لماذا يمكن لبعض أذكى الناس أن يصبحوا أغبياء جداً؟

قبل سنواتٍ عدة من وفاته في المنفى بسبب تهم النازية، ألقى الروائيُّ النمساوي "روبرت موسيل" (Robert Musil) محاضرة في "فيينا" "عن الغباء"، وكانت فكرتها أنَّ الغباءَ ليس مجرَّد "حماقةٍ"، ولا نقصاً في قدرة الفهم.



الغباء بالنسبة إلى "موسيل" (Musil) مباشَرٌ وصريحٌ، وفي الحقيقة مشرِّفٌ تقريباً، والحماقة شيء مختلف جداً وأكثر خطورةً؛ وذلك لأنَّ بعض أذكى الأشخاص، الأقلَّ حماقةً، كانوا غالباً الأكثر غباءً.

تحمل محاضرة "موسيل" (Musil) مجموعةً هامةً من الأسئلة؛ ما هي الحماقة تحديداً؟ وكيف ترتبط بالأخلاق؟ وهل يمكنك أن تكون جيداً أخلاقياً وغبياً؟ وكيف ترتبط الحماقة بالرذائل؟ أهي نوعٌ من التعصب؟ ولِمَ هي ضيقة النطاق جداً؟ ولِمَ يكون الناس في أغلب الأحيان أغبياء في نطاقٍ ما ومتبصرين في الآخر؟

تُعَدُّ إجابة "موسيل" (Musil)، التي اختصت بالغطرسة والادِّعاء، مركِّزةً جداً على الذائقة الفنية في "فيينا" ما بين الحربين العالميتين، ولكنَّ أسئلته وحدسه عن خطورة الغباء، متعلقةٌ بنا أكثر من أي وقتٍ مضى.

الحماقة فشلٌ إدراكيٌّ خاص، ولنَصُغها بقسوةٍ، فهي تحدث عندما لا يكون لديك الأدوات التصورية الصحيحة اللازمة؛ والنتيجة هي عدم القدرة على فهم ما يحدث وميلٌ إلى تصعيب الظواهر.

ومن الأسهل تقديم مثال عن ذلك من خلال حالةٍ مأساويةٍ: فهمت القيادةُ العليا البريطانية خلال الحرب العالمية الأولى في كثير من الأحيان حربَ الخنادق باستخدام مفاهيم واستراتيجياتٍ مستوحاةٍ من معارك الفروسية في شبابهم.

وكما أشار أحدُ أتباع المارشال - المارشال هو ضابط يحمل الرتبة الأعلى في القوات المسلَّحة في بعض البلدان - الميداني "دوغلاس هيغ" (Douglas Haig)، اعتقدوا أنَّ الخنادق "عمليات متحركة في خط الجبهة"، لكن لم تتزحزح من مكانها أبداً، ولم يكن مفاجِئاً أنَّ ذلك لم يخدمهم جيداً في بناء استراتيجية؛ لقد أُعِيقوا، عدا عن نقص الموارد المادية، بنوعٍ من "الإهمال الإدراكي"، وهو فشلٌ في تحديث أدواتهم المعرفية ليرتقوا إلى إنجاز مهمَّتهم.

ستظهر الحماقة في أغلب الأحيان في حالاتٍ كهذه، عندما يُوضَع قسرياً هيكل عملٍ إدراكي قديم في الخدمة، وهذا يعوق المرء عن التحكم ببعض الظواهر الجديدة.

ومن الهام تمييز هذا عن الخطأ المجرَّد؛ إذ نرتكب الأخطاء لأسباب مختلفة، والحماقة بالأحرى واحدةٌ من الأسباب المحدَّدة والمستعصية للخطأ، وتاريخياً، قَلِقَ الفلاسفةُ من اللاعقلانية المتمثِّلة بعدم الأخذ بالأسباب المتاحة لتحقيق الأهداف.

والحماقة مختلفةٌ جداً عن هذا، فهي قلَّةٌ بالوسائل الفكرية الضرورية، وستتطلبُ مقاومتُها نموذجياً بناءَ طريقةٍ جديدةٍ لرؤية أنفسنا والعالم، لا قوةَ إرادةٍ غاشمة.

وحماقةٌ كهذه متناسقةٌ تماماً مع الذكاء: "كان هيغ" (Haig) رجلاً ذكياً بكل المعايير، وفي بعض الحالات، على الأقل، يُحرِّض الذكاء الحماقة بفاعليةٍ؛ فعندما عرَّف "هاري هوديني" (Harry Houdini)، الأستاذ في علم الوهم، "آرثر كونان دويلي" (Arthur Conan Doyle)، مُبتكِر سلسلة "شيرلوك هولمز" (Sherlock Holmes)، الحِيل لجلسات السحر، التي آمن بها "كونان دويلي" (Conan Doyle) بصدق، كان ردُّ فعل المؤلِّف اختلاق تفسيرٍ مضادٍّ مفصَّلٍ بسخافة.

ومع أنَّنا قدَّمنا الأمر من خلال "الإهمال الإدراكي"، فإنَّ الحماقة تتوافق مع نوعٍ من الابتكار المُضلَّل، فضع في الحسبان بلداً يتبنى بحماسة مفاهيم وأفكار جديدةً، ليس من زمنٍ ماضٍ؛ وإنَّما من مكانٍ مختلفٍ جداً؛ إذ تهيمن الآن على المناقشات العالمية عن العدالة الاجتماعية، مثلاً مجموعة أفكارٍ ومصطلحاتٍ مأخوذة من الولايات المتحدة، وهي أمَّةٌ تتسم بمسارٍ ثقافي وتاريخي محدد جداً.

