ما الذي يمكننا تعلُّمه من التحول المفاجئ إلى العلاج عن بُعد؟

ثمَّة جدالٌ واسعٌ يدور حول ما إذا كان التواصل المباشر مع المرضى سيظلُّ يُشكِّل الأهمية الرئيسة في العلاج، وقد صاغ هذا الجدال عالم النفس "تود إيسيغ" (Tod Essig) في إحدى مقالاته، حيث يبدو أنَّ العلاج الافتراضيَّ (العلاج عن بعد عبر الإنترنت) خطوةٌ مُحتمَلةٌ نحو نزع ضرورة التواصل المباشر بين الأطباء والمرضى.



لا خلاف على أنَّ التَّواجُد الجسديّ وكلَّ ما يرافقه من إشاراتٍ بصريةٍ وروائح وكيمياء بين المتحدِّثين، يختلف اختلافاً كبيراً عن "العلاج عن بُعد" بالصوت والصورة على الهاتف أو شبكة الإنترنت.

يمكننا تصوُّر العلاج الافتراضي المتطوِّر والمُعزَّز (عالي التقنية)، والذي يُشبه الواقع، ويتجاوز الحدود المادية؛ فلمَ لا نتصوَّر أنَّه يمكن "اختراق الدماغ" واستحضار أشياء أكثر من ذلك؟

التكنولوجيا المتواجدة في عالمنا اليوم ما هي إلَّا سلفٌ مُظلِمٌ لواقع الخيال العلمي.

إنَّ العلاج عن بُعدٍ مفيدٌ من الناحية العملية، بالإضافة إلى أنَّه كان آتٍ لا محالة، بغضِّ النظر عن موعد مجيئه؛ والآن، أصبح مُتاحاً بفضلِ فيروس كورونا.

مع تزايد احتمالات حدوث معاناةٍ نتيجة كوفيد-19 (COVID-19)، أصبح تأثير كلٍّ من: العزلة، والعواقب غير المعروفة، والخوف من قلَّة المناعة رغم القدرةِ على المقاومة؛ يجعل الناس بحاجةٍ إلى الدَّعمِ والعلاج. إليكَ إذاً بعض المُلاحظات حول العلاج عن بُعد:

1. يمكن أن يكون العلاج عن بُعدٍ أكثر إلفةً من العلاجِ المُعتاد:

يخلق العلاج -خاصةً ذاك القائم على الرؤية بعيدة الأمد- صلةً عميقة، حيث يُعزِّز كلٌّ من المشاركة والانفتاح والتقارب.

يحافظ المعالجون بشكلٍ عامٍّ على الحدود المِهنية؛ لذا، يكون أكثر المعالجين انفتاحاً مجهولي الهوية نسبياً مقارنةً بالأشخاص الذين يتلقُّون العلاج؛ ممَّا يخلق فارقاً في الإلفة.

يبدو العلاج عن بُعدٍ أكثر قرباً للعديدِ من الناس؛ إذ قد يكون التحدُّث عبر الهاتف خصوصياً للغاية، كما يساعد حمل الهاتف على إشراك حاسة اللمس التي عادةً ما تُقلَّصُ في أثناء العلاج. سيحدِث هذا فارقاً، سواءً كان عبر المكالمات الهاتفية، أم جهاز كمبيوترٍ محمول، أم شاشةٍ كبيرةٍ ومِقعَدٍ مريح؛ وتختلف التجربة المُجسَّدة باختلاف كلِّ ذلك، وهذا هو المغزى.

2. يمكنك رؤية الناس في بيئتهم الطبيعية:

لا يمكن رؤية الناس في بيئتهم الطبيعية في أثناء العلاج المباشر، وكما نراقب ما نقول وما لا نقول، علينا أيضاً ملاحظة ما يُعرَض وما لا يُعرَض في أثناء مكالمة الفيديو؛ إذ يدخل الأطفال، ويتجوَّل الناس في المكان ممسكين بهواتفهم للقيام بجولةٍ افتراضية، ويلقون نظرةً على حيواناتهم الأليفة التي كانت موضع حكاياتٍ من قبل، ويتحدَّثون من أماكنهم المُفضَّلة، وأشياء من هذا القبيل.

يكون المعالجون أقلَّ قدرةً على التحكُّم بتجربة العلاج عن بُعدٍ مقارنةً بالعلاج المباشر الذي يحدث في مكتب المُعالِج، حيث يكون التركيز على الحديث فقط؛ إلَّا أنَّ العلاج عن بُعدٍ أكثر حيويةً واتِّساعاً على نحوٍ بالغ الأهمية، وينطبق هذا على كلٍّ من المريض والمعالِج، ويختلف حسب تجهيز كلٍّ منهما لمساحته الخاصة.

