لماذا نُرعب أنفسنا؟ أفلام الرعب واللاوعي

كان "فرويد" في مقاله (uncanny) أول من تحدَّث عن اللاوعي بطريقة علمية ومنهجية، فوصف الإنسان بالجبل الجليدي الذي يكون الجزء الظاهر منه يشكِّل نحو ثلث الجزء الموجود تحت سطح الماء، فهذا الجزء المخفي هو الذي يمثِّل اللاوعي؛ إذ يخبئ فيه الإنسان كل رغباته المكبوتة ومشاعره العدوانية وغيرها في هذا الجزء؛ وذلك لأنَّنا نحب أن نظهر أمام الناس على أنَّنا أشخاص واعون ومتحضرون ومتوازنون من الناحية الشخصية والنفسية.



الكوابيس والأحلام وزلات اللسان:

يقول "فرويد" إنَّ اللاوعي يعبِّر عما في داخله من خلال الكوابيس والأحلام وزلات اللسان، وكأنَّه يلجأ إلى تفريغ هذه المشاعر المكبوتة من خلال إنشاء سيناريوهات معينة نراها على شكل كوابيس، فنفرغ فيها كل ما هو عالق في اللاوعي من أشياء قد يكون من الصعب جداً التعبير عنها في الحياة الواقعية؛ وذلك بسبب عملية الكبت التي تُمارس عليها من قِبل منظومات الكبت الداخلية سواء الأخلاقية أم الاجتماعية أم الثقافية أم غيرها.

بحسب ما يقول "فرويد" فإنَّ تعبيرات اللاوعي لا يقتصر ظهورها على الكوابيس أو الأحلام أو زلات اللسان؛ إذ تظهر أيضاً في عمليات واعية أخرى نقوم بها بملء إرادتنا مثل الفنون، وخاصةً تلك التي تتعلق بالرعب مثل لوحات وقصص وأفلام الرعب المختلفة التي يرى "فرويد" أنَّ كتَّابها أو رسَّاميها أو صانعيها يستخدمون المادة الأولية نفسها في الكوابيس، والفرق بينهما أنَّ الكوابيس تستخدم أشخاصاً ووجوهاً معروفة بالنسبة إلينا، وتُدخلها في قصص ومسارات يكون الهدف منها هو تفريغ المكبوت، أما أفلام الرعب على سبيل المثال فتستخدم شخصيات غير معروفة، ولكنَّ الهدف هو نفسه تقريباً؛ تفريغ المكبوت.

أفلام الرعب: كوابيس نكتبها بأيدينا

فنون الرعب هي أشبه بالكوابيس التي نكتبها نحن بأيدينا - بدل تلك التي تُفرض علينا خلال النوم - ونسمح لها بأن تُخيفنا وتبث الرعب في نفوسنا بملء إرادتنا، ويقول "سيغموند فرويد" في هذا الصدد: لو أردنا تصنيف الفنون بحسب قربها أو بعدها من اللاوعي، لكانت فنون الرعب هي الأكثر قرباً من اللاوعي؛ لا بل إنَّها تقف على بوابته ويمر منها ما يمر من مشاعر ورغبات مكبوتة، ومؤلفو الرعب هم الأكثر قدرة على الوصول إلى اللاوعي.

حكايات الرعب بين الوعي واللاوعي:

يقول الكاتب "ستيفين كينغ" أحد أشهر مؤلفي الرعب إنَّ أغلب حكايات الرعب تقف في النقطة الفاصلة بين الوعي واللاوعي؛ وذلك لأنَّها تتناول بالدرجة الأولى مشاعر الخوف التي تعد أكثر المشاعر التي تمتلك جذوراً في اللاوعي، ومؤلف مواد الرعب تنتظره مهمة صعبة؛ وذلك لأنَّه يتعامل مع الخوف، ولا يستطيع أن يأتي بالخوف إلا من أعماقه، فيسأل نفسه ممَّ أخاف؟ ويقوم بعملية استحضار للخوف من غياهب لا وعيه، وينظر إليه بعين الفاحص والمتأمل، ليبحث عن طريقة يمكنه من خلالها معرفة كيفية تجسيد هذا الخوف على الورق أو اللوحات، والاستفادة منه في تقديم سيناريو معبِّر.

شاهد بالفديو: ما هي أسباب الكوابيس؟

أفلام الرعب والمخاوف الوجودية للشعوب:

إنَّ كل فيلم رعب نشاهده هو حكاية لاوعي كتبها مؤلفوه، ولا تقتصر أفلام الرعب على ما يجول في لاوعي الكاتب؛ بل قد تعبِّر عن اللاوعي الجمعي للناس والشعوب، ومخاوفهم التاريخية والوجودية إزاء حدث معين.

بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية التي انتهت بهزيمة ألمانيَّة مذلة، تمَّ إنتاج فيلم يحمل عنوان (the cabinet of Dr. Caliegeri) الذي تدور أحداثه حول شاب يلجأ إلى منوم مغناطيسي يسيطر على دماغه، ويدفعه إلى ارتكاب جرائم قتل خطيرة.

يقول العديد من الخبراء والباحثين إنَّ هذا الفيلم ليس مجرد فيلم عادي هدفه الإثارة أو التشويق أو جني الأرباح؛ بل إنَّه رحلة خطيرة في عمق اللاوعي الألماني المهزوم الذي يشعر بالذل والإهانة بعد نهاية الحرب العالمية الأولى، وكأنَّ الشعب الألماني في عمق لا وعيه متعطش لرد الهزيمة وإعادة الاعتبار، وهو على استعداد لتسليم إرادته بالكامل لشخص يعيد إليه كرامته مهما كانت الطرائق، ومهما كانت الجرائم الفظيعة التي قد تُرتكب في الطريق لاستعادة الكرامة، وقد وجد الشعب الألماني ضالته ورغبته المكبوتة في شخص القائد النازي "أدولف هيتلر".

الليل: أقرب الفترات إلى اللاوعي

في سياق الرد على هذا الكلام يقول الكاتب الشهير "ديفيد لويس" في أحد كتبه، عن وجود علاقة جمعت بين "أدولف هتلر" والمنوم المغناطيسي "إريك يانوسين" الذي كان يقدم النصائح لـ "هتلر" من أجل جذب الجماهير والسيطرة عليها من خلال إقناعها، وكان من أبرز نصائحه هو أن يكون حديثه في الليل، فلا تكون العقول متيقظة بشكل كامل، والليل هو أقرب الفترات من اللاوعي، وبالفعل كانت أغلب خطب "هتلر" ليلية ليساعده ذلك على الدخول إلى لاوعي الجماهير التي يخاطبها.

كما يقول "ديفيد لويس" إنَّ "يانوسين" كان وراء استخدام "هتلر" لليدين بشكل مفرط من أجل التأثير أكثر في الناس، ونصحه كذلك بأن يسلِّط عليه الضوء في بقعة محددة، فقد تكون هذه النقاط ساذجة الآن، وهذا طبيعي لأنَّنا نعيش في عصر يتميز بالحداثة والتطور التقني والعلمي والتكنولوجي، لكن في ذلك الوقت كانت هذه الأمور مبهرة للجميع.

إقرأ أيضاً: 5 نصائح للتخلّص من الأحلام المزعجة والكوابيس

أفلام الرعب والمخاوف الاقتصادية:

كان زمن الثلاثينيات هو زمن الرخاء والحفلات والسهر والازدهار الاقتصادي، لكنَّ هذه الفترة لم تدم طويلاً؛ إذ جاء الكساد الاقتصادي الذي أصاب بداية البورصة الأمريكية، ثم امتد إلى بقية أنحاء العالم، وما نتج عنه من ارتفاع معدلات الفقر والبطالة والتضخم، وفي هذه الحقبة وتحديداً في عام 1931م، يظهر فيلم "فرانكشتاين" الذي يسلط الضوء على عالم سعيد ومتفائل يعمل على إجراء تجارب جديدة؛ إذ يقوم بتجميع الجثث في المختبر لتصنيع مخلوق بشري، لكن فجأة تتحول هذه الجثث إلى وحش خطير يهدد حياة الناس.

يرى الباحثون أنَّ هذا الفيلم ينطوي على دلالات عميقة تمثل مخاوف تلك الحقبة، فالعالم المتفائل والسعيد يرمز إلى فترة الرخاء التي عاشها البشر مع نهاية الحرب العالمية الأولى وبداية عصر الرخاء، ولكنَّ هذا الهدوء لم يدم طويلاً؛ إذ استفاق الناس على خسارة نقودهم في البورصة، كما استفاق "فرانكشتاين" على تحول مشروعه إلى وحش كاسر يهدد البشرية.

يرى الخبراء أنَّ هذه النقطة في هامة جداً؛ وذلك لأنَّها تدل على خروج الكارثة من منطقة الأمان، فالناس تثق بلغة الأرقام والعلم والاقتصاد الحديث، ولكنَّها استفاقت على كساد عالمي لا تعرف أسبابه الحقيقية.

