كيف يواجه القادة ثقافة الاحتراق الوظيفي؟

قرأتُ مؤخراً مقالاً منتشراً على نطاقٍ واسعٍ لعاِلم النفس "آدم غرانت" (Adam Grant) من "كلية وارتن" (Wharton School) الذي قال إنَّ التضحية بالصحة والحياة الاجتماعية والهوايات الترفيهية من أجل العمل لم تكن أبداً أمراً يدعو إلى الفخر كما كان يعتقد المجتمع لفترة طويلة من الزمن؛ بل على العكس فلطالما تسبَّبت لنا فكرة تفضيل العمل عن الحياة الاجتماعية بالإصابة بالاحتراق الوظيفي.



ملاحظة: هذا المقال مأخوذ عن الطبيب البيطري "نيكولاس نيلسون" (Nicholas Nelson)، والذي يخبرنا فيه عن تجربته في مواجهة الاحتراق الوظيفي.

يجب عليَّ أن أعترف بأنَّني جزء من هذا الجيل الذي يعتقد أنَّ العمل لوقت متأخر من الليل هو الطريقة الوحيدة والصحيحة للتقدم، قضيتُ معظم حياتي، مثل العديد من القادة والمديرين التنفيذيين للشركات ورجال الأعمال، أعمل إلى حد الإرهاق، ولكنَّ التفاني بالعمل إلى هذا الحد يشكِّل سابقة خطيرة، سابقة تؤدي إلى مستويات عالية من الإجهاد، وحتى إنَّها تسبب أمراضاً جسدية.

قدَّم رائد الأعمال "إيلون ماسك" (Elon Musk) في مقابلة مع "صحيفة نيويورك تايمز" (The New York Times)، تفاصيل عيد ميلاده السابع والأربعين الذي قضاه محبوساً في مصنعه حتى آخر الليل، فعلى الرغم من أنَّه يوم ميلاده؛ إلا أنَّه كان يوماً آخر عادياً في أسبوع عمل آخر لمدة 120 ساعة بالنسبة إلى "ماسك"، قد يقول بعض الأشخاص إنَّ هذا هو الثمن الذي يدفعه لكونه رائداً متعدد المسؤوليات وقد صنع ثورة إلكترونية في عالم السيارات، لكن أنا أقول إنَّه ثمنٌ باهظٌ جداً.

المشكلة في الاحتراق الوظيفي:

المشكلة في إرهاق نفسك لدرجةٍ كبيرة في العمل هي أنَّه سيحين وقت يؤدي فيه هذا التفاني الكبير في العمل إلى نتائج عكس ما كنت تطمح إليه؛ إذ ستنخفض إنتاجيتك بدلاً من تحقيق المزيد، وستعاني من التعب بدلاً من الشعور بالصحة والعافية.

فحص الباحثون في "الاستطلاع الوطني لصحة السكان" (National Population Health Survey) الذي أجرته "هيئة الإحصاء الكندية" (Statistics Canada)، الارتباطات بين ساعات العمل الطويلة والاكتئاب والتغيُّر في سلوكاتٍ صحيَّةٍ مُعيَّنة.

وقد أظهرت النتائج أنَّ النساء اللواتي يعملن لساعاتٍ طويلة قد زادت احتمالات تعرضُهنَّ للاكتئاب، في حين زادت لدى الرجال مخاطر زيادة الوزن غير الصحية، وكان كلٌّ من النساء والرجال أكثر عرضة لازدياد رغبتهم في التدخين ازدياداً يتناسب مع زيادة ساعات العمل، ومع ذلك، وُجِد أنَّ النساء، على وجه التحديد، معرَّضاتٌ لخطر متزايد للإدمان.

تشهد مهنة الطب البيطري - وهي مهنة كرستُ نفسي لها لأكثر من 25 عاماً - معدلات انتحار عالية بين ممارسيها بشكل ينذر بالخطر؛ حيث أظهر الباحثون في دراسة مشتركة نشرتها "مراكز السيطرة على الأمراض والوقاية منها" (Centers for Disease Control and Prevention) و"الجمعية الأمريكية للطب البيطري" (American Veterinary Medical Association) في عام 2019، أنَّ الطبيبات البيطريات كُنَّ أكثر ميلاً إلى الانتحار بمقدار 3.5 مرات - بينما كان الأطباء البيطريون أكثر ميلاً إلى ذلك بمقدار 2.5 مرات - مقارنةً بسكان الولايات المتحدة عامةً.