3. يشعر المرضى بمزيدٍ من الأمان:

يمكن أن يكون هناك شعورٌ أكبر بالسيطرة، إذ يشعر المريض أنَّه في عرينه الخاص، مَّمَّا يترك بداخله شعوراً بالتكافؤ مقارنةً بالذهاب إلى عيادة الطبيب، وتُشعِره ديناميكية القوَّة بالمساواة.

قد يعبِّر المرضى عن عواطفهم بشكلٍ مختلفٍ مقارنةً بالعلاج التقليدي السَّابق، حيث يمكنهم إنهاء الجلسة بالضغط على زر إنهاء المكالمة أولاً.

ستختلف تجربة المريض اختلافاً كبيراً تجاه العلاج والمعالج عندما يتحوَّل العلاج التقليدي إلى العلاج عن بُعد.

إقرأ أيضاً: زيارة الطبيب النفسي: جنونٌ أم توازن؟

4. يمكن أن يكون التَّشابُك العاطفي سلاحاً ذو حدَّين:

تترافق مساوئ ومنافع العلاج عن بُعدٍ في مواقف مثل كوفيد-19 (COVID-19) مع الجلسات الافتراضية، حيث من المُرجَّح أن يتشارك المُعالجون والمرضى المِحن والقدرة على التكيُّف، كما يمكن أن يعزِّز التشابك العاطفيُّ المشاركة والارتباط، ويساعد في طرح أمورٍ هامَّةٍ لم تُطرَح من قبل.

لنأخذ مثالاً حول التَّعاطُف المتبادل وتوفير الرعاية: قد يحظى المريض بفرصة إظهار مخاوفه التي يقمعها بداخله عادةً للطبيب المُعالَج؛ ومع الاعتدال، يمكن أن تُحفِّز نقاط الضعف هذه النموّ العلاجي.

من ناحيةٍ أخرى، قد يعجز المعالجون عن الحفاظ على اعتدال الحدود المِهنية بينهم وبين المرضى؛ ممَّا يؤدِّي إلى عرقلة العملية العلاجية، فقد تكون الحدود شديدة الانفتاح أو شديدة الصرامة، أو كلاهما؛ كما قد يبالغ المعالجون في الانفتاح أو المشاركة أو محاولة بذل جهدٍ مفرطٍ مع المرضى، كما قد يؤدِّي التَّشابُك العاطفي أيضاً إلى زيادة مخاوف المعالجين أو الامتناع عن علاج المرضى.

5. يُمكِنك التحرُّك:

تُظهِر الأبحاث أنَّ التحرُّك في أثناء التفكير من شأنهِ أن يُعزِّز الإبداع والقدرة على حلِّ المشكلات، ويرجع ذلك إلى أنَّ الأنظمة الحركية والنَّشاط العصبي والعضلي الذي يسمح لنا بالتحرُّك، يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالتَّفكيرِ والشعور. يمكنك القيام بذلك في أثناء العلاج عن بُعد.

قد يجِد بعض المرضى أيضاً أنَّهم يفكِّرون بوضوحٍ أكثر في أثناء القيام بشيءٍ آخر، رغم أنَّ هذا قد يكون عاملاً لتشتيت الانتباه. لذا، لابدَّ من مُعالجة هذه العوامل معالجةً صريحة، وقد يُذكَّر الأشخاص أيضاً بأشياء في منازلهم ربَّما تكون هامَّةً للمناقشة، بينما قد يجدون صعوبة في تذكُّر ما يرغبون في الحديث عنه في أثناء تواجدهم في عيادة الطبيب.

6. قد يكون من الأسهل التَّحدُّث عن الموضوعات الصَّعبة:

قد يُشعِر القُرب المادي الأشخاص الذين تعرَّضوا إلى الاعتداء أو سوءِ المعاملة من قِبَل شخصٍ آخر، بالخطر؛ ويكون بمثابة إنذارٍ لاضطراب ما بعد الصَّدمة، خاصةً إذا تعرَّضوا إلى الخيانة من أحد العلاقات القريبة أو الحميمية، وهذا من شأنِه أن يُعقِّد العلاقة العلاجية بين المريض والمعالِج.

غالباً ما يُعدُّ العلاج عن بُعدٍ أكثر أماناً بالنِّسبةِ إلى أولئك الذين يجدون صعوبةً في التقارُب المادي (الجسدي) لأيِّ سببٍ من الأسباب، سواءً كان ذلك نتيجة صدمةٍ ما، أم التَّعرُّض إلى التَّنمُّر، أم الاعتداء، أم لأيِّ سببٍ آخر؛ إذ يمكن للابتعاد المتزايد أن يُساعِد في عملية العلاج أو يُعرقلها، اعتماداً على المكان الذي تحدُث فيه المُعالجة.

