كيف يؤدي اضطرار الطفل إلى تأدية دور الأب إلى آثار سلبية طوال الحياة؟

بعض الأشخاص الذين يجب عليهم أن يتحمَّلوا مسؤولية أخوتهم أو آبائهم وهم في سن الطفولة، يشعرون بعد أن ينضجوا بأنَّهم يقدمون الرعاية لمن حولهم مكرهين على ذلك.



ملاحظة: هذا المقال مأخوذ عن الكاتبة سيندي لاموت (Cindy Lamothe)، وتتحدث فيه عن الآثار السلبية النفسية والفيزيولوجية لقيام الأطفال بدور الرعاية الأبوية.

بلغت لورا كيسيل (Laura Kiesel) من العمر 6 سنوات فقط عندما تولَّت مسؤولية رعاية شقيقها الرضيع، لقد كان سريره في المنزل بجوار سريرها مباشرةً؛ ولذلك عندما يبكي في الليل، لم يكن لديها خيار سوى أن تحمله، وتغني له كي ينام، وكان عليها أيضاً أن تبدِّل له حفاضته، وأن تحرص على إطعامه بانتظام يومياً؛ إذ تتذكَّر لورا - في طفولتها - أنَّها هي مَن اعتنت بأخيها، بينما كانت أمُّها غارقة في الإدمان على الهيروئين.

لقد اعتادت لورا الاعتناء بنفسها منذ طفولتها، مثل تحضير وجباتها، وارتداء ملابسها بنفسها، وبالطبع اللعب بمفردها دون أيِّ توجيه أو عناية من أمها، وكانت لورا في المدرسة تُعامَل على أنَّها الطفلة البائسة المُهملة ذات الشعر المتسخ والأشعث.

لقد كانت فترةً مأساوية بالنسبة إلى طفلة عاملتها والدتها المُدمنة معاملة عنيفة، وتتذكَّر لورا - التي تعمل الآن بوصفها كاتبة مستقلة - كثيراً عن هذه المرحلة من حياتها؛ إذ تقول: "كانت والدتي في أثناء نوبات الإدمان، تصبُّ كلَّ غضبها عليَّ، وقد ضحيت كثيراً لتجنيب أخي الصغير الأذى"، كما تتذكَّر إلى الآن كيف حملت أخاها وقطتها ودخلت معهما إلى الحمام وقفلت الباب لحمايتهما؛ إذ تقول كيسيل: "كان عبئاً كبيراً يثقل كاهلي بسبب شعوري أنَّ سلامة أخي منوطة ببقائي في جواره والاعتناء به".

أُصيبت لورا بالشرى وأحياناً كانت تستمر الأعراض لأشهر عديدة، وتعتقد لورا أنَّ السبب نفسي، ويعود إلى شعورها بالوحدة وعبء المسؤوليات في سن صغير؛ إذ تقول: "كان عبئاً ثقيلاً أن أكون مسؤولة عن طفل رضيع في ذلك العمر؛ فقد حملت أخي في أحيان كثيرة وقد صفعت ذراعه؛ لأنَّني ارتبكت، ولم أعرف كيف أتعامل مع بكاء طفل ذي عامين، بينما لم أكن أتجاوز ثمان سنوات".

أخيراً وعندما بلغت لورا عامها التاسع، أخذها جداها مع أخيها الذي كان يبلغ حينها ثلاث سنوات، لكن بقيت آثار الصدمة النفسية التي تسببت بها حياتهما السابقة، وعندما أصبح عمر لورا 14 عاماً، عانت نوبات هلع ووساوس قهرية واكتئاب؛ وتؤكد أنَّها لم تفهم العلاقة بين طفولتها البائسة وأمراضها النفسية المزمنة، إلا بعد أن كبرت.

الوالدية: تقمص السلطة الأبوية

قصة لورا هي إحدى الحالات التي يسميها علماء النفس الوالدية؛ وهي شكل من أشكال إساءة المعاملة العاطفية أو الإهمال؛ إذ يصبح الطفل هو مقدِّم الرعاية لوالديه أو أخوته.

