لماذا لا يعد الجلوس طوال اليوم سيئاً على صحتك كما تعتقد

قُرِنَ الجلوس منذ سنوات عدة بالتدخين؛ من حيث أنَّ كليهما يُعَدَّان قاتلين بطيئين للإنسان. وأول مَن طرح هذه الفكرة هو اختصاصي الغدد الصماء "جيمس ليفين" (James Levine)، في كتابه "انهض" (Get up) الذي صدرَ عام 2014؛ حيث يدَّعي فيه أنَّ حياتنا تقلُّ بمقدار ساعتين في كل ساعة نقضيها جالسين.



ملاحظة: هذا المقال مأخوذ عن المدوِّنة "كريستين بيرن" (Christine Byrne)، وتناقش فيه أفكار أحد الكتب عن موضوعات صحية، ومنها أضرار الجلوس.

توجد في المبنى الذي يضم فصول الدراسات العليا التي أرتادها غرفةً، فيها جهاز مشي، ويُشجَّع الطلاب والموظفون على استخدامه، وسترى في معظم طوابق المبنى مكاتبَ تُستخدَم بوضعية الوقوف، ويُروَّج لها على أنَّها نهاية لبيئات العمل غير الصحية، أو وسيلة لمكافحة آلام الظهر وزيادة الوزن.

لكن قد يكون ادعاء "ليفين" بأنَّ الجلوس يساوي التدخين من حيث ضرره أمراً يصعب تصديقه، فمثل الكثيرين أنا أعمل في مكتب، وعلى الرغم من أنَّني قد أتحرك قليلاً في وقت الفراغ، لكن ما من طريقة لتفادي أنَّني يجب أن أجلس وراء مكتبي خلال جزء كبير من اليوم، وهذا أحد الأسباب الذي يجعل من مساواة أضرار الجلوس بالتدخين أمراً مبالغاً فيه، فلا يحتاج أحد إلى التدخين، لكن جميعنا يحتاج إلى الجلوس.

"الإجهاد" (Exercised) هو عنوان الكتاب الجديد لأستاذ علم الأحياء التطوري في جامعة "هارفارد" (Harvard) "دان ليبرمان" (Dan Lieberman)، الذي يدحض فيه فكرة أنَّ الجلوس عادة مميتة مثل التدخين.

قال "ليبرمان" في الكتاب: "الحجة الأساسية في كتابي هي أنَّنا نجعل الناس يشعرون بالانزعاج بشأن التمرينات والنشاط البدني؛ فنحن نجعلهم يشعرون بالقلق والعصبية والارتباك عندما نقدِّم لهم هذه المعلومات السيئة؛ حيث نضفي عليها قيماً أكبر ممَّا يلزم وأحكاماً كذلك".

ويجادل "ليبرمان" بأنَّ المبالغة بالتبسيط والأساطير حتى لو كانت بنيَّة حسنة قد تضر أكثر ممَّا تنفع؛ وهذا صحيح خصوصاً عندما يتعلق الأمر بهذا القلق من أضرار الجلوس.

الجلوس ليس موضة العصر:

أحد الأسباب الرئيسة لهذا القلق من مخاطر الجلوس هو اعتقادنا بأنَّ الأشخاص في المجتمعات غير الصناعية يجلسون أقل ممَّا نفعل، لكنَّ "ليبرمان" يعترض على هذا لأسباب عدة.

يقول: "نحن نعتقد أنَّ ما تفعله مجتمعات الصيد وجمع الثمار (Hunter-gatherers) مثلاً، لا بد أن يكون مفيداً لنا، لكنَّ هذا الاعتقاد تافه، ومع ذلك، فهو شائع جداً لسوء الحظ، وكمثال على ذلك نظام "باليو" (paleo) الغذائي، وكيف أنَّ الجميع يَعُدُّه مفيداً له، وهذه طريقة سيئة جداً نسعى من خلالها إلى تطبيق التطور على المجال الصحي".

ويشرح "ليبرمان" في كتابه السبب في عدِّ هذه الأفكار سيئة، فأسلافنا لم يتطوروا ليكونوا أصحاء؛ بل تطوروا ليتكاثروا، وقد فعلوا ذلك وحققوا أكبر عدد ممكن من أفراد النسل؛ لذا دعونا نتوقف عن تقليد أسلوب حياتهم باسم الصحة.

