كيف يساعدك الامتنان تجاه الأشياء البسيطة على الشعور بالمغزى من الحياة؟

لدى الإنسان خمسة احتياجات أساسية؛ ففي مرحلة ما قبل التاريخ، كان البشر يسعون إلى تلبية هذه الحاجات الأساسية، وبعد أن تم إشباعها، لم يتبقَّ سوى الحاجات العاطفية، وقد سبَّب السعي إلى إشباعها الكثير من الاضطرابات الجماعية؛ لذلك، وجب علينا أن نبحث عن الشغف والهدف في أكثر حاجاتنا إلحاحاً.



ملاحظة: هذا المقال مأخوذ عن المدون "إيفان ترافر" (Evan Traver)، يُحدِّثنا فيه عن تجربته في التخييم في البرية وكيف انعكست إيجاباً على صحته النفسية.

لدى الإنسان خمسة احتياجات أساسية:

نحن البشر كائنات اتكالية وشديدة التعلق بالآخرين، ولدينا احتياجات لا يمكن لأحد إنكارها، ولقد تطورنا بهذه الطريقة، وفي الواقع، وفقاً لعالم النفس "أبراهام ماسلو" (Abraham Maslow) فإنَّ حاجاتنا تنقسم إلى 5 مستويات.

تُمثَّل الحاجات الإنسانية في نظرية "ماسلو" بهرم يُسمى هرم "ماسلو للاحتياجات الشخصية"، وبحسب هذه النظرية تتوزع رغباتنا وحاجاتنا إلى خمس فئات مرتبة من أكثر الحاجات الأساسية إلى أكثرها كماليةً، ويجادل "ماسلو" باستحالة الشعور بحاجة أعلى دون إشباع الحاجة الأدنى منها أولاً.

يبدأ هرم الحاجات لدى جميع البشر بأكثر الحاجات الإنسانية الضرورية للبقاء على قيد الحياة، وهي الطعام والشراب والمأوى، فهذه الحاجات الفيزيولوجية هي الأكثر أهمية، لدرجة أنَّه من المستحيل على الإنسان أن ينجز أي شيء دون إشباع هذه الحاجات أولاً؛ وهذا هو السبب في أنَّ هذه الحاجات هي الأساس لجميع رغبات البشر.

بعد هذه الحاجات الضرورية للبقاء على قيد الحياة، تأتي الحاجة إلى الأمن؛ لأنَّنا بعد أن نكون قد أشبعنا الحاجات الضرورية للبقاء على قيد الحياة، يصبح من الضروري أن نحميها بصورة دائمة حتى نضمن استمرار حياتنا لأطول فترة ممكنة، ويظهر هذا النوع من الأمن بشكل إحدى طرائق البقاء على قيد الحياة وهو العيش ضمن مجموعة.

بمجرد أن يتوفر لنا الأمن من خلال العيش في مجموعة، سواء أكانت هذه المجموعة عبارة عن أصدقاء أم عائلة أم مجتمع، نبدأ بالشعور بالحب والانتماء لتلك المجموعة، وهذا يضمن بقاءنا آمنين طالما أنَّنا جزء من هذه المجموعة، بالإضافة إلى أنَّ هذا الانتماء يضفي على وجودنا شعوراً بوجود مغزى من الحياة وشعوراً بالانتماء.

عند هذه النقطة بدأت حاجاتنا بالتطور من كونها حاجات مادية إلى حاجات عاطفية، فقبل هذه النقطة كانت كل حاجاتنا مستندة إلى غريزة البقاء، أما الآن بما أنَّ الحب والشعور بالانتماء يزيدان من فرصنا في البقاء على قيد الحياة ضمن المجموعة، تصبح سلامتنا العاطفية حاجة بشرية شديدة.

من هنا تبدأ الحاجات بالتمايز، فما يأتي بعد الحب في هرم احتياجاتنا الإنسانية هو التقدير، ونحن نريد أن يحترمنا الآخرون، فتقدير الذات ضروري من أجل الصحة النفسية للإنسان وعجزنا عن إشباع هذه الحاجة هو السبب في الكثير من حالات الاكتئاب التي تسود المجتمعات البشرية.

إذا لم نحصل على التقدير، فنحن لا نشعر بأنَّنا جيدون بما يكفي ونبدأ بالبحث عن المبررات والقصص التي تدعم شعورنا بعدم القيمة، وهذا ما قالته عالمة النفس "تارا براش" (Tara Brach): إنَّ إشباع حاجتنا إلى الشعور بالتقدير ضروري في بحثنا النوعي عن المغزى من الحياة؛ لأنَّ الشخص الذي يشعر بأهميته يملك الثقة والقدرة على توجيه حياته بالاتجاه الذي يريده.

بعد أن نُشبِع حاجتنا للتقدير، يتبقى لدينا الحاجة إلى تحقيق الذات، وإذا كان ذلك ممكناً، يستطيع البشر إشباع هذه الحاجة من خلال إدراك إمكاناتهم القصوى وتحقيق أهدافهم الفردية، وعلى كل حال، نعلم جميعاً أنَّ لا شيء يسير بشكل مثالي، ومن المُحتمل أنَّ المغزى الذي كرست من أجله معظم حياتك لا تتمكن من تحقيقه أو إشباعه.