يجد الباحثون إضافة إلى أنَّ هذه الحالة ينتج عنها إعاقة في نمو الطفل نفسياً؛ فإنَّ انعكاس الأدوار هنا يمكن أن يترك صدمات عاطفية تستمر آثارها حتى مع وصول الطفل إلى مرحلة الرشد، فيعاني معظم مَن اختبروا "انعكاس الأدوار" قلقاً شديداً واكتئاباً وضيق تنفس، وقد أفاد آخرون بإصابتهم باضطراب الشهية وتعاطي المخدرات.

تقول الأستاذة في جامعة لويزفيل (University of Louisville) ليزا إم هوبر (Lisa M Hooper)؛ وهي باحثة بارزة في مجال الوالدية: "تستمر الأعراض التي يعانيها الطفل بسبب هذا النوع من الصدمات في المراحل العمرية جميعها، وتبدأ بعض هذه السلوكات منذ سن الطفولة، وتتفاقم عند البلوغ".

بينما يقول غريغوري يوركوفيتش (Gregory Jurkovic) في كتابه "الطفولة المفقودة: محنة الطفل الذي يمارس دور الأب" (Lost Childhood: The Plight Of The Parentified Child: "الشعور المزمن لدى الطفل بعدم الأمان هو أحد أكثر العواقب الكارثية لعملية تبادُل الأدوار هذه".

بينما يركِّز جزء كبير من الأعمال الأدبية على تجربة الإهمال التي يتعرض لها الطفل بسبب أبويه، إلا أنَّه نادراً ما يتم التطرق إلى نتيجة هذا الإهمال التي تجبر الأطفال على تأدية دور أحد الوالدين ورعاية بعضهم بعضاً.

يكاد لا يوجد أيُّ بحث تجريبي عن آثار هذه الصدمة في العناصر التفاعلية للعلاقة في مراحل لاحقة من حياة الطفل، سواء بين الطفل وأخوته أم الآخرين، ويوافق العلماء على وجود فجوة في الأبحاث التي تتناول علاقة الأخوَّة، ولاسيما نقص في فهم تأثير المناخ العائلي السيئ في علاقات الأطفال والآباء وأدوارهم، وتؤكِّد "هوبر" أنَّ الأدب مقصِّر جداً من هذه الناحية.

في حالة لورا أدى اعتنائها بأخيها عندما كانت طفلة إلى علاقة هشة وفوضوية بينهما طيلة السنوات التالية، سادها فترات طويلة من القطيعة؛ إذ يعيش فيها شقيق لورا عالةً على الآخرين، وعلى الرَّغم من بقائهما مقرَّبين من بعضهما بعضاً، إلا أنَّه كانت ثمة فترات لم يتحدثا خلالها مع بعضهما مطلقاً لمدة أشهر.

لقد أخبرتني في رسالة عبر البريد الإلكتروني أنَّ شقيقها دائماً ما يكون على وشك الوقوع في أزمة، وغالباً ما تكون أزمة صحية بسبب الإفراط في تناول المشروبات الكحولية والتشرُّد وغير ذلك؛ ولذلك فهي دائمة القلق عليه.

يعترف شقيقها "ماثيو مارتن" الذي يبلغ من العمر 32 عاماً بتأثير التربية التي تلقياها في الحالة التي وصلت إليها علاقته مع شقيقته حالياً، ويقول: "كانت لورا ملجئي الوحيد؛ فأمُّي كانت مدمنة مخدرات عصبية جداً، وطوال طفولتي ومراهقتي اعتمدت على شقيقتي لأحصل على الدعم العاطفي الذي لم تستطع أمي تقديمه لي، أمَّا الآن، فأنا أعاني بما فيه الكفاية من الإدمان على الكحول، وهذا أمر قاسٍ لأنَّ لورا تريدني أن أتمتع ببعض الإرادة، وهي تطلب أن أقف معها مثلما وقفت معي عندما كنا أطفالاً".