ويتابع "ليبرمان": "مع ذلك فإنَّه ليس صحيحاً أن يكون الجلوس أمراً مقترناً بالمجتمعات الصناعية؛ فإذا نظرنا إلى مجتمعات الصيد وجمع الثمار، لوجدنا أنَّ أفرادها يجلسون 10 ساعات في اليوم، ومن ثمَّ فإنَّ الصيادين وجامعي الطعام العاديين، الذين لا يملكون كراسٍ ولا وظائف مكتبية، يجلسون عدد ساعات يساوي ما يجلسه المواطن الأمريكي".

وللعلم، فإنَّ الكثير من الصيادين يجلسون على الأرض بوضعية عادية أو بوضعية القرفصاء، وهذه الوضعية تُشغِّل عضلات أقل من وضعية الجلوس على الكرسي، لكنَّها مع ذلك وضعية مريحة.

الإحصاءات المتعلقة بعدد ساعات الجلوس تعطي أرقاماً متضاربة:

غالباً ما تكون المعلومات عما يُسمى بمخاطر الجلوس مصحوبة بإحصاءات متضاربة عن مقدار الوقت الذي نقضيه بالجلوس خلال اليوم.

يقول "ليبرمان": "إذا تصفَّحتَ الإنترنت، وبحثتَ في "غوغل" (Google) عن عدد الساعات التي يجلس فيها الأمريكيون، فإنَّ النتائج الخمس أو الست الأولى ستقدِّم لك خمس أو ست إجابات مختلفة.

يوجد مقال نشرَته صحيفة "واشنطن بوست" (Washington Post) عام 2019، يزعم أنَّ الأمريكيين البالغين يجلسون ست ساعات ونصف الساعة يومياً، ويليه مقال على موقع "فوربس" (Forbes) في عام 2019 أيضاً، يدَّعي أنَّ عدد ساعات الجلوس هو 15 ساعة يومياً، فالناس يختلقون الأشياء ويختارون البيانات التي تدعم حججهم".

ووفقاً لـ "ليبرمان" فإنَّ البيانات عالية الجودة والتي تعتمد على مقاييس التسارع - المستشعرات الكهربائية التي تقيس التسارع ويمكنها معرفة وقت الجلوس والوقوف والاستلقاء - تعطي نتائج مختلفة جداً في عدد الساعات التي يقضيها الأشخاص في وضعية الجلوس، فبعض الأشخاص يجلسون أكثر من غيرهم وحتى عادات الجلوس للأشخاص تختلف اختلافاً كبيراً من يوم لآخر، خاصةً إذا ما قارنَّا أيام العمل بعطلة نهاية الأسبوع.

ويقول "ليبرمان": "بسبب هذه الاختلافات، فلا يوجد إحصائية واحدة حاسمة تنطبق علينا جميعاً، ومع ذلك هناك متوسط لعدد الساعات التي نكون خلالها في وضعية الجلوس، فمثلاً يجلس الأمريكيون الأصغر سناً حوالي 9 أو 10 ساعات يومياً، بينما يجلس كبار السن بين 12 إلى 13 ساعة في اليوم".

إقرأ أيضاً: 7 نصائح مهمة للجلوس عند استخدام الكمبيوتر

الجلوس في وقت الفراغ أكثر ضرراً من الجلوس في أثناء العمل:

ربما تكون الفكرة القائلة بأنَّ الجلوس ضار مثله مثل التدخين، هي أكثر ما يثير قلق الأشخاص الذين ليس لديهم خيار سوى الجلوس لساعات طويلة في أثناء العمل، لكنَّ كتاب "ليبرمان" يسلِّط الضوء على بعض الأدلة المطمئنة.

وجدت دراسة جماعية استمرت 15 عاماً، وشملت 10000 شخصاً بالغاً في "الدنمارك" (Denmark) أنَّ العمل في وضعية الجلوس غير مرتبط بزيادة مخاطر الإصابة بأمراض القلب، وتوصَّلت دراسة أخرى، شملت 66000 شخصاً إلى نتائج مماثلة في "اليابان" (Japan).

