كيف تضع حدوداً واضحةً في العمل؟

العمل ليس مرآة تعكس جوهر ما نظهره حتَّى لو كنا نحبُّ وظائفنا؛ فهناك ما هو أكثر من ذلك فينا، فوضع حدود واضحة في العمل الذي نقوم به هو أمر يساعد على الحفاظ على وقتنا وطاقتنا وتحقيق أهدافنا ومدى شعورنا بالرضى الوظيفي، وفي حين أنَّ بعض الحدود المتعلقة بالعمل عملية واضحة، إلَّا أنَّ بعضها الآخر أكثر مرونة وغير ملموسة، على سبيل المثال: في مرحلة ما من فترة عملنا، نحتاج بالتأكيد إلى الحصول على قسط من النوم، وبالفعل هناك حدود تضمن لنا حدوث ذلك.



ملاحظة: هذا المقال هو مقتطف؛ مأخوذ عن كتاب "إنشاء مساحة: كيف تعيش حياة سعيدة عبر وضع حدود تعمل لصالحك" (Making Space" How to Live Happier by Setting Boundaries That Work for You) للمؤلف "جين هاردي" (Jayne Hardy)، والذي يُحدِّثُنا فيه عن طرائق لوضع حدود واضحة في مكان العمل والالتزام بها.

لا يعني وضع حدود واضحة في العمل أنَّنا لن نفكر في العمل في أثناء فترة راحتنا، ولا يعني أنَّنا لن نفكر في الأمور الشخصية في أثناء وقت العمل، فنحن غير قادرين على تغيير مَن نحن أو ما نملك، وبدلاً من ذلك، وضع الحدود أمرٌ يشجعنا على تخصيص وقت للعمل ووقت لإعادة شحن طاقتنا، ولكن يجب أن يكون هناك تحول ملموس في طريقة تفكيرنا، وأن نرفع عن أنفسنا عبء المسؤولية في مكان العمل، وأن نشعر بأنَّنا انتهينا من إنجاز مهام اليوم.

إليك كيف يمكننا البدء بتحديد حدود العمل والالتزام بها من خلال النصائح التالية:

1. افهم قيمتك:

إذا لم نشعر بأنَّ الجهد الذي نبذله كافٍ، فيمكننا تمضية المزيد من الوقت في عملنا في محاولة التأكُّد من كفاية إنتاجيتنا في العمل والفائدة التي نقدمها، وأنَّه لا غنى عن دورنا الذي نقوم به، ولكن عند القيام بذلك، فإنَّنا ندفع أنفسنا نحو الإرهاق؛ حيث إنَّه كلما فعلنا ذلك، زاد شعورنا بعدم كفاية ما نقوم به.

بالإضافة إلى ذلك، سيعتاد الأشخاص من حولنا على الحصول على مستوى معين من الإنتاج الذي نقدمه في العمل، ومن المرجَّح ألَّا نرفض القيام بأي شيء يُطلَب منا حتى عندما نريد أن نرفض ذلك ضمنياً.

نمتلك جميعنا مواصفات ثمينة حتى لو لا نستطيع أن نراها؛ حيثُ إنَّ دمج الخبرات التي نمتلكها مع مجموعة المهارات والطاقة والرؤى ووجهات النظر أمرٌ يعكس قيمة فريدة يمكننا تقديمها؛ إذ إنَّه لا يوجد أحد مثلنا.

إنَّ إدراك قيمنا وقيمتنا يعني أمراً واحداً؛ ألا وهو وعينا لذاتنا وتقديرنا لإنجازاتنا التي قدمناها، والتي نستطيع أن نقدمها، كما أنَّ ذلك يوضِّح الطريقة التي نتواصل بها والوقت الذي نختاره للتواصل، بالإضافة إلى تحديد الأمور التي نكون على استعداد للقيام بها من أجل كسب التقدير أو عدمه، وما الذي يدفعنا إلى القيام به، ومدى احتمالية الاعتراض عندما يتم تجاوز حدودنا التي وضعناها في العمل؛ إذ عندما نُقدِّر أنفسنا ووقتنا وطاقتنا ومهارتنا وخبراتنا، فإنَّنا نصبح أكثر قدرة على تحديد ما نأخذه على عاتقنا، والجوانب التي يمكننا الاستغناء عنها ونحن سعداء.

2. كن واضحاً:

عند بدء أي حديث مع الآخرين نرغب فيه تأكيد حدودنا، نقدم الأعذار كي لا نطيل الحديث؛ حيث نقول أشياء مثل: "آسف على إزعاجك، ولكنَّني أودُّ تحديث برنامج ما"، أو يمكنك القول: "أنا أكره أن أكون شخصاً مزعجاً، ولكن هل يمكنني التحدثُّ إليك لمدة ساعة؟".