أمَّا حالة رينيه (Rene) التي طلبت عدم ذكر كنيتها، فبدأت عندما كانت في الثامنة من عمرها؛ فقد اصطحبتْ أشقاءها الثلاثة من الحضانة، وأخذتهم إلى المنزل، وأطعمتهم وتولَتْ استحمامهم، وقرأت لهم القصص إلى أن ناموا.

تضيف رينيه التي تبلغ من العمر الآن 50 عاماً أنَّها تتذكَّر تماماً كيف وقفت على الكرسي في المطبخ وطهت العشاء لأسرتها، وعلى الرَّغم من العبء الهائل الذي تحملته، إلا أنَّها تذكره الآن بفخر واعتزاز، وتقول: "لديَّ ذكريات جميلة حقاً، ولا سيما قراءة القصص لهم ليلاً في السرير".

لكنَّ حياة رينيه في المنزل كانت أبعد ما تكون عن السلام، وتقول إنَّ إدمان والدتها على الكحول حالَ دون قدرتها على رعاية أطفالها الخمسة الذين ألقت عبء رعايتهم على رينيه وشقيقها الأكبر.

والدة رينيه متوفية الآن، وتقول رينيه إنَّها إضافة إلى رعايتها لأخوتها الصغار، فقد دعمَت هي وشقيقها الأكبر بعضهما عاطفياً؛ إذ تقول رينيه: "أعتقد أنَّه من الهام أن ندرك أنَّ جانباً كبيراً من الوالدية يعتمد على التعاون، فربما يكون دور أحد الأخوة غسْل الأطباق وتنظيف المنزل والعناية بالأم التي تعاني المرض أو الإدمان على الكحول، ويكون دور الأخ الآخر تقديم الدعم العاطفي، سواء من خلال الاستماع للمشكلات أم تقديم الدعم النفسي".

تماماً مثلما تعتمد ويندي (Wendy) على عصابة "لوست بويز" (Lost Boys) لتتلقى منهم الرعاية؛ وذلك في رواية "بيتر بان وويندي" (Peter Pan And Wendy).

غالباً ما يقيم الأشقاء الذين يمارسون الدور الأبوي علاقات تكافلية:

غالباً ما يقيم الأشقاء الذين يمارسون الدور الأبوي علاقات تكافلية مع بعضهم بعضاً؛ وبذلك هم يلبُّون حاجتهم لتلقي الرعاية بطرائق مختلفة.

تقول آمي ك. نوتال (Amy K. Nuttall) الأستاذة المساعدة في التنمية البشرية ودراسات الأسرة في جامعة ولاية ميشيغان (Michigan State University): "نعلم أنَّ الأشقاء يمكنهم حماية بعضهم بعضاً من آثار العلاقات المُتعبة مع الوالدين، وقد يكون هذا هو السبب في أنَّ بعض الأشقاء الذين مارسوا الدور الأبوي، والذين نشؤوا في منازل تسيء معاملة الطفل، يحافظون على روابط وثيقة بين بعضهم بعضاً عند بلوغهم سن الرشد، وإن كانت هذه العلاقات معقَّدة ويستمر بعضهم بتقديم الرعاية الأبوية لأشقائه، وإن كان ذلك على حسابهم".

مع ذلك تشير نوتال إلى أنَّ بعض الأطفال، قد يتخلَّون تماماً عن عائلاتهم في محاولة منهم للتهرُّب من الدور الأبوي.

وجدت رينيه نفسها بلا مأوى بعد طردها من منزل والدتها، وهي ما تزال في الخامسة عشر من عمرها، وتقول إنَّ أشقاءها ما يزالون يلومونها على تخليها عنهم، وتضيف: "إذا نظرت للأمر جدياً ستجد أنَّ تخلِّي الشقيق الذي يمارس الدور الأبوي عن أشقائه لا يختلف عن تخلِّي والديهما عنهم".

بعد ذلك شعرت رينيه بالذنب الشديد لسنوات عديدة، وهو شعور شائع لدى الأطفال الذين يُفَرض عليهم ممارسة الدور الأبوي، فعادةً ما ينشأ عن علاقات الأشقاء رابطة أبدية، لكن بالنسبة إلى رينيه كان للتحرر من مسؤولية رعاية أشقائها كلفته، وهو خسارة عائلتها؛ إذ تقول: "لم يعد لديَّ أيَّة علاقة مع أشقائي أبداً".

