كيفية تحويل النزاعات السامة إلى نزاعات مفيدة

لقد مررنا جميعاً بموقفٍ خضنا فيه جدالاً محتدماً مع شخصٍ ما، فقد شعرنا بالتوتر الشديد وحاولنا التفكير فيما سنقوله دون أن نحاول الإنصات إلى الطرف الثاني، وحتى عندما تنتهي المشكلة فإنَّها تبقى عالقة في أذهاننا، ونستمر في الحديث عنها لساعات وأيام وأسابيع، هذا ما أسمته الصحفية "أماندا ريبلي" (Amanda Ripley): "النزاع الشديد".



وفي هذه الأيام، يمكن الانزلاق إلى هذه النزاعات في أثناء تصفُّح وسائل التواصل الاجتماعي أو عند إلقاء نظرة خاطفة على الأخبار، فغالباً ما نشعر بأنَّ بلدنا بأكمله عالق في هذه النزاعات؛ ولهذا السبب كتبت "ريبلي" كتابها الجديد، "النزاع الشديد: لماذا نعلق فيه وكيف نخرج منه" (High Conflict: Why We Get Trapped and How We Get Out).

وتتحدث فيه عن الاستقطاب الشديد الاجتماعي والسياسي الذي يجتاح العالم، كما أنَّها تقدِّم أيضاً دروساً خالدة للتغلب على النزاعات، سواء كانت شخصية أم مهنية أم سياسية.

ولقد تحدَّثتُ مع "ريبلي" في حدث الأسبوع الماضي الذي شارك في استضافته مركز "جريتر جود ساينس سنتر" (Greater Good Science Center)، ومنظمة "بيركلي للفنون والآداب" (Berkeley Arts & Letters)، وهذه نسخة من الحديث الذي دار بينها وبين المُحرِّر "جيسون مارش" (Jason Marsh):

"جيسون مارش" (Jason Marsh): ما الذي دفعك إلى تأليف كتاب يمثِّل تحذيراً بشأن أنواع معينة من النزاع؟

"أماندا ريبلي" (Amanda Ripley): لقد بدأتُ بهذا المسعى للعثور على أمثلة لأشخاص علقوا في نزاع سيئ للغاية وخرجوا منه، فقط للعثور على بعض الأمل، فحينما سألتُ نفسي عن أنماط تلك النزاعات أدركت على الفور أنَّني كنت أطرح السؤال الخطأ؛ ذلك لأنَّ الأمر لا يتعلق بالخروج من النزاع؛ فالنزاع يمكن أن يكون جيداً وصحياً، كما أنَّه يتعلق بالخروج من النزاع الشديد.

يمكن أن يبدأ النزاع الكبير بداية صغيرة، لكنَّه يصبح نوعاً من العداء بين الطرفين، ويصبح مرهقاً تماماً ويزداد مع مرور الزمن، فغالباً ما يجعل كل شيء تفعله للخروج من النزاع الشديد الأمر أسوأ؛ إذ إنَّه لا يعمل وفقاً لقواعد الخلافات العادية، ويصبح نزاعاً دائماً.

إنَّه يعطي شعوراً بأنَّك عالق في نزاع شديد وتمرُّ بالمعارك نفسها مراراً وتكراراً، ففي أي وقت تقسم فيه البشر إلى قسمين متعارضين، فإنَّ ذلك يبرز أسوأ غرائز النزاع لدينا. وكان أسوأ نمط رأيتُه في كل نزاع شديد هو أنَّ كل شخص متورط يبدأ بتقليد سلوك أعدائه في النهاية، ويبدؤون بفعل الشيء الذي تشاجروا لإيقافه، دون أن يدركوا ذلك دائماً.

فهناك عدد قليل من الشروط التي يبدو أنَّها تخلق نزاعاً كبيراً، وأحدها هو وجود ما أسميه "رجال الأعمال في النزاع"؛ وهذا في الأساس شخص أو شركة تستغل النزاع لتحقيق غاياتها الخاصة؛ إذ إنَّه الشخص الذي يستفيد في كل الأحوال، فيجد المعنى والصداقة والتواصل في النزاع، أما النزاع الجيد، يشعِرك بالغضب والإحباط، ويمكن أن يكون شديداً ومحتداً، ولكن هناك شعور بأنَّ له غاية.

