كيف يفسر علم النفس التطوري الأمراض النفسية؟ وما العلاجات التي يقترحها؟

إنَّ الكثير من تصرُّفات الإنسان وعواطفه ومشاعره وسلوكاته، هي محصلة تطوُّر بطيء ومستمر ومتكامل عبر ملايين السنين؛ حيث تخضع مورثات الإنسان لتبدُّلات وتغيُّرات صغيرة، ولكنَّها متكررة ومتراكمة تؤدي في النهاية إلى تطوُّر الإنسان إلى الشكل الذي وصلنا إليه حالياً، ومن أجل فهمٍ أفضل وأعمق وأدق لهذه العملية الطويلة، أُسِّس ما يسمى بعلم النفس التطوري، الذي يركِّز على فهْم وتفسير سلوكات وعواطف الإنسان من وجهة نظرٍ تطورية.



ما هو التطور؟

في البداية، علينا أن نعرف باختصار معنى كلمة التطور، التي تعبِّر عن المراحل البيولوجية التي يخلقها أو يشرف عليها الانتخاب الطبيعي؛ حيث يختار صفات معيَّنة في الكائن الحي ويجعلها تستمر معه؛ وذلك لأنَّها تكون ذات فائدة في مساعدته ليتكيَّف تكيُّفاً أفضل مع بيئته المحيطة ومتغيراتها.

يقوم الانتخاب الطبيعي بإلغاء الصفات التي ليست لها فائدة أو لا تخدم الكائن في صراعاته لأجل البقاء والتكيُّف، فيقوم بحذفها مع مورثاتها، ومن ثمَّ تندثر وتختفي في الأجيال اللاحقة.

علم النفس التطوري والأمراض النفسية، بداية يشوبها الملل:

منذ بداية اكتشاف علم النفس التطوري، فإنَّ الآمال المعقودة عليه كانت كبيرة، وعدَّه الكثيرون علماً واعداً سيغيِّر البشرية وينقلها إلى عالم أفضل، خصوصاً في مجال علاج الأمراض النفسية، ولكن على عكس المتوقَّع، ابتعد عنه المتخصِّصون في هذا المجال، فقد كانوا يبحثون عن حلٍّ سريع للأمراض النفسية، بينما كان طريق علم النفس التطوري في فهم ومعالجة الاضطرابات النفسية طريقاً طويلاً ومتعِباً.

إنَّ التطور يبحث في أصل أو منشأ الاضطرابات النفسية في مراحل الطفولة والمراهقة، ويدرس دور الانتخابات الطبيعي في الإبقاء على بعض السلوكات البشرية وحذف بعضها الآخر.

تشير الدراسات الحديثة إلى قوة الأسباب الجينية أو الوراثية في ظهور الأمراض النفسية المختلفة، وتؤكد هذه الأبحاث أنَّ 90% من التوحد، و80% من ثنائي القطب والفصام، أسبابها وراثية.

يبرز هنا سؤال هام؛ لماذا حافظ الانتقاء الطبيعي على هذه المورثات مع أنَّها تسبِّب أمراضاً واضطراباتٍ نفسية خطيرة جداً، تعوق الإنسان عن إكمال حياته والدفاع عن نفسه وتأمين حاجاته؟ هذا ما سنتعرَّف إليه في هذا المقال.

إقرأ أيضاً: الاضطرابات النفسية حسب تصنيف الجمعية الأمريكية للأطباء النفسيين

كيف سمح الانتقاء الطبيعي لمورثات الأمراض النفسية بالبقاء والانتقال عبر الأجيال؟

نجحت الأمراض النفسية في أن تبقى ملازمةً للكائن البشري عبر جميع المراحل؛ حيث إنَّ الانتقاء الطبيعي لم يستبعدها؛ بل يقول الكثير من العلماء بأنَّه ساهم في إبقائها أو تعزيزها، ويمكن فهْم هذا الأمر من خلال التفسيرات الآتية:

1. اضطراب التكيف:

يقول العلماء والخبراء في مجال علم النفس التطوري، إنَّ العقول التي نحملها اليوم هي نتاج تطوري لعملية الانتخاب الطبيعي التي جرت في بيئة العصر الحجري، وقامت بتطويع قدراتنا ومهاراتنا ومشاعرنا وعواطفنا وفق متطلبات وظروف ذلك العصر، وشكَّلت حاضنة التكيف التطوري.

وتأتي الأمراض النفسية كنتيجةٍ لاضطراب تكيُّف حاجاتنا وقدراتنا المصقولة في بيئة العصر الحجري، مع العالم الذي نعيش فيه اليوم، بكل ما فيه من فروقات وتغيرات تفرض علينا طريقة حياة مختلفة جداً.