تتسبب صدمات الطفولة بآثار سلبية في الدماغ تمتد لفترات طويلة، وقد أثبتت التجارب أنَّ الأطفال الذين يختبرون انعكاس الأدوار من ناحية قيامهم بالرعاية بدلاً من تلقيها هم أكثر عرضة للإصابة بالاضطرابات النفسية والفيزيولوجية، والإصابة بحالة مزمنة من استجابة القلق الشديد.

لقد وجدت إحدى الدراسات أنَّ الأطفال الذين يتعرضون لتوتر مستمر تفرز أجسادهم هرمون يؤدي إلى تقلص حجم الحُصين؛ وهي المنطقة من الدماغ المسؤولة عن الذاكرة والعواطف والتعامل مع التوتر، والأشخاص الذين اختبروا الإهمال العاطفي أو البدني من قبل الوالدين هم أكثر عرضةً للإصابة بأمراض مزمنة عند البلوغ.

تقول دونا جاكسون ناكازاوا (Donna Jackson Nakazawa) مؤلفة كتاب "'طفولة مضطربة" (Childhood Disrupt): "التوتر المزمن غير المتوقَّع يكون ساماً بالنسبة إلى الطفل الذي لا يجد شخصاً بالغاً يمكن الوثوق به واللجوء إليه".

أجرت ناكازاوا بحثاً مكثفاً عن العلاقة بين الدماغ ووظائف الأعضاء مع التركيز على الدراسات التي بدأها الطبيبان فينسنت فيليتي (Vincent Felitti) وروبرت أندا (Robert Anda)، وقد تطور عمل الطبيبان في مجال تجارب الطفولة السلبية منذ ذلك الحين ليصبح مجالاً مزدهراً مع مئات الدراسات التي خضعت لمراجعة الأقران.

شاهد: أهم النصائح لحماية الطفل من المشاكل النفسية

الأشخاص الذين عانوا سوء المعاملة في مرحلة الطفولة أكثر عرضةً للإصابة بالسرطان والاكتئاب:

تُظهر النتائج أنَّ الأشخاص الذين عانوا سوء المعاملة في مرحلة الطفولة: الإهمال والإيذاء الجسدي والإيذاء الجنسي والإيذاء العاطفي، كانوا أكثر عرضةً للإصابة بالسرطان والاكتئاب عند سن البلوغ. كما وجدت الأبحاث أنَّ هناك علاقة مباشرة بين التوتر المزمن الذي يتعرض له الشخص في الطفولة وأمراض القلب والسكري والصداع النصفي ومتلازمة القولون العصبي في مرحلة البلوغ.

تعزو جوردان روزنفيلد (Jordan Rosenfeld)، وهي كاتبة تبلغ من العمر 43 عاماً، مشكلاتها الهضمية إلى طفولتها؛ فقد عاشت في كنف والدة مدمنة على المخدرات، وتتذكَّر أنَّها مرَّت بأيام لم يكن لديها شيء لتأكله، وعندما غادرت منزل والدتها بعد أن بلغت 18 عاماً أصبحت تعاني آلاماً مزمنة بعد تناول الطعام.

لاحظت روزنفيلد في مرحلة البلوغ أنَّ الطعام أصبح يشكِّل لديها هاجساً يجعلها تفقد السيطرة على أعصابها، وتقول: "مثلاً إذا خرجت مع أصدقائي، ولم نتخذ قراراً بشأن المطعم الذي سنأكل فيه، وأنا في حالة جوع، فمن المُحتمل جداً أن أنهار تماماً، ويمكنني بسهولة أن أعزو السبب إلى مرحلة الطفولة؛ إذ كانت أمي تجوعني لفترات طويلة؛ ممَّا سبب لديَّ نوعاً من القلق الناتج عن الصدمة".

