لا تبحث عن "صفقة رابحة" بل ابحث عن "مجال عمل" يناسبك

في إحدى مراحل حياتي، كنت مصمماً على تحرير نفسي من سباق الجري الذي لا ينتهي خلف لقمة العيش؛ لذا اعتدت أن ألتقي بصديقي "أرتورو" (Arturo) مرَّة كلَّ أسبوع لنشارك معاً في مجموعات نقاش بحثاً عن إجابة لسؤال بسيط هو: "أين أجد الصفقة الرابحة؟"، وجُلنا خلال تلك الفترة من مكان إلى آخر مفتشين عن عمل؛ وفي أوقات أخرى، كنَّا نراقب أصدقاءنا ومعارفنا الذين نجحت مشاريعهم أو كان عملهم في نموٍّ، وقد يعني "العمل" أيَّ شيء، كمجال العقارات أو السيارات أو بيع المفروشات أو العلكة أو تنظيف المكاتب.



ملاحظة: هذا المقال مأخوذ عن الكاتب "فرانسيسكو غارسيا بيمينتيل" (Francisco García Pimentel)، والذي يُحدِّثنا فيه عن تجربته في العثور على مجال العمل المناسب له.

ثم كنَّا نحلل ونتناقش بجميع حيثيات العمل حتى "نتوصَّل إلى قرار" بشأنها، مستخدمين مصطلحات وعبارات تعلَّمناها في الدورات التدريبية لإدارة الأعمال؛ فنطرح أسئلة كالتالية: "ما هو عائد الاستثمار في هذا العمل؟" أو "ما نوع المنصة التي يتطلبها؟" أو "ماذا يمكننا أن نتعلَّم من قياس الأداء؟"؛ كنَّا رجال أعمال دون أعمال، ودون منتجات، ودون زبائن، وبالطبع، دون نقود.

ولم يكن سبب ذلك عدم المحاولة من جانبنا؛ إذ خلال تلك السنوات بدأنا، معاً أو كلُّ منا وحده، مشاريع عدة وفشلت جميعها، منها متجرٌ يبيع جميع المنتجات بالسعر نفسه وسلسلة من آلات البيع وتطوير البرامج واستيراد الأثاث ومطعم وجبات خفيفة وحتى مزرعة ديدان، لقد جرَّبنا كلَّ شيء لكنَّنا لم نعثر على "العمل" المناسب، فأين وقعنا في الخطأ؟

"النجاح ممكن في جميع مجالات العمل، لكن ليست جميع المجالات مناسبة لك".

قصتي ليست فريدة من نوعها؛ حيث يعيشها آلاف الشباب والبالغين حول العالم كلَّ يوم، فكثيرون هم من يرغبون في إطلاق عملهم الخاص بعد حضور دورة تدريبية أو ندوة، ثم يبحثون عن العمل بين أصدقائهم ومعارفهم أو مع الأشخاص الذين ألقوا الندوة.

خلال مشوارك المهني، كل عمل تراه هو مجال محتمل لإطلاق مشروع، بدءاً من متجر الإلكترونيات والمخبز ووصولاً إلى الرسم على الجدران وصنع اللافتات، جميعها أعمال وصفقات قد تنجح، لكن ليست جميعها مناسبة لك؛ وبعضها من غير شك مربح أكثر من غيرها، وبعضها يتمتع بمزايا مثل فوائد أكبر أو مبيعات أعلى أو عوائد أفضل.

لكن احذر، فالنقود ليست العامل الوحيد الذي يجب أن تفكر فيه عند اختيار عمل أو بدء مشروع، وليست الأهمَّ حتى؛ إذ إنَّ "عائد الاستثمار" (ROI) مقياس ممتاز للاستثمار لكن ليس لبدء المشاريع؛ إذ عليك أن تبحث عن المشاريع في مكان آخر، وبحثك سيقودك إلى نفسك؛ فهناك آلاف المشاريع وملايين الأعمال المختلفة، لكن لا يوجد شخص يحمل اسمك وحمضك النووي غيرك أنت، فنحن جميعاً مميزون في مختلف النواحي، والأهمُّ من ذلك نتمتع جميعنا بقدرة تفرقنا عن الآخرين، وهي الموهبة.

الخطوة الأولى، "الموهبة":

الموهبة هي الخطوة الأولى نحو بدء المشروع؛ فهي مجموعة القدرات والمهارات الفطرية التي وُلدنا بها، وهي هدية وُهِبْناها ولم نخترها، لكن يقع على عاتقنا صقلها وتعزيزها واستثمارها.

أنت تتمتع بمهارات خاصة، لكن عليك تحديدها؛ لذا فكر أيُّ الأمور يسهل عليك فعلها أكثر من الآخر؟ وما هي الأمور التي تتقنها بالفطرة؟ وما هي الأمور التي يمدحك الآخرون عليها؟ وفي أيِّ المواد تفوَّقت خلال دراستك؟ ربما تكمن موهبتك في إجراء الحسابات أو الكتابة أو إقامة العلاقات، أو ربما في الرسم أو الرياضة؛ فكلٌّ منا يتمتع بموهبةٍ واحدةٍ أو أكثر، لكن لا أحد على الإطلاق لديه جميع المواهب.