2. العدوى بالجراثيم والفيروسات:

إنَّ إصابة الإنسان البالغ بالميكروبات أو الفيروسات، من الممكن أن تؤدي إلى الإصابة بمرض نفسي، كما أنَّ هنالك بعض الفيروسات التي تؤدي إصابة الأم الحامل بها إلى انتقالها إلى الجنين، ومن ثمَّ الإصابة بأمراض عصبية أو نفسية خطيرة، خصوصاً إذا أُصيبَت الأم بالفيروس خلال الأشهر الأولى من الحمل.

كما يوجد بعض الأمراض الناجمة عن خلل في الجهاز المناعي، تسمى أمراض المناعة الذاتية، التي من الممكن أيضاً أن تكون سبباً في حدوث الأمراض النفسية؛ حيث إنَّ هذه الأسباب لا يمكن للانتخاب الطبيعي أن يواجهها؛ وذلك لأنَّها أسباب سريعة الحدوث؛ إذ إنَّ دورة حياة الجراثيم والفيروسات سريعة جداً إذا ما قورنت بدورة حياة الإنسان الطويلة.

3. عملية الانتخاب الطبيعي، عملية ذات حدود:

على الرغم من التأثير الهائل والواسع الذي تُحدِثه عملية الانتخاب الطبيعي، إلا أنَّها تقف عند الكثير من الجينات التي لا تستطيع تغييرها لسبب من الأسباب، وتتسم هذه العملية باحتمالية حدوث الأخطاء خلال نقل البيانات الوراثية، والأسباب متعددة منها خارجية ومنها داخلية، ومن ثمَّ من الممكن لجينات الأمراض النفسية أن تهرب من الانتخاب الطبيعي، فضلاً عن العشوائية التي تتسم بها هذه العملية.

إقرأ أيضاً: ما هي الأمراض الوراثيّة، وماهي أنواعها، وكيف تحدث؟

4. الفوائد الدفاعية للأمراض النفسية:

إنَّ الحرارة هي عَرَض مزعج، ولكن لها فوائد بأنَّها تقتل الجراثيم والفيروسات داخل الجسم، وكذلك السعال هو أمر مزعج، ولكنَّه ضروري لإخراج القشع الذي يشكِّل بؤرة لتكاثر الجراثيم، وكذلك الألم هو تنبيه لنتعامل مع الألم والخطر.

وعلى المبدأ نفسه قد تكون بعض المشاعر السلبية، كالقلق على سبيل المثال أمراً مزعجاً، لكنَّه مفيد؛ حيث يدفعنا نحو الابتعاد عن مصادر الخطر، ومن ثمَّ يعزز فرص بقائنا على قيد الحياة؛ لذلك فإنَّ الانتخاب الطبيعي يبقيه لأنَّ فوائده أكثر من سلبياته.

5. الانتخاب الطبيعي، لا يعطي دون مقابل:

كما علَّمَتنا الحياة والطبيعة، فإنَّه لا وجود للأمور المثالية، وكذلك هو الانتخاب الطبيعي لا يقدِّم حلولاً مثالية؛ حيث إنَّه مقابل كل صفة جيدة نكسبها، فإنَّنا نخسر صفة أخرى إيجابية؛ لذلك من الممكن أن يكون حفاظ الانتخاب الطبيعي على جينات الأمراض النفسية، تفادياً لخسارة صفات مفيدة أخرى، وغالباً هي صفات عاطفية تمنحنا هويتنا بصفتنا بشراً.

علم النفس التطوري، الأمراض النفسية ليست أمراضاً:

إنَّ الكثير من نظريات علم النفس التطوري، تؤكد أنَّ معظم الأمراض النفسية ليست مشكلات؛ بل هي حلول وجدَتْها تلك العقول من أجل التكيُّف مع الواقع؛ حيث إنَّ أدمغتنا الآن تطوَّرت وتعقَّدت، وكذلك الحياة الحالية ومتطلبات العصر، والتطور التقني السريع جداً، الذي لا يتوافق مع التطور البطيء لأدمغة البشر، وكذلك تطوُّر القيم الأخلاقية عبر العصور، وظهور قيم جديدة قبلية وعائلية ومنظومات فكرية وقوانين لم تكن موجودة.

واستناداً إلى علم النفس التطوري، فإنَّ الاكتئاب ليس مرضاً بقدر ما هو خسارة، والقلق ليس جبناً بقدر ما هو حذر مفرط.