أعلم أنَّ هذا يبدو نوعاً من التساهل، لكن يمكنني معرفة الفارق؛ ففي حالة الخلاف الجيد، هناك لحظاتٌ يُشِعُّ فيها الفضول ويُطرَح مزيد من الأسئلة، ويميل الأشخاص إلى ترك النزاع مُرضياً، حتى لو لم يوافقوا، وهذا ليس الهدف الوحيد للنزاع. أعتقد أنَّنا نحتاج إلى النزاعات الجيدة أكثر بكثير في هذا العالم، والتقليل من النزاعات الشديدة.

"السيد مارش" (Mr. Marsh): ما هي الأسئلة التي يمكن أن نطرحها على أنفسنا لفهم ما إذا كنَّا محاصرين في نزاع شديد أو نزاع جيد؟

"السيدة ريبلي" (Ms. Ripley): بعض الأسئلة التي يجب أن تطرحها على نفسك هي: هل يُسبِّب لي هذا النزاع الأرق؟ وهل أشعر بالسعادة عندما يعاني الشخص الآخر أو الطرف الآخر، حتى لو لم أستفد من ذلك؟ وهل أجد أنَّه عندما أناقش هذا النزاع حتى مع الأشخاص الذين يتفقون معي، أشعر بالإحباط عندما تنتهي المحادثة، مثل عدم وجود أحد ينير أفكار الطرف الآخر أو يوضِّح المسائل له في هذه المرحلة؟

"السيد مارش" (Mr. Marsh): في كتابك عن النزاع، لم أفكر مطلقاً في أنَّني قد أقرأ الكثير عن أواني الفخار؛ لذا أخبريني عن استعارة الفخار في الكتاب.

"السيدة ريبلي" (Ms. Ripley): بصفتي راوية قصص، بالنسبة إليَّ، فإنَّ إحدى أكثر الأشياء الرائعة التي يجب إدراكها هي أنَّ معظم النزاعات لا تتعلق بما يبدو أنَّها تتعلق به؛ ذلك لأنَّهم يناقشون في الواقع أموراً أعمق، وهذا ما أسميه "التفسير": السبب الخفي للنزاع الذي لا يتحدث عنه أحد.

فعلى سبيل المثال: تحدثَّتُ عن زوجين كانا في خلاف شديد يتعلَّق بمَن سيحصل على آنية الفخار في أثناء تقسيمهما لممتلكاتهما بعد طلاقهما، وفي النهاية، إذا طرحتَ الأسئلة الصحيحة، فستكتشف أنَّه عندما كانت الزوجة طفلة، كان والداها يطهيان وجبة عائلية كل يوم أحد في وعاء الفخار.

فبالنسبة إليها، شعرت بالحنين، وكان الزوجان قد شطباه من سجل زفافهما، ولم يستعملاه أبداً، ولكن بالنسبة إليها، كان ذلك يعني شيئاً لم تحققه بعد ولكنَّها أرادت ذلك، وأراده الزوج لأنَّها أرادته بشدة.

ولم يكن يريد الطلاق حتى، لكنَّها أرادته؛ لذلك كان هذا شيئاً يمكنه أن يسبب نزاعاً، وكثيرٌ من هذه الأسباب غير مفهومة خلال النزاع، ومن الهام أن نلاحظها، ففي بعض الأحيان تنشغل في محاولة كسب الخلاف بحيث لا تسأل نفسك، ولا يسألك أحد، هذه الأسئلة.

إقرأ أيضاً: إدارة النزاع: كيف تحول النزاعات إلى فرص؟

والآن، إذا كنتُ في جدال مع زوجي، فإنَّنا نتحدث حرفياً عن الفخار، فيمكننا تخطِّي بعض الخطوات ونفكر: ما الذي نتجادل بشأنه بالفعل؟ ونأمل أن نصل إلى المشكلة الحقيقية بسرعة.