وواصل الباحثون الاستشهاد بأمثلة من العديد من الضغوطات التي قد تساهم في ذلك، والتي تشمل القتل الرحيم للحيوانات الأليفة، والاحتراق الوظيفي، والتعب العاطفي، وضعف التوازن بين العمل والحياة، والتحرش الإلكتروني؛ وهي ظاهرة حديثة نظراً للتطور في تقنيات التواصل الاجتماعي.

وعلى الرغم من أنَّ الأبحاث تُظهر باستمرار أنَّ ضعف التوازن بين العمل والحياة يضرُّ بإنتاجيتنا وصحتنا الجسدية والذهنية، إلا أنَّ مليارات الأشخاص في العالم يواصلون المشاركة في السباق نحو الإنهاك الذاتي، فلماذا إذاً لا نستطيع الوقوف ضد هذا التيار؟

مواجهة التوتر والاحتراق الوظيفي:

كان العمل في سابق الزمان ينتهي عندما تغادر مكتبك، لكن يقوم معظمنا اليوم بتفقُّد رسائل العمل والرد عليها بعد ساعات العمل المحددة من يوم عملنا، حتى إنَّ بعض الأشخاص يفضِّلون اليوم الرد على رسائل العمل بعد ساعات من انتهاء عملهم، ربما لشعورهم بأنَّ هذه الطريقة تسمح لهم بالتغلب على منافسيهم، أو قضاء المزيد من الوقت مع العائلة في أثناء متابعة مهام العمل.

يختلف الأمر بين أن تكون خارج أوقات العمل وبين أن تكون مستعداً دائماً لأي طلب من العمل، ووفقاً لدراسة أُجرِيَت عام 2016، تبيَّن أنَّ مستويات الكورتيزول ترتفع عند الأشخاص المضطرين إلى الاستجابة لأي طلب من العمل بشكل أسرع في الصباح من هؤلاء الأشخاص غير المطلوب منهم أن يكونوا متاحين، حتى لو لم ينتهي بهم المطاف إلى العمل في ذلك اليوم.

الكورتيزول هو الهرمون المسؤول عن تنظيم رد فعل الجسم على الإجهاد ورفع مستويات التوتر، وعموماً، يصل تركيز الكورتيزول إلى ذروته عندما نستيقظ وينخفض ​​طوال اليوم، لكن يعتقد العلماء أنَّ الضغوطات اليومية يمكن أن تتداخل سلباً مع هذه الدورة.

على سبيل المثال: إذا كنت تعاني من الإجهاد المزمن، فسوف تظل مستويات الكورتيزول لديك مرتفعة طوال اليوم، أو في بعض الحالات، سيظل منخفضاً في مواجهة حدث مرهق؛ مما يعني أنَّك تعاني من "متلازمة الاحتراق الوظيفي"، وهي حالة تسبقها عادةً فترة من الإجهاد المطوَّل.

يجد المحترفون اليوم صعوبة أكبر في الانفصال العقلي عن العمل؛ نظراً لكونه نتاجاً لثقافة "الاستعداد دائماً لأي شيء" (always on, always connected)، ومن ثمَّ ترتفع مستويات التوتر، وقد أظهرت إحدى الدراسات الحديثة أنَّ ما يقرب من ثلثي الأمريكيين يحتاجون إلى المساعدة على تخفيف التوتر، وعلى الرغم من أنَّنا لا يمكننا التحكم بجميع العوامل التي تساهم في التوتر، إلا أنَّنا نستطيع التحكم بكيفية تفاعلنا معه.

إذا كانت أذهاننا في حالة قلقٍ دائم بشأن تحديات العمل أو الهموم المنزلية، فليس لدينا وقت لاستيعاب ما يجري في الوقت الحاضر، وتحليل المعلومات، والتفكير، وتمهيد الطريق المناسب للتقدُّم، ويحدث هذا عندما تنشط "الاستجابة للضغط"، وإذا لم تعد الأجهزة الجسدية المتورطة في الإجهاد إلى حالتها الطبيعية، فقد تكون التأثيرات خطيرة.

يسمح لنا التحكم باستجابتنا لضغوطات الحياة اليومية بأن نبقى جادين في قيادتنا وواضحين في صنع القرار، وتسمح لنا أيضاً بأن نعبِّر تعبيراً أفضل عن ذواتنا؛ الأمر الذي يجعل إنتاجيتنا أفضل.