علم النفس التطوري، يعالج السبب وليس العرض:

إنَّ جميع العلاجات النفسية الحالية المتنوِّعة من أدوية حديثة وعلاج معرفي وعلاج سلوكي وعلاج عبر الصدمات الكهربائية، هي مجرد علاجات عَرَضية؛ حيث إنَّها تتناول أعراض الأمراض النفسية فقط، ومن الممكن أن تزيد السيروتونين أو تخفف القلق، لكنَّ العلاج النفسي التطوري يركِّز على السبب الكامن وراء هذه الاضطرابات، وتعريف المريض به من وجهة نظر تطورية، والعمل على حله.

فعلى سبيل المثال: بعد مراجعة التاريخ المَرَضي لمريض الاكتئاب، ينصحه المعالِج النفسي بضرورة إجراء التمرينات الرياضية؛ وذلك لأنَّ أسلافنا كانوا يتمتعون بالقوة الجسدية ويحبون الفرد القوي، وكذلك التنقل بين مكان وآخر، الذي كانوا يلجؤون إليه لتجنب الملل والإشباع.

ما هي آليات حدوث الأمراض النفسية وفقاً لعلم النفس التطوري؟

يقول علم النفس التطوري بأنَّ الأمراض النفسية عائدة إلى تضارب أو تناقض في نظرة المكونات النفسية للوقائع الخارجية وطريقة التعامل معها؛ حيث العقل الواعي الذي يقدِّم الفضيلة والأخلاق على كل شيء على الرغم من كل التكاليف والخسائر، والمشاعر التي لا ترى إلا جزءاً بسيطاً من الواقع لا يمثل الكل، والعقل اللاواعي الذي لا يرى أي شيء من الواقع ويتصرف تصرُّفاً بدائياً.
ومن أجل فهم آلية أو مسببات حدوث الأمراض النفسية، يقسم علم النفس التطوري الدماغ البشري إلى ثلاثة أقسام:

1. دماغ الزواحف:

وهو الجزء الأقدم من الدماغ البشري، ويمثِّل الحاجات المبدئية والأساسية للحياة، مثل مراكز تنظيم ضربات القلب وحركات التنفس، ويمثِّل الدماغ غير الواعي، الذي لا نملك أيَّة سلطة عليه.

2. دماغ الثدييات القديمة:

وهو جزء أكثر تطوراً من الجزء السابق، ولكنَّه بطبيعة الحال يمثِّل الغرائز الأساسية، مثل الجوع، والعطش، والجنس، والغضب، والحزن، والفرح، ويمكن وصفه بالدماغ العاطفي شبه الواعي، الذي نملك بعض السيطرة عليه، ولكنَّها ليست بالسيطرة الكاملة.

3. دماغ الثدييات الحديثة:

وهو الأكثر تطوراً من بين الأقسام كلِّها؛ حيث يمثِّل الوظائف الإدراكية العليا، مثل الاستنتاج والتحليل والمحاكمة العقلية واتخاذ القرارات، وهو الدماغ الذي نملك إمكانية التحكم به، وهو ما يميز الإنسان عن غيره من الكائنات الأخرى.

انطلاقاً من هذا التقسيم، يفسِّر علم النفس التطوري الأمراض النفسية، بأنَّها عدم اتفاق بين هذه المستويات الثلاثة حيال المشكلة التي تواجه المريض؛ حيث إنَّه يعيش الاضطرابات النفسية بسبب الصراع الداخلي العنيف بين هذه المستويات، وما المرض النفسي إلا خسائر هذه الحرب الضروس.

إقرأ أيضاً: أهمية علم النفس الإيجابي وكيفية الاستفادة منه

مبدأ علاج الأمراض النفسية وفق علم النفس التطوري:

إنَّ مبدأ الحل أو العلاج من وجهة نظر علم النفس التطوري، هو في توحيد موقف هذه المستويات تجاه المشكلة أو الفكرة أو الظرف الذي يواجهه المريض، فلا يهم هنا إن كان المريض قد قام بمقاومة المشكلة الخارجية والانتصار عليها، أو خضع واستسلم لها، فكلا الاستراتيجيتين هما طريقتان صحيحتان للحل، والهام هو أن تتفق الأطراف الثلاثة المتنازعة على موقف واحد، وتتبنَّاه وتقتنع به.

في الختام:

لقد انتهى الوقت الذي تُعَدُّ فيه نظرية التطور مجرد وجهة نظر؛ بل أصبحَت حقيقة علمية تستطيع تفسير الكثير من المشكلات الهامة مثل الأمراض النفسية، وإيجاد أسبابها وطرائق علاجها، من أجل الوصول إلى إنسان سليم فكرياً واجتماعياً ونفسياً، قادر على إكمال حياته، والنجاح في عمله، والمساهمة في تطوير الحياة وإغناء الحضارة الإنسانية.

المصادر: 1، 2




مقالات مرتبطة