الموهبة جزء منا، وإن اخترنا عمل أو مهنة تتوافق مع موهبتنا، سيسهل علينا تحقيق النجاح والتميُّز والنمو؛ وقد يخبرك بعض الأشخاص أنَّ "الاجتهاد أهمُّ من الموهبة"، لكنَّهم مخطئون؛ إن لم تكن موهوباً فلا يهم كم تبذل من الجهد، لن تكون الأفضل في المجال مهما حاولت، قد يصبح عملك "مقبولاً" أو "يفي بالغرض"، لكن لن تكون الأفضل؛ لذا دعني أوضِّح ما أقصده عبر النقاط التالية:

  • موهبة دون اجتهاد: هي موهبة مهدورة.
  • اجتهاد دون موهبة: يعطي نتاجاً متوسطاً.
  • الموهبة مع الاجتهاد: هنا تكمن الاستفادة الفعلية.

لهذا، أوَّل خطوة نحو بدء عمل أو اختيار حياة مهنية هي أن تنظر إلى المرآة وتسأل نفسك من أنا؟ وما هي مواهبك الفطرية؟ قد يكون الجواب أيَّ شيء، فيمكن تحويل جميع المواهب إلى أعمال، الفنية منها والرياضية والعلمية واليدوية والذهنية والاجتماعية، فهنالك وفرة من النقود لمن يضع نفسه في مكانه الصحيح، أي من يجد "العنصر" (element) الخاص به.

إقرأ أيضاً: 5 طرق تساعدك لإيجاد فرصة العمل المناسبة لك

الخطوة الثانية، "إيجاد العنصر الخاص بك":

مفهوم آخر شائع عند البحث عن عمل هو "افعل ما تحب" أو "اتبع شغفك" أو ما يشابهها، فكما يقولون، إن كنت تعمل على شيء تحبه، فلن تشعر بجهد العمل؛ فهل تتفق مع هذا الرأي؟

السعي خلف شغفك هام عند اختيار مجال عملك لكنَّه ليس الأهم، فالأهم هو، كما ذكرنا، العثور على موهبتك؛ لذا الخطوة الثانية بعد تحديد موهبتك هي اتباع شغفك حتى تصل إلى "عنصرك"، أي أن تضع نفسك في أفضل ظروف تسمح لك بتطوير نفسك وصقل مواهبك الفطرية وشخصيتك؛ فحين تشعر بالشغف تجاه شيء تستطيع العمل عليه لساعات متواصلة دون كلل أو ملل، وحتى إن كان عملاً دون أي عائد؛ وذلك لأنَّك تستمتع به وتحبه فيمرُّ الوقت دون أن تلاحظ، ووفقاً للمحاضِر والمؤلف البريطاني "كين روبنسن" (Ken Robinson): "عنصرك هو حيث تلتقي موهبتك مع شغفك".

اتباع شغفك وحده خطر وقد يَنتج عنه عواقب وخيمة، فحين يقول أحدهم "حلمي أن أصبح مطرباً" دون أن يتمتع بالصوت العذب، أي الموهبة، فلا يهم كم "يحب" هذا الشخص الغناء، ولن يصل إلى الشهرة أبداً؛ إذاً لن تتمكن من النجاح في مهنتك أو عملك أو مهمَّتك بعيداً عن عنصرك.

قد يبدو كلامي قاسياً لكنَّه واقعي لا أكثر، فحين تعشق لعب كرة القدم أو كرة السلة، لن يفيدك هذا الشغف بشيء إن كنت أخرقاً مثلي، فالشغف دون موهبة لن يوصلك إلى النجاح؛ بل قد يصبح مصدر إحباط وهزيمة دائمة؛ لذا أكرر ما قلته سابقاً: لا تسعى إلى عمل تحبه؛ بل ابحث عن عمل ضمن نطاق عنصرك، أي عند تقاطع مواهبك مع شغفك.

وينطبق الأمر ذاته على اتباع الموهبة دون وجود الشغف اللازم لتتمكن من العمل ليل نهار وباجتهاد ومرونة؛ لأنَّ ذلك سيؤدي إلى تخلِّيك عن حياتك المهنية في النهاية؛ دعني أوضِّح الأمر أكثر:

  • موهبة دون شغف: تعني وظيفة مملة أو مشروعاً فاشلاً.
  • الشغف دون الموهبة: ينتج عنه هواية مسلية لا أكثر.
  • الموهبة مع الشغف: هذا هو عنصرك والمكان حيث يمكنك أن تنمو.

هل تبحث عن عمل؟ إذاً ابحث عن مجال يناسبك أنت؛ حيث يمكن أن تتميز بفضل موهبتك، وتستطيع المواظبة عليه في الظروف القاسية بفضل شغفك.