لذلك منطقياً، لا توجد طريقة لتحقيق الإمكانات القصوى، ومن ثمَّ لا توجد طريقة لتحقيق الذات؛ وهذا يعني أنَّنا سنشعر على الدوام بأنَّنا نحتاج إلى شيء ما، ويبدو كأنَّنا محكوم علينا بالشعور المزمن بعدم الإشباع، لكن دعنا نخبرك بأنَّ هذه ليست الحقيقة لحسن الحظ.

إقرأ أيضاً: ما هي احتياجاتك؟

قلل من احتياجاتك:

ذهبت في رحلة للتخييم في الثلج منذ بضعة أسابيع، في إحدى غابات "كاليفورنيا" (California)، قمت بهذه الرحلة مع مجموعة من الأصدقاء؛ إذ مشينا لمسافة 5 كيلومتر عبر الثلوج وأحياناً فوق الانجرافات التي يتجاوز ارتفاعها 10 أقدام، وكنا نرتدي أحذية الثلج ونحمل حقائب الظهر التي تحتوي المعدات التي نحتاجها إلى تشييد المخيم في المكان الذي سنقيم فيه لبضعة أيام؛ حيث سنمارس رياضة المشي والاستكشاف.

يبدو الأمر جنونياً، لكن هذا ما حدث، وقد تعلمت من خلاله درساً هاماً جداً؛ وهو عندما تكون كل أفعالك نابعة من حاجاتك الفيزيولوجية من أجل البقاء على قيد الحياة، تتراجع جميع حاجاتك العاطفية الأساسية تراجعاً كبيراً، ومن المُحتمل في هذه الظروف أن تشعر بالهدوء والقناعة، فتخيَّل التخييم في الثلج؛ حيث لا يوجد مياه سائلة وستضطر إلى أن تغلي الثلج باستخدام موقد الرحالة كي تبقى رطباً.

وعلى ارتفاع، 8,500 قدم سيراً على الأقدام ستخسر الكثير من سوائل الجسم بسرعة فائقة، عدا عن الطعام، لقد كان معنا بعض الطعام المجفف لكن إذا أردت أن تبقى بصحة جيدة، فستحتاج إلى بعض الطعام الساخن والذي يتطلب ماءً ساخناً؛ وهذا يعني المزيد من غلي الثلج باستخدام الموقد.

علاوةً على ذلك، فقد اضطررنا إلى حفر الخنادق لحماية خيامنا من الريح، ولا ننسى كيف كنا نضطر إلى ارتداء حذاء الثلج والمشي بعيداً عن المخيم فقط من أجل استخدام الحمام، وطبعاً الحمام عبارة عن شجرة.

الفكرة هي أنَّه حتى أبسط المهام تطلبت منا طاقة هائلة نسبياً، وهذه المهام كانت ضرورية لبقائنا أحياء؛ ما يجعلنا تقريباً غير قادرين على التفكير بأي شيء آخر، وعلى الرغم من ذلك، كان يوجد جانب جميل في هذه الحياة؛ لأنَّنا كنا نعيش في هذه الفترة فقط لإشباع أول حاجتين في الهرم الذي تحدثنا عنه.

لم تكن لدينا فرصة للتفكير بالاحترام وتحقيق الذات؛ بل كانت فقط الرغبة بالعيش، ولقد اختبرتُ في هذه الفترة شعوراً بالهدوء لم أختبره من قبل أبداً، وقناعة تامة لأنَّني كنت أفعل الأمور التي أحتاج فقط إلى القيام بها في تلك الفترة، وكم هو رائع أن تعيش من أجل تلبية حاجاتك الأولية؛ الحاجات التي باتت تُشبَع بسهولة في عالمنا المعاصر لدرجة أنَّنا نسينا أنَّها حاجات أصلاً.

شاهد بالفديو:  5 فوائد مثبتة للشعور بالامتنان

يوجد دوماً إمكانية للشعور بالانتماء:

عندما تركِّز على أكثر الحاجات الرئيسة لديك، يحدث شيء آخر؛ إذ تساعدك الرغبات الدنيا بشكل طبيعي على تحقيق حاجاتك العليا حتى دون أن تدرك ذلك؛ فعندما تخيم في منطقة يتراوح فيها ارتفاع الثلوج بين 7-10 أقدام، فإنَّ المهام الرئيسة تصبح كفاحاً مستمراً.

لذلك، يجعلك هذا تشعر بالحاجة إلى الاعتماد على الآخرين وضمان بقائك على قيد الحياة ضمن جماعة، كما يقوم كل شخص بواجبه ويستخدم مهاراته؛ وبذلك يكون لدى المجموعة فرصة أكبر للنجاح دون هدر لمصادر الطاقة، وبشكل طبيعي، عندما تغدو جزءاً من جماعة بهدف الحصول على قدر أكبر من الأمان - حتى الأمان الاجتماعي في عالمنا المعاصر - فإنَّك تبدأ بشكل طبيعي بالشعور بالانتماء للجماعة.

