنَّه يجب على المشاركين الذهاب إلى الغرفة المجاورة للتحقق من الأصوات، حاول كل واحد منهم المساعدة.

في دراسة أخرى، وجد "ستوب" أنَّ الصغار في رياض الأطفال والصف الأول كانوا في الواقع أكثر ميلاً للاستجابة إلى أصوات الاستغاثة من غرفة مجاورة عندما وُضِع كل اثنين معاً وليس بمفردهم، فيبدو أنَّ هذا هو الحال لأنَّه على عكس البالغين في دراسات "دارلي" و"لاتاني"، وتحدَّث الأطفال الصغار بصراحة عن مخاوفهم وقلقهم، وحاولوا معاً المساعدة.

تشير هذه النتائج إلى التأثير الإيجابي الذي يمكن أن نُحدِثه كمتفرجين، فمثلما يعزز المتفرجون السلبيون الشعور بأنَّه لا يوجد مشكلة في الموقف، يمكن للمتفرجين الإيجابيين دفع الناس إلى التركيز على مشكلة ما وتحفيزهم على اتخاذ إجراءات تجاهها.

حدد "جون دارلي" أيضاً الإجراءات التي يمكن للضحية اتخاذها لجعل الآخرين يساعدونه، الأول هو توضيح حاجته، كأن يقول مثلاً: "لقد لويتُ كاحلي ولا أستطيع المشي، أحتاج إلى المساعدة"، والآخر هو اختيار شخص معيَّن للمساعدة، كأن تقول: "لو سمحتَ، هل يمكنك مساعدتي؟" من خلال القيام بذلك، تتغلب الضحية على أكبر عقبتين أمام تدخُّل الآخرين لمساعدتهم؛ حيث يمنع الناس من الاعتقاد بعدم وجود حالة طوارئ حقيقية، ومن ثمَّ القضاء على تأثير تجاهل الأغلبية، ويمنعهم من التفكير في أنَّ شخصاً آخر سيساعد، ومن ثمَّ التغلب على مبدأ انتشار المسؤولية.

لكنَّ "ستوب" حاول أن يأخذ هذا البحث خطوةً إلى الأمام، فطوَّر استبياناً يهدف إلى تحديد الأشخاص الذين لديهم استعداد لأن يصبحوا متفرجين إيجابيين؛ حيث يعبِّر الأشخاص الذين حصلوا على درجات جيدة في هذا الاستطلاع عن قلقهم المتزايد بشأن سلامة الآخرين، ومشاعر أكبر بالمسؤولية الاجتماعية، والالتزام بالقيم الأخلاقية، كما أنَّهم يثبتون أيضاً أنَّهم أكثر استعداداً لمساعدة الآخرين عندما تسنح الفرصة لذلك.

أجرى عالم الاجتماع "صموئيل أولينر" (Samuel Oliner) بحثاً مشابهاً مثل "ستوب" (Staub)، كان "أولينر" (Oliner) أحد الناجين من "الهولوكوست"، واستوحى عمله من الأشخاص الذين ساعدوه على الهروب من النازيين، فأجرى مع زوجته "بيرل" (Pearl) أستاذة التعليم، دراسةً مكثفة حول "الشخصية الإيثارية"، كما أجرى مقابلات مع أكثر من 400 شخص أنقذوا السكان خلال "الهولوكوست"، بالإضافة إلى أكثر من 100 شخص من غير المنقذين والناجين من 'الهولوكوست" على حد سواء.

ففي كتابهما "الشخصية الإيثارية" (The Altruistic Personality)، أوضح السيد والسيدة "أولينر" أنَّ المنقذين يتشاركون في بعض السمات الشخصية العميقة، والتي وصفوها بأنَّها "القدرة على إقامة علاقات واسعة، من خلال شعورهم الأقوى بالارتباط بالآخرين وبالمسؤولية تجاه سلامة الآخرين"، ووجدوا أيضاً أنَّ هذه الميول قد غُرِسَت في العديد من المنقذين منذ أن كانوا أطفالاً صغاراً، وغالباً ما نشأَت من الآباء الذين أظهروا المزيد من التسامح والرعاية والتعاطف تجاه أطفالهم والأشخاص المختلفين عنهم.