إقرأ أيضاً: أهم النصائح للتخلّص من التوتر والاضطراب خلال ساعات العمل

ماذا يمكننا أن نحارب ثقافة الاحتراق الوظيفي؟

فيما يأتي بعض الطرائق التي يمكننا بها - كشركات وقادة وأفراد - محاربة ثقافة الاحتراق الوظيفي جماعياً:

1. تشجيع المساحات الآمنة للتعبير:

لا يشارك العديد من الأشخاص تجارب الصحة الذهنية، ولا يسعون إلى الحصول على الدعم؛ بسبب الخوف من أن يُفتضَح أمرهم، أو الاعتقاد بأنَّها ستُستخدم ضدهم أو تُتجاهَل؛ لذا يمكننا إنشاء مساحات آمنة لموظفينا عن طريق الحد من الأفكار الخاطئة المحيطة بالصحة العقلية، وتعزيز البيئات؛ حيث يشعر الناس أنَّه يمكنهم التعبير عن أنفسهم علانية، دون إصدار أحكام، ويمكن القيام بذلك من خلال موارد وأدوات الصحة النفسية والتدريب.

2. الاقتداء بالأمثلة:

يمكن للقادة ويجب عليهم أن يكونوا شفافين وصريحين في حال كان أداؤهم جيداً أو عندما يعانون، فعندما يكون القادة صريحين بشأن صراعاتهم مع الاحتراق الوظيفي والخطوات التي يتخذونها لمواجهته، يشعر أعضاء فريقهم بالراحة في اتباع تلك السلوكات.

يجب أن تكون الصحة النفسية موضوع نقاش مستمر؛ لذا جرِّب بدء الاجتماعات بالسؤال عن السلامة والعافية للموظفين، وبما أنَّ الانشغال الكثير بالعمل والتوتر الدائم ليست أموراً يُفتخَر بها، فاتبع أسلوباً واضحاً وبسيطاً في السؤال عن السلامة والصحة، وكن واضحاً وصريحاً فيما تريد.

إقرأ أيضاً: كيف يمكن للمديرين تعزيز الصحة النفسية لموظفيهم؟

3. إظهار التعاطف قدر الإمكان:

خلقَت جائحة "كوفيد-19" (Covid-19) مجتمعات صغيرة؛ حيث عانى الناس شكلاً من أشكال الصدمات الجماعية؛ لذا يجب عليك أن تعرف الطرائق العديدة التي قد يتأثر بها كل عضو في الفريق، وإذا كنت تدرك أو تشك في أنَّ شخصاً ما يعاني، فإنَّ معاملته بتعاطف يمكن أن تساعده؛ قد يعني ذلك التوقف لفترات صغيرة بين الاجتماعات للاهتمام به، أو الحفاظ على التواصل البصري معه في أثناء المحادثة، أو تقديم موارد وأدوات الصحة الذهنية.

شاهد بالفيديو: كيف تستخدم التعاطف بفاعلية في العمل؟

4. دعم الاحتياجات الفورية:

يحتاج الناس في الأزمات إلى دعم فوري؛ لذا يجب أن يركز نظام دعم ربِّ العمل على الاحتياجات الفورية ضمن أي قيود، ثم الاعتماد على هذا الإجراء، ويمكن أن يدعم تدريب الموظفين صحياً وذهنياً ذلك من خلال تثقيف الموظفين حول العلامات والأعراض الفورية لقضايا الصحة الذهنية أو تعاطي المخدرات، وكيفية التعامل مع شخص قد يكون في أزمة، والخطوات التالية المناسبة للحصول على المساعدة المهنية.

5. التركيز على الصحة الذهنية والعاطفية من منظور الاستدامة:

تُعَدُّ البرامج قصيرة وطويلة الأمد لدعم صحة وسلامة الموظفين ضرورية للحفاظ على قوةٍ عاملةٍ وشركةٍ مزدهرةٍ؛ حيث يميل القادة إلى الاهتمام فقط عندما تسير الأمور بشكل سيئ، أو يكون هناك بعض النتائج السلبية للأعمال، ومن خلال إعادة النظر في الخطط طويلة الأمد بين الفينة والأخرى، يمكن للقادة أن يحافظوا على حالة ذهنية جيدة وأن يعيدوا وضع هذه المبادرات كبنودٍ ذات أولوية.

في الختام:

نعاني جميعاً من الاحتراق الوظيفي من وقت لآخر، ولكن إذا كان على الناس العمل بجهدٍ كبير حتى وقت متأخر من الليل، فهم يدعمون بذلك ثقافة الاحتراق الوظيفي؛ لذا يجب على القادة التحدث نيابة عن فِرقهم، وكذلك نيابة عن الآخرين داخل الشركة، وابتكار فرص لإدارة الصحة الذهنية للموظفين بشكل دائم.

المصدر




مقالات مرتبطة