يوجد شعور عميق بالصداقة الحميمية بين أعضاء المجموعة؛ إذ كانوا يعملون بشكل جماعي لتحقيق هدف مشترك، ويعتمد كل واحد على الآخرين؛ لذلك يشعر كل واحد بالانتماء وهكذا يتم إشباع حاجة الانتماء دون بذل أي جهد متعمد.

في الغابة التي قمنا بالتخييم بها، ودون وجود وسائل للتواصل الاجتماعي وأشخاص يتصيدون أخطاءك وينتقدونك بشكل لاذع، ومن خلال وجودك ضمن مجموعة صغيرة من الناس الذين ينظرون إليك بإيجابية بسبب مساهمتك بوصفك عضواً في الجماعة؛ يصبح من السهل تحقيق الحاجة الرابعة وهي الشعور بالتقدير.

ترتفع ثقتك بنفسك بشكل هائل وأيضاً تقديرك لذاتك وشعورك بقيمة نفسك؛ لأنَّك على ثقة من أنَّ ما تفعله يساعد بشكل مباشر شخصاً من الجماعة أو حتى الجماعة بأكملها، والناس الذين تكون بصحبتهم يحترمونك بسبب ما تضيفه من قيمة على المجموعة بأكملها، ومن ثمَّ، مع بقاء تحقيق الذات فقط كحاجة، فإنَّك قمت بتحقيق إمكاناتك وهدفك؛ لأنَّ إمكاناتك ومهاراتك موجهة بالكامل لمساعدة المجموعة على الاستمرار وهكذا لم يتبقَّ شيء تحتاجه أو تريده.

لقد تم إشباع رغباتك الفيزيولوجية والعاطفية بسبب الرضى الذي تشعر به من خلال إنجاز المهام الأساسية والهامة في نفس الوقت، والآن قارن هذا بالكيفية التي نعبِّر فيها عن حاجاتنا العاطفية اليوم؛ جميع حاجاتنا أو على الأقل الأساسية منها تم إشباعها حتى دون أن ندرك ذلك، ولا نجد أي متعة أو مغزى من الاستقرار أو الأمان لأنَّه نادراً ما نشعر بالقلق حيال هذه النعم.

لكن على أي حال، لأنَّنا أشبعنا حاجاتنا الأساسية في عالم اليوم، لماذا لا نركِّز أكثر على حاجتنا الثالثة وهي الشعور بالانتماء؟ للأسف، باستخدامنا لوسائل التواصل الاجتماعي وغيرها من الوسائل فإنَّنا أصبحنا بعيدين جداً عن الحياة ضمن جماعة بشرية؛ الأمر الذي يجعلنا نبحث عن الشعور بالانتماء طوال الوقت.

مع عدم شعورنا بالاندماج، فإنَّنا نفترض أنَّه يوجد عيب ما بشخصيتنا، ومن ثمَّ نحن غير قادرين على كسب الاحترام وتحقيق الذات، وهذا هو سبب الكثير من حالات الاكتئاب والقلق التي يُصاب بها الأفراد في المجتمع.

ينشأ الكثيرون وهم يعايشون هذا الخوف من كونهم ليسوا جيدين بما فيه الكفاية، لكنَّ هذا الخوف لن يكون موجوداً عندما تعيش مع 10 أشخاص في البرية وتعتمد المجموعة عليك للحصول على مياه نظيفة.

المغزى من هذا أنَّ الحياة أصبحت سهلة جداً، ومع ذلك، فإنَّنا لا ندرك مدى سعة الأفق المتاح لدينا؛ إذ نمتلك الكثير من الوقت لكنَّنا نبدده بالقلق حيال الأشياء النوعية مثل الشغف؛ وذلك بسبب أنَّنا لم نعد مضطرين لأن نبذل أي جهد أو نقضي أي وقت في محاولة البقاء على قيد الحياة، لكنَّ المفارقة هي أنَّ التركيز الواعي على الاحتياجات الأساسية يساعد على إشباع الاحتياجات الأعلى.

إقرأ أيضاً: تفهم احتياجات الأفراد

في الختام:

من الآن وصاعداً لا تنظر إلى حاجاتك الأساسية بوصفها أمراً مسلماً به؛ بل ركِّز على المتعة التي تحصل عليها من الإشباع المتسق لأكثر رغباتك الأساسية أهميةً، وقدِّر نعمة المياه الجارية وثلاجتك المليئة بالطعام، وابتهج عندما تتعطل سيارتك لأنَّك في جميع الأحوال تستطيع ركوب وسائل النقل العمومية، وعندما يكون لديك وقت إضافي للتفكير، استغل هذا الوقت بالمهارة والتجارب التي تزيد من تقديرك للحياة كما هي.

لا نعني بذلك أنَّه لا يجب أن تمتلك أهدافاً كبيرة؛ بل ما نعنيه أنَّه يجب أن يكون لديك وجهة في الحياة نحو تحقيق الهدف ومن ثمَّ استمتع وابتهج بكل فعل تقوم به في حياتك اليومية والذي يقودك نحو تحقيق هدفك.

المصدر




مقالات مرتبطة