قال "أولينر" (Oliner)، الذي يقارن هذه المجموعة بالمتفرجين: "أعتقد أنَّ هناك استعداداً لدى بعض الأشخاص للمساعدة كلما سنحت لهم الفرصة بذلك، فلا يُعير المتفرجون اهتماماً كبيراً بالعالم الخارجي، بعيداً عن نطاق مجتمعهم، وقد يكون المتفرج أقل تقبلاً للاختلافات، ويفكر في سبب مساعدته للآخرين المختلفين عنه، وقد يعتقد أنَّهم يستحقون ما يحدث لهم، أو حتى قد لا يرى المساعدة كخيار، لكنَّ المنقذين يرون المأساة ولا يفكرون في أي خيار سوى التدخل، فكيف يمكن أن يقفوا متفرجين ويتركوا شخصاً آخر يهلك؟".

توصَّلَت كريستين مونرو (Kristen Monroe)، عالمة العلوم السياسية بجامعة "كاليفورنيا" (University of California) إلى استنتاج مماثل من خلال مجموعة المقابلات التي أجرتها مع أنواع مختلفة من الأشخاص الذين يتمتعون بالإيثار، ففي كتابها "جوهر الإيثار" (The Heart of Altruism)، كتبت عن "وجهة النظر الإيثارية"، وهي تصوُّر شائع بين من يتمتعون بالإيثار، "بأنَّهم مرتبطون بقوة بالآخرين من خلال إنسانيتهم المشتركة".

لكنَّ "مونرو" تحذر من أنَّ الاختلافات غالباً ما تكون غير واضحة تماماً بين المتفرجين والجناة ومَن يتمتعون بالإيثار؛ حيث قالت: "نحن نعلم أنَّ الجناة يمكن أن يكونوا منقذين وأنَّ بعض المنقذين الذين قابلتُهم قد قتلوا أناساً، ومن الصعب تصنيف الناس إلى نوع معيَّن دون الآخر؛ وذلك لأنَّهم قد يجمعون بين الفئات، ويحب الباحثون تصنيف الناس إلى فئات، لكنَّ الحقيقة هي أنَّ الأمر ليس بهذه السهولة".

في الواقع، تشير الكثير من الأبحاث التي تناولَت المتفرجين إلى أنَّ شخصية الفرد تحدد بعض الأمور فقط، فلتقديم النوع الصحيح من المساعدة، يحتاج المرء أيضاً إلى المهارات أو المعرفة ذات الصلة التي تتطلبها حالة معيَّنة.

على سبيل المثال: أشار "جون دارلي" إلى دراسته التي ضُخَّ فيها الدخان في غرفة لمعرفة ما إذا كان الناس سيتفاعلون مع الحالة الطارئة هذه، فكان أحد المشاركين في هذه الدراسة في البحرية؛ حيث اشتعلت النيران في سفينته ذات مرة، لذلك عندما رأى هذا الرجل الدخان، قال "دارلي": "لقد خرج من الغرفة وتصرَّف، بسبب تجاربه السابقة".

قال "أولينر": "أعتقد أنَّ الإيثار، والرعاية، والمسؤولية الاجتماعية ليست قابلةً للتنفيذ فحسب؛ بل قابلة للتعليم أيضاً"، وفي السنوات الأخيرة، كانت هناك العديد من الجهود لترجمة أبحاث مثل أبحاث "أولينر" (Oliner) إلى برامج تشجع المزيد من الناس على تجنب فخ تأثير المتفرج.