مشاهدة أفلام الرعب

لماذا نُرعب أنفسنا؟

تساءلت الكاتبة "إيما جون" في أحد مقالاتها الذي نشرته في مجلة (الغارديان) البريطانية "لماذا نُرعب أنفسنا؟"، وهي تقصد أنَّها تتساءل عن السبب الذي يدفع الناس لإخافة أنفسهم من خلال مشاهدة أفلام الرعب، وتحكي "إيما" كيف ساعدتها مشاهدة هذه الأفلام على تخطي الكوارث التي مرت بها خلال حياتها؛ إذ توفيت والدتها ومن ثم صديقتها المقربة بعد معاناة مريرة وطويلة مع مرض السرطان.

أكدت الكاتبة أنَّها كانت تشعر بتعاظم الخوف والحزن عند مشاهدة الرعب وكأنَّه تفريغ طبيعي لكل الألم والمعاناة التي عاشتها خلال حياتها، وبعد نهاية الفيلم كانت تعيش حالة التطهير، وكأنَّ أفلام الرعب استدرجت جميع الأفكار والمشاعر المكبوتة من اللاوعي إلى حيز الوعي لتقوم بالتخلص منها بطريقة طبيعية مرة واحدة وإلى الأبد، تماماً كما تفعل الأحلام والكوابيس.

هذا ما أشار إليه الفيلسوف اليوناني القديم "أرسطو"؛ إذ كان يرى في مشاهدة الناس للمسرحيات التراجيدية عملية تطهير من كل الأهواء والمشاعر التي تكبِّل النفس البشرية، فإنَّ هذا الرعب يزيل جميع المشاعر غير المساعدة ويبقي على غريزة البقاء.

الكوابيس واضطرابات ما بعد الصدمة:

كشفت العديد من الدراسات عن وجود ارتباط فعلي بين الأحداث الصادمة والكوابيس، وخصوصاً عند الناجين من الحروب أو الكوارث الطبيعية أو الذين تعرضوا للحوادث العنيفة أو المرعبة، الذين أُصيبوا باضطراب ما بعد الصدمة؛ إذ يستيقظ المريض بشكل مفاجئ وتنتابه مشاعر الخوف أو الهلع، فيعيد ضمن الحلم استعادة مشاهد العنف أو الخوف التي عاشها في إطار الحدث الصادم.

قد تحدث هذه الكوابيس أكثر من مرة في الأسبوع، ويصاب بها أكثر من نصف مرضى اضطراب ما بعد الصدمة، ووجد الباحثون أنَّ تواتر الكوابيس عند من تعرضوا أو تعرضن للاعتداء الجنسي قد تتجاوز خمس مرات في الأسبوع، وقد تمتد تأثيراتها السلبية طوال اليوم.

إقرأ أيضاً: 6 حقائق غريبة عن الشعور بالخوف

أفلام الرعب وعلم النفس التطوري:

يبقى السؤال يطاردنا جميعاً، لماذا نخترع هذه الأفلام التي تخيفنا وتبث الهلع في نفوسنا وتجعلنا نعيش حالة من التوتر والقلق؟ ولماذا لا نكتفي بكتابة أفلام تبث السرور والسعادة في نفوسنا بدل حالة حرق الأعصاب هذه التي تبدو أنَّها بلا هدف ولا طائل منها؟

يجيب خبراء علم النفس التطوري عن هذا السؤال، فالإنسان عاش عصوراً مظلمة من الخوف؛ إذ كان يخاف أن يتم التهامه من الحيوانات المفترسة، ولذلك كان يراقب سلوكات بقية الحيوانات وطرائقها الخاصة في الهروب من الافتراس، ويتعلم منها كيف يبقى على قيد الحياة في مواجهة المخاطر التي كانت تحيط به من كل جانب.

انتهت العصور المظلمة وأصبح الإنسان الحديث أقل تعرضاً للخطر، ولديه كل الأسلحة ووسائل الحماية والبيوت القوية التي تؤمن له الأمان والاطمئنان، لكن بقي هذا الخوف الوجودي وبقيت معه حاجته الملحة إلى إنشاء سيناريوهات مرعبة يراقبها عن بعد ومن مسافة آمنة، ويتعلم منها وسائل جديدة للدفاع عن نفسه وحماية كيانه في مواجهة الأخطار المحيطة به لكي يُسكت الخوف الوجودي السحيق الذي ما يزال قابعاً في أعماق لاوعيه.

في الختام:

إن لم تكن من محبي أفلام الرعب أو تراها مخيفة دون طائل، فلربما حان الوقت كي تغير منظورك تجاهها، فعلى ما يبدو أنَّ لها كثيراً من الفوائد والدلالات التي ربما كنت تجهلها قبل قراءة هذا المقال.




مقالات مرتبطة