"السيد مارش" (Mr. Marsh): ما هي الاستفادة التي وصلتِ إليها من بحثك الذي طبَّقتِه على حياتك الشخصية؟

"السيدة ريبلي" (Ms. Ripley): الشيء الذي غيَّر ما أفعله كل يوم هو أسلوب يسمى "التكرار من أجل الفهم"؛ وهو شكل من أشكال الاستماع النشط الذي علَّمني الوسيط "غاري فريدمان" (Gary Friedman) في منظمة شارك في تأسيسها في "خليج سان فرانسيسكو" (San Francisco Bay Area) تُدعى "مركز التفاهم في النزاع" (The Center for Understanding in Conflict).

ولقد تدرَّبتُ معتقدة أنَّني أعرف كيف أنصت تماماً؛ فقد أجريت مقابلات احترافية مع أشخاص لسنوات عدة، ولكن اتضح أنَّك تتصرف وكأنَّك تنصت وتومئ برأسك وتبتسم وتذهب، ولكنَّك في الواقع لا تنصت، ويمكن للناس معرفة الفارق.

والتكرار يعني الإنصات حقاً للشخص، ومحاولة استخلاص ما يقوله بلغة أكثر أناقة، فأنت لا تحتاج إلى تكراره حرفياً، لكنَّك تحاول فهم جوهر ما هو هام بالنسبة إليه، وليس ما هو هام بالنسبة إليك، فهذا الأمر هام عليك التحقق مما إذا كنت قد فهمتَه فهماً صحيحاً.

إنَّ الفضول هو المفتاح، لكن يجب أن يكون حقيقياً، وعندما تسأل، حتى لو أخطأتَ في الأمر، سيصحح الناس كلامك وستستمر في التعمق أكثر فأكثر، ويتغير تعبيرهم ووضعهم بالكامل، حتى لو لم يكن ذلك عاطفياً؛ فإنَّهم ممتنون جداً للشعور بأنَّك تحاول فهمهم، وهو أمر مؤثر لأنَّه يكشف ندرة حدوث ذلك بالفعل.

إقرأ أيضاً: بناء العقلية الفضولية!

وهناك كثير من الأبحاث الرائعة عن هذا الموضوع؛ فعندما يشعر الناس بأنَّهم مسموعون، فإنَّهم ينفتحون، ويقولون أشياء أكثر دقةً وتعقيداً، وأشياء أقل مبالغة وتطرُّفاً، ومن المرجَّح أن يتقبَّلوا المعلومات التي لا يريدون سماعها.

أفعل ذلك مع طفلي طوال الوقت؛ فهو أمر رائع بالنسبة إلى الأهل لأنَّه يخرجك من فخ التفكير في أنَّه يتعين عليك إصلاح كل شيء أو كسب الجدال، ففي الغالب ما يريده الناس هو أن ينصت إليهم الآخرون، حتى يتمكنوا من سماعهم ويتقدَّموا في النزاع.

"السيد مارش" (Mr. Marsh): أنتِ تكتبين عن كيف أنَّ الاعتراف بتعقيد القضايا يمكن أن يساعد على التخفيف من حدة النزاع أيضاً، فهل يمكنك مشاركة بعض هذه النتائج؟

"السيدة ريبلي" (Ms. Ripley): يُدير "بيتر كولمان" (Peter Coleman) وشركاؤه شيئاً يسمى "مختبر المحادثات الصعبة" (Difficult Conversations Lab) في "كولومبيا" (Columbia)؛ إذ يجمعون أشخاصاً يختلفون بشدة في موضوعات مثيرة للجدل حقاً، سواء كان ذلك بشأن الإجهاض أم ضبط السلاح.