وإنَّ نقلَ هذا الهيكل العملي إلى دولٍ أُخرى، كالتي تكون فيها الطبقات الاجتماعية أقلَّ وضوحاً، مثلاً، الدول المعتمدة على استغلال جهد المهاجرين البيض من أوروبا الشرقية، أو التي تكون فيها العنصرية أكثر تعقيداً؛ مثلاً، دول جنوب إفريقيا، يُعَدُّ خطِراً إدراكياً واجتماعياً.

شاهد بالفديو: كيف تصبح حاد الذكاء؟

للحماقة سمتان تجعلانها خطرةً خصوصاً عند مقارنتها بالرذائل الأخرى:

السمة الأولى:

على عكس عيوب الشخصية، فهي خاصَّةٌ بالجماعات أو التقاليد في المقام الأول، وليس الأفراد؛ ففي النهاية، نستمِدُّ معظمَ مفاهيمنا من المجتمع الذي ترعرعنا فيه.

وبافتراض أنَّ مشكلة "هيغ" (Haig) كانت الكسل: فلم يكُن هناك نقص في الجنرالات النشيطين لاستبداله، ولكن إن عمِل بجدٍّ شديد ضمن السجن الفكري للتقاليد العسكرية للقرن التاسع عشر، عندها يصبح حلُّ العقبة أصعبَ؛ إذ سيكون عليك وضع إطار عملٍ إدراكي جديد وتأسيس إحساسٍ بالهوية وكبرياءٍ عسكري لأجله، وما إن يستحوذ الغباء على جماعةٍ أو مجتمعٍ، يصبح من الصعب جداً اجتثاثه؛ إذ إنَّ اختراع وتوزيع وتطبيع مفاهيم جديدة عملٌ شاق.

السمة الثانية:

تولِّد الحماقة مزيداً من الحماقة بسبب الغموض العميق في طبيعتها، فإن كانت الحماقة مسألةَ استخدام أدواتٍ خاطئةٍ للمهمَّة، فسيعتمد الفِعل الأحمق على ماهية المهمة، كما تكون المطرقة مثاليةً لبعض المهام وغير مناسبة لأخرى.

خذ السياسة مثلاً، يتوافق الشعار الغبيُّ مع الناخب الأحمق، وهذا يعكس طريقة رؤيتهم للعالم؛ والنتيجةُ أنَّه يمكن للغباء، على نحوٍ ساخر، أن يكون فعَّالاً جداً في بيئة مناسبة.

ومن الهام جداً فصلُ هذه النقطة عن الادِّعاءات المألوفة عن غباء وانعدام ثقافة الطرف الآخر: تتوافق الحماقة مع الثقافة العالية، وهي سمةٌ خاصة بالثقافة السياسية أكثر منها بأفرادها، الذين يحتاجون إلى التعامل معهم في ذلك المستوى.

كان موقف "موسيل" (Musil) تجاه الحماقة "المُشرِّفة" خطيراً بالتأكيد: ضع في الحسبان دور ذلك في انتشار ظاهرة المناهضين للقاح فيروس كورونا، لكن نادراً ما تكون الحماقةُ وحدها الخطرَ الرئيس: فعلى رأس كلِّ حركةٍ حمقاء تقريباً، ستجد الغباء مسؤولاً عنه.

إقرأ أيضاً: 8 مواضع يتصرف فيها الأذكياء بغباء

يمكننا الآن تفسير سببِ كون الحماقة ضيقة النطاق جداً، لِمَ يمكن لشخصٍ ما أن يكون ذكياً جداً في مجالٍ ما، وغبياً في الآخر؟

تكون المفاهيم ذاتُ الصلة غالباً في مجالٍ معيَّن.

تخيَّل شخصاً كان أعمى عن كل الأدلَّة التي تخص تعرُّضه للخيانة، يسأل نفسَه في النهاية: "كيف يمكنك أن تكون بهذا الغباء؟"، والمشكلة هنا ليست الغباءَ وحده: فإنَّ فكرة الخيانة رديئةٌ كفايةً، وما لدينا هنا بالأحرى هو شخصٌ "يتصرَّف كما لو أنَّه أحمق".

ولا يقتصر الأمر على فشله في فهم مفهوم الخيانة فحسب، لكن أيضاً لم يفكِّر فيه حرفياً: لقد كان مفصولاً عن الواقع بسبب الضغوطات العاطفية وغيرها، وفي هذا النوع من الحالات، يملك الأشخاص اللوازم الفكرية الضرورية، لكن يحبسونها بعيداً بغير قصدٍ؛ وهذا يشير إلى اختلافٍ هام عن الحماقة؛ إذ إنَّنا نستطيع أن نجعل من أنفسنا مغفَّلين، لكن ليس حمقى.

إذاً، من الصعب إصلاح الحماقة، وهذا يتفاقم من خلال الطريقة التي تترابط بها مع الرذائل الأخرى، لكن حالما نفهم طبيعة الحماقة، تصبح الأمور مشرقة أكثر قليلاً مما قد تبدو عليه.

المصدر




مقالات مرتبطة