وفي هذا السياق يقول "ليبرمان" في كتابه: "ليس الجلوس بهذا السوء الذي نتخيله، لكن من الممكن أن يكون الجلوس لفترات طويلة ضاراً إذا لم يمارس الشخص بعض النشاط البدني".

فإذا كنت تقود سيارتك إلى العمل صباحاً وتجلس في مكتبك طوال النهار، ثم تعود إلى منزلك لتقضي أمسيتك جالساً على الأريكة؛ فهذا يعني أنَّك لا تقوم بالنشاط البدني كما يجب، لكن من الممكن أيضاً أن تكون شخصاً نشيطاً من الناحية البدنية ومع ذلك، فإنَّك تقضي تسع أو عشر ساعات من يومك جالساً".

النهوض المتكرر مفيد جداً بصرف النظر عن إجمالي ساعات الجلوس:

السبب الذي يجعل بعض الأشخاص يقترح المشي بعد العشاء هو أنَّه يساعد في عملية الهضم؛ وذلك لأنَّنا عندما نُحرِّك عضلاتنا من خلال نشاط حتى لو كان خفيفاً مثل المشي أو الطهي، فإنَّنا نحوِّل جزيئات السكر والدهون الموجودة في مجرى الدم إلى طاقة نستخدمها.

لكن عندما نجلس جلسة متواصلة ولفترات طويلة من الوقت، فإنَّ جزيئات السكر والدهون تبقى في مجرى الدم لفترة أطول، وهذا أحد الأسباب التي تجعل بعض الأشخاص يجادل بأنَّ الجلوس لساعات طويلة يزيد من خطر الإصابة بمرض السكري من النوع 2.

ومع افتراضنا بأنَّ لهذه المخاوف ما يبررها، إلا أنَّك تستطيع ببساطة التخفيف منها؛ وذلك من خلال النهوض بين فترة وأخرى من وضعية الجلوس.

وضَّح "ليبرمان" أنَّه في الدراسات التي نظر فيها الباحثون إلى المدة التي نجلس فيها دون نهوض، وجدوا أنَّ الأشخاص الذين ينهضون كل 12 دقيقة يكون لديهم خطر الإصابة بالأمراض أقل من أولئك الذين يستمرون جالسين لمدة تزيد عن 30 دقيقة، وذلك بصرف النظر عن إجمالي ساعات الجلوس في اليوم.

ويشرح "ليبرمان" الفائدة من ذلك: "السبب هو أنَّك بشكل رئيس، تُحرِّك عضلاتك حتى لو كان نشاطك قليلاً، لكنَّك بالنتيجة تقلل كمية السكر والدهون في مجرى الدم، كما أنَّك تُحفِز عضلاتك لإنتاج المضادات الحيوية الطبيعية".

وهذا ما يقترحه "ليبرمان": "انهض من حين لآخر عن الكرسي واشرب بعض الماء، أو العب قليلاً مع كلبك، أو تحدَّث إلى زميلك بالعمل، فالفكرة هي القيام بأي شيء يجعلك تنهض عن الكرسي لمدة دقيقة أو دقيقتين، فالجلوس ليس بحد ذاته ضاراً إلا إذا كنت تجلس ساعات طويلة دون إجراء أي نشاط بدني".

شاهد بالفديو: فوائد المشي لمدة 20 دقيقة يومياً

المكاتب ذات وضعية الوقوف ليست دواءً سحرياً:

لدى "ليبرمان" مكتب عمل يستخدم وضعية الوقوف، وقال إنَّه يستخدمه وقتاً لا بأس به، وقد استخدم مقياس التسارع ليعرف إجمالي الساعات التي يجلس فيها خلال اليوم، ووجد أنَّها 8 ساعات ونصف الساعة في المتوسط، لكنَّ معظم الناس يسيئون فهم فوائد هذا النوع من المقاعد:

  • أولاً: قبل كل شيء يجب أن نعلم أنَّه لم يتم إجراء أي دراسات عالية الجودة تربط بين استخدام هذه المكاتب وتقليل الإصابة بالأمراض المزمنة.
  • ثانياً: على الرغم من أنَّ بعض الأشخاص يستخدمون هذه المكاتب ليتجنبوا أو يخففوا آلام أسفل الظهر، إلا أنَّه لم يُكتَشَف الارتباط المباشر بين الجلوس - سواء بوضعية مستقيمة أم منحنية - وآلام الظهر عموماً.
  • ثالثاً: يتم التسويق لهذه المكاتب على أنَّها وسائل فعالة لإنقاص الوزن، لكن في الواقع يحرق الوقوف خلال ساعة فقط ثماني سعرات حرارية، زيادة على الحريرات التي تُحرَق في وضعية الجلوس، ومع ذلك، فإنَّ النشاطات التي تحرق عدداً كبيراً من السعرات الحرارية لا ترتبط ارتباطاً وثيقاً بفقدان الوزن.

يقول "ليبرمان": "دعونا لا ندَّعي أنَّهم يمارسون الرياضة".

ولذلك، يُعَدُّ "ليبرمان" أنَّ الوقوف يساوي من حيث فوائده أشكالاً أخرى للجلوس، يكون فيها الجسم أكثر نشاطاً، مثل الجلوس في وضعية القرفصاء أو الجلوس على كرسي ليس له ظهر؛ حيث يجب عليك استخدام المزيد من العضلات لتحافظ على ظهرك منتصباً، ومن ثمَّ فإنَّ فوائد المكتب الذي تعمل فيه واقفاً، هي نفسها الفوائد التي تحصل عليها إذا نهضت عن كرسيَّك من حين لآخر.

إقرأ أيضاً: 7 فوائد للمكاتب التي يستطيع الموظفون العمل خلفها وهم واقفين (وأفضلها)

لا تقتنع بالنصائح الطبية المُبسَّطة والمبالغ بها:

إذاً الجلوس لا يُماثل في مضاره أضرار التدخين كما ادعى "جيمس ليفين"، ومن الممكن أن يكون لديك وظيفة تفرض عليك الجلوس لساعات طويلة لكنَّك تقوم بمقدار جيد من النشاط البدني، وربما لديك برنامج غذائي صحي وتمتنع عن التدخين، وربما عن الشرب حتى؛ وهذا كُله يجعل مخاطر الإصابة بالأمراض المزمنة منخفضة لديك.

لكن لا يقول "ليبرمان" في كتابه إنَّه يجب أن نتخلى عن فكرة أنَّ الجلوس لفترات طويلة قد يكون ضاراً وحسب؛ بل يقول: "صحيح أنَّ النشاط البدني مفيد والإفراط في الجلوس ضار، لكن بدلاً من شرح السبب في ذلك فإنَّ الكثير من خبراء الصحة يبالغون في المساوئ، ويقدِّمون المنافع بشكل مبسط جداً".

إقرأ أيضاً: النصائح العشر لجلوس صحي وآمن أمام الكمبيوتر

المبالغة في الحديث عن مساوئ شيء ما كما هو ليس شيئاً مفيداً؛ فهو يوفر حلاً عملياً للناس، ويزيد من قلقهم، وهذا يضر بصحتهم بلا شك.

ويعتقد "ليبرمان" بدلاً من ذلك أنَّ من واجبنا أن نقدِّم للناس معلومات أكثر وأشمل، خاصةً أنَّه يرى أنَّ الناس يمكنهم التعامل مع مستوى مقبول من التعقيد في المعلومات.

يقول "ليبرمان": "بدلاً من إنشاء جملة واحدة صادمة ومرعبة عن مخاطر الجلوس، فإنَّ الطريقة الأفضل هي شرح كيف ولماذا يكون الجلوس كثيراً أمراً ضاراً، ثم يجب أن نقدِّم بعض الحلول الواقعية، مثل النهوض عن الكرسي مرات عدة، أو ممارسة النشاط البدني، وحتى استخدام المكاتب ذات وضعية الوقوف".

عندما يعرف الناس هذه المعلومات، سيغيرون عاداتهم نحو الأفضل بدلاً من صدمهم بمعلومات مختصرة ومخيفة، تجعلهم يعتقدون أنَّ التغييرات البسيطة لن تكون مُجدية.

المصدر




مقالات مرتبطة