تتذكَّر روزنفيلد أنَّه وُجِب عليها منذ سن مبكَّرة أن تُذكِّر أمها بضرورة شراء البقالة، وإيقاظها لكي تصطحبها إلى المدرسة قبل أن تتأخر، وتقول: "كنت أقوم بأمور كثيرة تندرج تحت الدور الأبوي، وكان الهدف من ذلك أن أعتني بنفسي، ولهذا السبب أعتقد أنَّني أجد صعوبة في الوثوق بالآخرين، وأميل إلى فعل كلِّ شيء بنفسي".

تتذكَّر والدة روزنفيلد، "فلورنس شيلدز" (Florence Shields) أنَّه كان وقتاً مُحبِطاً في حياتها مع ابنتها، وتقول: "عشت بسعادة لفترة من الوقت، وأعتقد أنَّ نظامي الغذائي بسبب الكحول والمخدرات لم يكن جيداً جداً؛ ولذلك من الممكن أن تكون روزنفيلد عانت ذلك"، وبصفتها مدمنة على الكحول تقول شيلدز التي تقاعدت الآن، وتعيش في بيتالوما (Petaluma) في ولاية كاليفورنيا (California): إنَّها تفتقر إلى أدوات الرعاية الأبوية بسبب تربيتها وتاريخها الحافل بالمعاناة.

لقد حزنت شيلدز عندما أصبحتْ أُمَّاً، وهي في الرابعة والعشرين من عمرها، بسبب وفاة شقيقها الأكبر الذي توفيَّ فجأة عندما كانت في الثامنة عشر من عمرها، وقد كانت المخدرات والكحول وسيلتها في التعامل مع هذه الصدمة، وتقول عن ذلك: "يستمر الشعور بالحزن؛ لأنَّك تفتقد شخصاً عزيزاً لم يعد موجوداً في حياتك، وكلَّما استجدَّ معك شيء مُحزن تشعر بأنَّ له علاقة بخسارتك لهذا الشخص".

حضرت كلٌّ من روزنفيلد وأُمِّها جلسات العلاج منذ ذلك الحين بوصفهما شخصَين بالغين، إلا أنَّ آثار قيام روزنفيلد بالدور الأبوي ما تزال مستمرة حتى الآن، وتدرك شيلدز أنَّ معاناتها السابقة مع الإدمان، قد أثَّرت في سلوك ابنتها، وقالت في مكالمة معي عبر الهاتف: "روزنفيلد منظَّمة ومنضبطة انضباطاً مبالغاً فيه".

عندما تزوج والد روزنفيلد مرةً أخرى وأنجب أطفالاً من زوجته الجديدة، تعلَّمت روزنفيلد أن تمارس دورها بوصفها مقدِّمة رعاية لأخوتها، وتقول روزنفيلد: "قضيت وقتاً كبيراً في رعايتهم عندما كانوا أطفالاً بينما كنت مراهقة، وأعتقد أنَّه أصبح صعباً بالنسبة إلي أن أتخلص من شعوري المرتبط بالدور الأبوي الذي مارسته".

تعتقد روزنفيلد أنَّ هذا هو السبب في حدوث خلافات بينها وبين أخوتها: "لطالما اعتقدت أنَّ واجبي تقديم المساعدة والرعاية والمشورة، وإن لم يُطلب مني ذلك"؛ لذا يجب أن نتساءل الآن، ما الذي يدفع بعض الناس إلى الاعتقاد بأنَّ الاعتماد على الذات أكثر أماناً من الثقة بالآخرين؟

تجيب ناكازاوا عن هذا السؤال بأنَّ الطفل الذي يؤدي الدور الأبوي لا يجد في طفولته شخصاً بالغاً يمكن الاعتماد عليه واللجوء إليه، وإذا كانت تجارب الطفل المبكِّرة في المنزل تتركز على التأكُّد من تلبية احتياجات الجميع، فسيشعر الطفل بأنَّ ما من أحد يهتم به.