قد يتمكَّن المرضى من خلال هذا التباعد الجسدي الآمن من خوض المجازفات التي لن يستطيعوا التعرُّض إليها في أثناء العلاج المباشر، بما في ذلك: استحضار ذكرياتٍ مؤلمةٍ ومشاعِر مُعقَّدةٍ حول المعالج والعلاج ككل.

إقرأ أيضاً: 7 تطبيقات لعقد مؤتمرات الفيديو والاجتماعات عبر الإنترنت عن بعد

7. يُسهِّل العلاج عن بُعدٍ الرِّعاية النفسية:

لا يمتلك العديد من الناسِ معالجين أو مركزاً للعلاج النَّفسي في مِنطقتهم، لذا يمكن أن يتصدَّى العلاج عن بُعدٍ لهذه المشكلة؛ كما قد يكون فعَّالاً من الناحية المادية، إذ أنَّ تكاليفه أقل، فلا توجد تكاليف إيجارٍ أو انتقالٍ على سبيل المثال.

قد يكون العلاج عن بُعدٍ أكثر راحةً للمريض والمُعالِج؛ ومع ذلك، يُفضِّل بعض المعالجين إبقاء المساحات الشخصية والمهنية أكثر تميُّزاً واستقلالية.

8. قد يقلُّ إرهاق المُعالِج:

يُعدُّ العلاج عن بُعد أكثر ملاءمة للكثير من المعالجين، إذ يوفِّر الوقت ويُخفِّض التكلفة، ويُمكِّن المعالج من أخذِ فتراتِ راحةٍ بين الجلسات، فضلاً عن أنَّه يسمح للمرء بتنظيم جدول أعماله دون تقصيرٍ في إدارة مسؤوليات المنزل؛ ممَّا ينتج عنه جودة حياةٍ أفضل وأكثر انتظاماً، فكلَّما كان المُعالج في مِزاجٍ أفضل، أصبحت العملية العلاجية أكثر تحسُّناً. ومع ذلك، يُشير العديد من المُعالجين إلى أنَّ العلاج عن بُعدٍ أكثر استنزافاً لهم دون التفاعُل البشري المُباشِر.

إقرأ أيضاً: كيف أنجح في التعامل مع غضب المريض - الجزء (1)

9. يُمكنك الحصول على اكتشافاتٍ لم تحصل عليها من قبل:

لقد لاحظ العديد من النَّاسِ أنَّ العُزلة عن الآخرين ومعرفتهم في الوقت نفسه تُشعِرهم بفهمٍ أفضل، إذ أنَّ هناك شعورٌ قويٌّ بأنَّ الآخرين مرتبطون بالعُزلة والرَّفض.

يمكن أن يكون هذا مصدر ارتياح، وقد يكون وسيلةً للرؤية والإدراك، فقد يتسبَّب الشعور بالحاجةِ المُلحَّة والخطر بتحريك غريزة البقاء، ممَّا يزيد من الشُّعور اليومي بالمغزى والهدف. يمكن أن يجعل قلق التَّهديد بالوفاة الرغبة بالتغيير أشدَّ إلحاحاً، كما يمكن أن يؤدِّي وجود سببٍ حقيقيٍ وملموسٍ لكلِّ هذا القلق إلى تجربةٍ عميقةٍ وهادفةٍ إلى التَّغيير.

نظراً إلى هذه الأسباب وأسبابٍ أخرى، يمكن للعلاج عن بُعدٍ أن يكون عاملاً هامَّاً في تعجيل الطفرات التطوُّرية.

هل سيعود العلاج إلى سابق عهدِه؟

سوف يخبرنا الوقت فيما إذا كان فيروس كورونا سيغيِّر الصورة العامَّة للعلاج، أم أنَّه يُسرِع مصيره المحتوم فقط، أو ما إذا كانت الحياة ستعود إلى سابقِ عهدها، أو ما إذا كنَّا نتعلَّم أيَّ شيءٍ من هذه التَّجربة؛ وكيف سيكون الأمر عندما نبدأ الجلسات المباشرة مرَّةً أخرى.

حالياً، يختبر العديد من النَّاس الانخراط الكامل في العلاج عن بُعد، مُتحمسين لنجاح التَّجربة بغضِّ النَّظر عن وجهات نظرهم، طالما أنَّ الهواتف وشبكات الإنترنت تُبقينا مُتَّصلين فعلياً.

 

المصدر




مقالات مرتبطة