لسوء الحظ، فإنَّ الاعتذار يجعلنا نبدو كما لو أنَّنا لا نريد التحدث، أو أنَّنا نقاطع شخصاً ما قبل بدء حديثه؛ حيث يؤدي تقديم هذه الاعتذارات أيضاً إلى سوء فهمنا؛ إذ يصبح المعنى الذي نقصده غير واضح؛ لذلك، عندما نتواصل مع الآخرين بصدق ووضوح، فإنَّنا لا نعطي الآخرين المجال لإساءة فهمنا، كما أنَّه يجعل الآخرين يفعلون الشيء نفسه؛ مما يعني أنَّهم لن يضطروا إلى تفسير ما قيل لهم.

لا بأس بتأكيد حدودنا، وتغيير رأينا، ومشاركة وجهة نظرنا حول موضوع معين، وفي أن نكون حازمين ونُعبِّر عن رأينا مباشرة، وإنهاء المهام التي تأخرنا عن تقديمها في المواعيد المحددة لها، كما أنَّه لا بأس في التواصل مع الآخرين والمطالبة بإجراء التعديلات والتغييرات.

شاهد بالفديو: 5 خطوات لوضع حدود شخصية لنفسك

3. أَدِر التوقعات وتفاوض من أجلها:

عندما نبدأ أي عمل، يكون واضحاً ما هو الوصف الوظيفي المرتبط بعملنا وعقد العمل، أو مجموعة أساسية من التوقعات المتبادلة بيننا وبين مدير العمل، ففي مقابل القيام بهذا العمل أو بذلك، يمكننا أن نتوقع تلقِّي تعويض بطريقة أو بأخرى؛ إذ إنَّه في بداية الأمر، يمكننا رفض أيَّة وظيفة ما لم نتوافق مع أي بند من البنود المنصوص عليها في عقد العمل، أو بدلاً من ذلك يمكننا التفاوض؛ حيث إنَّه بمجرد مرور وقت معين على بدء العمل، من المرجَّح أن يُطلَب منا القيام بمهام ومشاريع أخرى؛ لذلك قد نطلب إجراء بعض التعديلات في أماكن العمل.

من الممكن أن يتطور وضعنا في العمل، وهذا يُعدُّ أمراً جيداً طالما بقيَت التوقعات المتعلقة بالعمل واضحة وواقعية واتُّفِقَ عليها بشكل متبادل، ولكن في كثير من الأحيان يكون الواقع عكس ذلك تماماً.

عندما لا تكون التوقعات المتعلقة بالعمل محددة بوضوح أو مفهومة أو حتى مُتَّفق عليها، فإنَّها تسبب المزيد من الضغط للأطراف جميعها، وهنا تأتي أهمية إدارة التوقعات؛ لأنَّه غالباً ما تكون هناك عواقب تظهر عندما لا تُنفَّذ التوقعات.

إقرأ أيضاً: كيف تساعد المديرين على إجراء محادثات صعبة في العمل؟

4. حدِّد الأشياء التي لا تقبل التفاوض بشأنها:

معظم قرارات العمل التي نتخذها تنطوي على عواقب وتقديم تنازلات، فإذا طُلِبَ منا العمل لوقت إضافي، فهناك مقايضة تحدث في مكان آخر؛ إذ ليس من الممكن أن نعمل في مكانين في الوقت نفسه، وإذا لم ندرك ماذا يجري، فربما لن نتمكن من التفكير في الأشياء التي نتخلى عنها.

من المفيد أن تكون لديك قائمة بالأشياء التي لا تقبل التفاوض بشأنها، والتي تكتبها مسبقاً عندما يكون لديك الوقت والمساحة لتقييم الآثار المترتبة على الخيارات التي قد تتخذها في مجال العمل.

إذا وافقنا على القيام بعمل إضافي، فما هو الشيء الذي يمكن أن نرفضه؟ وما هو الشيء الذي نقبل القيام به؟

ربما القيام بعمل إضافي يبعدنا عن أحبائنا، لكنَّه يساعدنا على توفير المال، وربما من أحد الأشياء الحتمية التي لا يمكننا التفاوض بشأنها هي شرب كمية معينة من الماء يومياً؛ مما يعني أنَّنا بحاجة إلى تخصيص الوقت لشرب الماء.

يبدو الأمر بسيطاً، أليس كذلك؟ لكنَّ الكثيرين منا يُبقُون تركيزهم في عملهم ويبذلون قصارى جهدهم خلال اليوم كي ينجزوا عملهم، ولكن سرعان ما ينتهي بهم الحال بصداع شديد، وربما السبب في ذلك هو الجفاف الناجم عن قلة شرب المياه، وعدم أخذ استراحة من الجلوس أمام شاشات الحاسوب أو القيام بأيَّة استراحة على الإطلاق.

قد تكون من الأشياء غير القابلة للتفاوض هي أنَّنا لا نريد أبداً تفويت أمسية مع الوالدين، أو حضور مسرحية أو نشاط مدرسي، أو الاهتمام بأطفالنا عندما يمرضون، وقد يكون علينا الذهاب إلى نادٍ للكتاب، أو حضور مباراة، أو مجموعة دعم لا نريد مطلقاً تفويتها.