هذا الشعور بالمسؤولية وواجب الرعاية القهرية يمكن أن يرافقه في علاقاته المستقبلية أيضاً، وتشرح روزنفيلد شعورها قائلةً: "أميل دون وعي إلى إسقاط تجربتي في الطفولة على الآخرين"؛ وهذا ليس مفاجئاً فهو ما تؤكِّده جيني ماكفي (Jenny Macfie) إحدى المشاركات في إدارة قسم التدريب السريري في جامعة تينيسي (University Of Tennessee) وباحثة بارزة في الوالدية؛ إذ تقول: "الأفراد البالغون الذين عانوا انعكاس الأدوار في مرحلة الطفولة، قد يواجهون صعوبة في تطوير هويتهم، وهذا بدوره قد يؤثِّر في العلاقات العاطفية للشخص".

خلال النصف الأول من زواجها كانت روزنفيلد تهتم بحاجات زوجها على حساب حاجاتها، ممَّا يظهر بوضوح تأثير طفولتها في سلوكها.

أكَّد آخرون هذا التأثير في تجربة الطفولة التي يؤدي فيها الطفل دوراً أبوياً؛ إذ تقول لورا إنَّها تعاني صعوبة في وضع حدود في علاقتها مع الآخرين، وهي تعزو ذلك إلى رعايتها لشقيقها الأصغر في سن مبكَّرة، وبالمثل تقول رينيه إنَّ إيجاد التوازن الصحيح بين توقعات الآخرين والاستقلالية، كان على الدوام مشكلة حقيقية في علاقاتها، وترغب في العثور على شريك حياتها؛ لكنَّها تعاني الشكوك وتعبِّر عن ذلك بالقول: "من السهل جداً أن أُستغَل بسبب ميلي إلى القيام بأدوار الرعاية".

لكن تتجاوز هذه الآثار الفرد عادةً بحسب دراسات أجرتها "نوتال" وعلماء آخرون، فإنَّ آثار قيام الأطفال بدور الرعاية الأبوية يمكن أن تمتد لأجيال لاحقة، وأوضحت نوتال أنَّ الأمهات اللاتي عانين عبء رعاية الوالدين في فترة الطفولة قلَّما يقدِّرن بطريقة صحيحة الاحتياجات والقيود الخاصة بنمو رضيعهن، ممَّا يؤدي إلى دور أبوي يفتقر إلى الحنان والتعاطف.

توجد - حالياً - أبحاث على الرَّغم من ندرتها عن جهود العلاج والوقاية تحاول فهم مدى قابلية الأفراد للشفاء من آثار طفولتهم التي قاموا خلالها بالدور الأبوي لمصلحة أخوتهم وآليته.

تعتقد ناكازاوا أنَّ التعرف الدقيق على العلاقة بين مرحلة الطفولة الأبوية وآثارها اللاحقة، يشكِّل خطوة في الاتجاه الصحيح، وتقول مبينة: "لقد تغيَّرت بنية الدماغ عضوياً ووظيفياً، كما طرأ تغيُّر على نظام المناعة، ودون التحقق من العلاقة بين تجربة الطفولة الأبوية وهذه الآثار، سيكون متعذراً البدء في رحلة الشفاء".

شاهد أيضاً: 7 أخطاء تدمر الطفولة

وجد بعضهم مجتمعاً لهم في جمعية "إيه آي أنون" (Al Anon)، وهي جمعية دعم لمدمني الكحول، وتوضِّح روزنفيلد: "تركِّز الجمعية بشدة على شرح ماهية الدعم المتبادل، وتقديم طرائق لتعلُّم السلوكات الجديدة".

تواظب روزنفيلد على حضور الاجتماعات منذ أكثر من عام، وقد لاحظت تغييراً كبيراً في سلوكها ووعيها فيما يتعلق بوضع الحدود في علاقتها مع الآخرين؛ إذ تقول: "لقد تعلَّمت أنَّني لا يمكنني إلقاء اللوم على الأشخاص الموجودين في حياتي والذين يعانون الإدمان، فأنا أيضاً لديَّ الخيار بأن أعتني بنفسي".