الخطوة الثالثة، "الطَّلَب":

للعديد من السنوات كان لدي معارف في الأوساط الفنية، مثل الشعراء والكُتَّاب وممثلي المسرح والموسيقيين؛ حيث كان العديد منهم يشعرون بالاستياء لأنَّه لا يوجد "سوق" لمواهبهم، فكانوا يواجهون صعوبة في الحصول على لقمة عيشهم، وانتهى بهم المطاف بالتخلي عن "عنصرهم" والبحث عن وظيفة لإعالة أنفسهم، لكنَّهم بهذا فوَّتوا فرصة رائعة؛ ففي العديد من الحالات، ليست المشكلة أنَّ الشخص لم يعثر على عنصره، فهؤلاء كانوا يحبون الفن وبارعون فيه، لكنَّهم لم يحققوا النجاح، فلمَ حدث ذلك؟

تكمن الإجابة في الخطوة الثالثة؛ وذلك لأنَّ الشرط الأساسي لكلِّ عمل هو العثور على سوق لعرض نتائج عملك، وهو أمر يستطيع أي شخص تعلُّمه حين يصمم على ذلك، لكن يتجاهله الكثيرون؛ وصدقني حين أخبرك، من بين معارفي فنانون ناجحون إضافة إلى محامين وفلاسفة وتجَّار؛ لذا قبل التخلي عن عنصرك، توقف واسأل نفسك: "هل هناك أحد يشاركني الشغف والموهبة، وناجح في العمل بالوقت نفسه؟".

كما يقول المؤلف "سيث غودين" (Seth Godin) في كتابه "أساسيات" (Linchpins): "تعلُّم مهارة التجارة لا يعني أنَّك ستفقد جوهر عملك، وقد يتطلب العثور على سوقٍ تعديل منتجك أو البحث عن منصات مناسبة أو الانتقال للعيش في قارة أخرى أو إعادة التفكير في حياتك المهنية بأكملها؛ فالعالم لن يكافئك لأنَّك اخترت العمل على أمر تحبه؛ ولهذا يفشل العديد من الفنانين والمخترعين والرياضيين؛ إذ يجب أن تخطو تلك الخطوة الإضافية التي يتجاهلها العديدون، وأن تصمِّم عنصرك كعمل وليس كهواية فقط".

سيتضمن ذلك مهام "مملة"، مثل رسم الخطة ووضع الميزانية والتوظيف والترقية وتعيين محاسب ودفع الضرائب، وهنا يفشل العديدون؛ وذلك لأنَّهم لا يرغبون في تكبُّد عناء كلِّ هذا؛ بل يريدون عملاً ممتعاً كل الوقت وهو أمر لا وجود له؛ أي باختصار:

  • عنصر دون سوق: ينتج عنه الإحباط والتخلي عن العمل.
  • سوق دون عنصر: ينتج عنه الحيرة والملل.
  • السوق مع العنصر: ينتج عنهما العمل المثالي.
إقرأ أيضاً: كيف تبحث عن وظيفتك من خلال لينكد إن؟

يؤثر ترتيب المقومات في المنتج:

أنصحك باتباع الخطوات السابقة وبالترتيب ذاته عند البحث عن عمل، فالمال موجود في كل مكان، لكن عليك أن تكتشف أولاً من أنت وماذا تريد، وأن تعثر أخيراً على الأدوات اللازمة لتنتج مواد ذات قيمة ومفيدة للسوق.

يستوعب مزيجك الفريد من الموهبة والشغف عشرات احتمالات العمل، لكن قبل أن تختار واحداً، دوِّن قائمة من 10 إلى 15 احتمالٍ ضمن مجال عنصرك، على سبيل المثال: إن كنت رساماً، قد تعمل في تصميم الكتب المصوَّرة أو التعليم أو تفتح معرضاً أو تخترع نظام تلوين للأطفال؛ لذا لا تنتقِ أوَّل أو أسهل خيار أو الأكثر شيوعاً؛ بل ابتكر وفكر في طرائق جديدة لتعمل ضمن عنصرك وتطلق المشاريع ولا ترضَ بأقل من ذلك.

الخطوات الثلاث وبذلك الترتيب ضرورية للعثور على أنسب عمل لك، وأنا واثق أنَّ في إمكانك ذلك، لكن كبداية لا تبحث عن مجرد "عمل" عشوائي؛ بل اعثر على "مجال عمل" ملائم لك، كي تعيش حياة ممتعة، وتساعد الآخرين، وتجني المال بالوقت نفسه، ويصبح لحياتك معنى يتعدى انتظار موعد استلام الراتب؛ وحين تعثر على عملك المثالي، يمكنك أن تخدم قضايا وتساعد أشخاص آخرين، فالنقود ضرورة لكنَّها ليست الهدف من الحياة؛ لذا اعثر على بيئتك، وحوِّلها إلى عمل، وساعد الآخرين؛ ألا توافقني الرأي بأنَّ تلك نظرة مختلفة إلى النجاح؟

 

المصدر




مقالات مرتبطة