إقرأ أيضاً: أقوال وحكم عن التغيير وأهميته

كيف يمكننا تجنب تأثير المتفرج؟

كان "إرفين ستوب" في طليعة من شجعوا على إنشاء دورات تُعلِّم تجنب تأثير المتفرج، ففي التسعينيات، عمل مع وزارة العدل في "كاليفورنيا" لتطوير برنامج تدريب لضباط الشرطة، وكان الهدف من البرنامج هو تعليم الضباط كيف يمكنهم التدخل عندما يخشون أن يكون أحد زملائهم على وشك استخدام الكثير من العنف.

قال "ستوب": "لدى أفراد الشرطة تصوُّر - كجزء من ثقافتهم - أنَّ الطريقة التي تدعم بها زميلاً هي مساعدته في كل ما يفعله، وهذا يمكن أن يؤدي إلى مأساة لكل من المواطنين وأفراد الشرطة أنفسهم؛ لذا كانت الفكرة هنا هي جعل ضباط الشرطة متفرجين إيجابيين، وإشراكهم مبكراً بما يكفي حتى لا يضطروا إلى مواجهة زملائهم".

في الآونة الأخيرة، ساعد "ستوب" المدارس في ولاية "ماساتشوستس" في تطوير منهج مناهض للمتفرجين السلبيين، يهدف إلى تشجيع الأطفال على التدخل ضد التنمر، ويعتمد البرنامج على أبحاث سابقة حدَّدَت أسباب سلوك المتفرج، على سبيل المثال: يتردد الطلاب الأكبر سناً في مناقشة مخاوفهم بشأن التنمر، لذلك يتقبلونها، ويخشون إثارة الموضوع، ولا أحد يحدد المشكلة، وهو شكل من أشكال تجاهل الأغلبية؛ حيث يريد "ستوب" تغيير ثقافة الفصول الدراسية من خلال منح هؤلاء الطلاب فرصاً للتعبير عن مخاوفهم، فيقول: "إذا تمكَّنتَ من إقناع الناس بالتعبير عن قلقهم، فسوف يختلف الوضع تماماً".

يعكس هذا النقطة التي أوضحها "جون دارلي": يحتاج المزيد من الناس إلى التعرُّف إلى الضغوط الخفية التي يمكن أن تسبب تأثير المتفرج، مثل انتشار المسؤولية وتأثير تجاهل الأغلبية، وبهذه الطريقة سيكونون مستعدين استعداداً أفضل في المرة القادمة التي يواجهون فيها أزمة.

تشير الأبحاث إلى أنَّ هذا النوع من التعليم ممكن، حتى إنَّ مجموعة من الدراسات وجدَت أنَّ الأشخاص الذين حضروا محاضرات في علم النفس الاجتماعي حول أسباب سلوك المتفرجين كانوا أقل عُرضةً لتلك التأثيرات.

ولكن بطبيعة الحال، حتى هذا النوع من التعليم لا يضمن لك ألا تصبح متفرجاً، فدائماً ما تؤثر متطلبات الظروف في تصرفاتنا الشخصية، وقد لا نعرف أبداً كيف سنتصرف حتى نجد أنفسنا في أزمة.

لتوضيح هذه النقطة، روى "صامويل أولينر" قصة عامل البناء البولندي التي ذُكِرَت في كتاب "أولينر" "الشخصية الإيثارية" (The Altruistic Personality)، خلال الحرب العالمية الثانية، جاء رجل كان قد هرب من معسكر اعتقال إلى عامل البناء وطلب منه المساعدة، فأبعده قائلاً إنَّه لا يريد تعريض أسرته للخطر، فيتساءل "أولينر" هنا: "هل يمكن أن نَعُدَّه شخصاً شريراً؟ لن أحكم عليه بأنَّه كذلك، فهو لم يستطع التصرف بسرعة كافية، ليقول لذلك الرجل: "اختبئ في الحظيرة" مثلاً، فلم يفكر بهذه الطريقة، فإذا كنتَ عامل البناء وأتيتَ إليَّ، وكان النازيون خلفك ويطاردونك، فهل سأكون على استعداد للمساعدة والمخاطرة بأسرتي؟ لا أعرف ما إذا كنتُ سأفعل ذلك".

المصدر




مقالات مرتبطة