لكن على الرَّغم من النتائج السلبية المرتبطة بقيام الأطفال بالدور الأبوي، إلا أنَّ الباحثين يؤكِّدون أنَّ هذه التجربة، قد تحمل بعض الفوائد التي يمكن أن تساعد الأشخاص في وقت لاحق من حياتهم.

تعتقد هوبر أنَّ الأشخاص الذين مارسوا دور الرعاية الأبوية في مرحلة الطفولة يتمتعون بمرونة أكبر وقدر أكبر من الكفاءة الذاتية، وتدعم ناكازاوا هذا الاعتقاد: "يُعتقد في ثقافتنا الحالية أنَّ المرونة هي القدرة على تجاوز الصعوبات والمُضي قُدماً، لكن في الواقع المرونة هي قدرة الفرد على التعلُّم ممَّا حدث".

يوجد قاسم مشترك بين الأطفال الذين عانوا هذه التجارب في الطفولة، وهو ازدياد شعورهم بالتعاطف والقدرة على التواصل تواصلاً عميقاً مع الآخرين، وتستدرك ناكازاوا أنَّ هذا لا يعني أنَ نصرف النظر عن الآثار السلبية للتجربة؛ لكنَّ الفكرة هي أنَّ كثيرين منهم قادرون على استلهام الدروس من معاناتهم.

إقرأ أيضاً: الصحة النفسية للطفل: أهميتها، وطرق الاهتمام بها

تقول ناكازاوا: "يبدأ هؤلاء الأشخاص في إدراك أنَّ تحقيقهم للسعادة يعتمد في جزء منه على فهم الطريقة التي غيَّرت بها الصدمة حياتهم، وبمجرد أن يفعلوا ذلك سيكونون قادرين على فهم أهمية المرونة في حياتهم".

بالنسبة إلى لورا، الكاتبة المستقلة التي اعتنت بشقيقها منذ صغرها، فقد ساعدتها الاستشارة وجمعية "إيه آي أنون" على تقليل الشعور بالذنب تجاه شقيقها على الرَّغم من أنَّها تتمنى لو ثمَّة جمعيات تُعنى بالأشخاص الذين مارسوا الدور الأبوي تجاه أشقائهم في مرحلة الطفولة، وأصبح لديهم احتياجاتهم الخاصة بوصفهم بالغين.

على الرَّغم من أنَّ علاقتها بأخيها ما تزال هشة بسبب إدمانه، إلا أنَّها تطمئن عنه باستمرار من خلال الاتصال به باستمرار والاطمئنان عليه شهرياً، ويعترف شقيقها مارتن بأنَّ أخته تمثِّل بالنسبة إليه مصدر الدعم الإيجابي الأسمى في حياته، فعلى حدِّ وصفه وعلى الرَّغم من أنَّه ما يزال مدمناً، إلا أنَّ أخته تدعمه باستمرار، وتؤكِّد له أنَّ لديه فرصة لمستقبل أفضل.

أمَّا لورا فتقول: "توفيت أمنا وجدتنا في فترتين متقاربتين؛ ومن ثمَّ توفي جدنا بعدهما بحوالي السنة؛ لذلك لم يبقَ لنا سوى بعضنا بعضاً".

إقرأ أيضاً: 7 أخطاء يرتكبها الآباء تضر بالمرونة العقلية للأطفال

في الختام:

كما وضحَّنا من خلال الأمثلة التي ذكرناها في هذا المقال، فإنَّ الأشخاص الذين اضطروا إلى تأدية الدور الأبوي في طفولتهم، يعانون تضخُّم شعور الذنب والمسؤولية تجاه الآخرين، ويواجهون صعوبة في إيلاء الأهمية لاحتياجاتهم الخاصة.

أمَّا من جانب آخر فإنَّ لديهم القدرة على التعاطف، وتفهُّم عميق لاحتياجات الآخرين؛ لذلك فإنَّ العلاج لهذه الحالات يجب أن يستند إلى الدروس التي تعلَّمها الشخص من هذه الصدمة لتعزيز إيجابياتها والتخلص من سلبياتها.

المصدر




مقالات مرتبطة