ولديهم محادثة مسجلة مدتها 20 دقيقة يحاولون فيها الخروج ببيان يمكن لكل منهم وضع أسمائهم عليه علناً، وأحياناً يكون هذا الأمر سيئاً؛ إذ يجب عليهم إنهاء المحادثة قبل انتهاء الـ 20 دقيقة، لكن في أحيان أخرى تسير الأمور على ما يرام.

يشعر الناس بالغضب والإحباط، لكنَّهم أيضاً يمرون بلحظات من الفضول والفكاهة والتفاهم، ويسألون مزيداً من الأسئلة، وفي تحليل بيانات هذه التسجيلات، يمكنك أن ترى حرفياً تضارباً جيداً وتعارضاً كبيراً، وفي حالة النزاع الشديد، تتكرر مشاعر الغضب والإحباط، وفي حالة النزاع الجيد، يكون الأمر أشبه بالشعور بكثيرٍ من المشاعر الجيدة والسيئة.

وما وجدوه هو أنَّه في إمكانهم فعلاً إحداث نزاعات جيدة من خلال جعل الناس - قبل دخولهم - يقرؤون قصة إخبارية قصيرة يُحكى فيها عن جدل كبير مختلف لكنَّهم يعترفون اعترافاً صريحاً بالتعقيد.

وقالت إنَّ هناك أكثر من جانبين لهذا النقاش، فإذا طرحتَ أسئلة الاقتراع طرحاً مختلفاً، فستحصل على إجابة مختلفة، وأحياناً يكون لدى الناس تناقض داخلي فيما يخص هذا الموضوع؛ لذا يجب تقبُّل الحقيقة؛ وهي أنَّه لا يمكنك تقسيم ملايين الأشخاص إلى مجموعتين، لا يعمل البشر بهذه الطريقة، ويجب الاعتراف بأنَّ الأمر يبدو مُعدياً، وأنَّ هذا التعقيد انتقل إلى المحادثة.

"السيد مارش" (Mr. Marsh): كيف يمكن أن يكون لدينا نزاع جيد مع شخص يتمتع بسلطة وقوة أكبر منا، ولا يستجيب لحل النزاع المثمر أو يروِّج له؟

"السيدة ريبلي" (Ms. Ripley): هناك أشخاص لا يريدون أن يمتلكوا نزاعاً جيداً، ويسعون إلى النزاع الشديد، فقد استفادوا كثيراً منه؛ ربما الشعور بالقوة أو الانتصار أو الصداقة الحميمة أو المعنى، وغالباً ما يكون المعنى والاهتمام، وخاصةً عندما يكون هناك اختلاف في القوة، فهذه مشكلة لا يمكنك إصلاحها في بعض الأحيان.

وفي أي نزاع، يمكنك تغيير ما تفعله؛ إذ يمكنك وضع حدود، ومحاولة إبعاد نفسك عن الأشخاص الذين يعانون من نزاع كبير ورجال الأعمال في النزاع، ولكن لا يمكنك التحول إلى نزاع جيد مع شخص لا يريد شيئاً مختلفاً، وهذا شيء مؤلم.

لحسن الحظ ما اكتشفتُه، هو أنَّ الناس يتغيرون، ويمكن أن يكون الناس بالفعل في نزاع شديد أو مفتونين تماماً بنظريات المؤامرة أو حتى الأيديولوجية المتطرفة، ثم يتغيرون؛ لذا إنَّ جزءاً من التحدي هو: إلى متى يمكنني البقاء في حياة هذا الشخص، إذا كنت مهتماً به حقاً، على أمل أن يكون هناك يوماً ما فرصة؟

لقد كتبتُ هذا الكتاب وأنا مترددة جداً، لم أكن قط شخصاً خبيراً في الحوار والسلام، وخرجت إلى الجانب الآخر مقتنعة تماماً بفكرة أنَّ هناك طريقة لحل نزاع جيد، وكنت جزءاً منه، ويكاد يكون شعوراً خارقاً، أن تُتَحدَّى وأن تتحدى الآخرين دون أن تفقد كرامتك وإحساسك بالإنسانية.

المصدر




مقالات مرتبطة