كما يمكن أن تكون الأشياء غير القابلة للتفاوض لدينا تتعلق بطرائق التواصل بنا؛ فربما لا نريد أن يتصل بنا زملاؤنا في العمل عبر "واتس أب" (WhatsApp) أو عبر إرسال الرسائل النصية أو وسائل التواصل الاجتماعي؛ وذلك لأنَّنا نُفضِّل استخدامها مع أصدقائنا المقربين وعائلتنا، ويساعدنا إنشاء قائمة بالأشياء غير القابلة للتفاوض على اكتشاف ما هو هام بالنسبة إلينا، ومن هنا يمكننا إنشاء الحدود والتواصل والتفاوض بشأنها لدعم أولوياتنا وحمايتها.

إقرأ أيضاً: متى يتوجب عليك رفض المهام الإضافية في العمل؟

5. ضع حدوداً في مجال العمل عن بُعد:

يبدو العمل من المنزل أمراً مثالياً لأولئك الذين لم تتح لهم الفرصة مطلقاً للعمل في المكتب، ولكن كما يعلم الكثير منا، فإنَّ العمل الحر له مجموعة فريدة من المسائل المتعلقة بوضع الحدود؛ إذ إنَّ جوانب العمل عن بُعد التي يجب النظر بها تشمل التخلص من مجموعة جديدة وكاملة من المشتتات المحتملة، والحاجة المُلحة إلى الانضباط الذاتي، والاضطرار إلى خلق أسباب لمغادرة منزلك واستنشاق الهواء النقي، ومعرفة الوقت المناسب للتوقف عن العمل عندما تكون دائماً في مكان عملك.

وفي بعض الأحيان تصبح مصادر تشتيت الانتباه في أثناء العمل أكثر عندما نعمل عن بُعد؛ وذلك لأنَّنا في نهاية المطاف نتلقى المزيد من الرسائل والأسئلة عبر البريد الإلكتروني أو عبر منصات مثل "سلاك" (Slack).

يتطلب منا العمل عن بُعد وعياً متزايداً لإفساح المجال لأنفسنا في أوقات العمل وخارجه؛ لذلك فإنَّ ما نحتاج إلى القيام به هو التحدُّث إلى زملائنا في العمل بوضوح، لضمان فهم حدودنا واحترامها.

6. احذر الاحتراق الوظيفي:

عرَّفت منظمة الصحة العالمية الاحتراق الوظيفي على أنَّه: "متلازمة صُوِّرَت على أنَّها ناتجة عن إجهاد مزمن في مكان العمل لم يُدَر بنجاح"، وينصُّ هذا التعريف على أنَّ هذه المتلازمة تتميز بـ: "مشاعر استنزاف الطاقة أو الإرهاق، وازدياد الضغط الذهني أو المشاعر السلبية المتعلقة بعمل الفرد، وانخفاض الكفاءة المهنية".

يمكننا أن نتحلى بمشاعر الشغف التام تجاه وظائفنا - وأن نشعر بالاكتفاء وأنَّنا نملك الهدف والتحفيز - ومع ذلك ما زلنا نشعر بالاحتراق الوظيفي؛ إذ إنَّه في الواقع، كلَّما شعرنا بمزيد من الشغف تجاه عملنا، كان من الأسهل بالنسبة إلينا تبرير الساعات الطويلة التي نقضيها في العمل؛ وذلك لأنَّنا حينها نستمتع بما نقوم به ونجد هدفاً فيما نعمل على إنجازه.

ذلك الدافع والمثابرة والعاطفة والتركيز ليست جميعها قيم نملكها كي نقدمها بطريقة غير محدودة؛ بل يجب علينا تنميتها، ولا يمكننا فعل ذلك إلَّا من خلال الابتعاد عن العمل وخلق حياة خارج إطاره نستمد منها المتعة أيضاً.

تمجيد العمل لا يخدم أي شخص؛ فالأشخاص الذين يستطيعون التوقف هم من لديهم الحق في ذلك وليس الأشخاص الذين يُرهِقون أنفسهم في العمل والذين يتجاهلون دائماً احتياجاتهم لإنجاز شيء ما، فلن يتَّخذ أي أحد منا من الشخص الذي يقضي حياته متعباً ومنهكاً في العمل مثالاً يحتذى به ويتبع خطاه، ولكنَّ هذا هو النوع من الأشخاص الذي نتَّجِهُ كي نصبحَ مثله إذا واصلنا الاستمرار في العمل دون أخذ أيَّة استراحة ودون وضع حدود في عملنا.

عندما نغرق في العمل، يصبح من السهل ألا نرى بوضوح ما هو هام حقاً، وعندما تغرينا المكاسب المادية التي تحجزنا لإنجاز العمل الإضافي في مواعيد لا نهاية لها، علينا أن نأخذ في الحسبان التأثيرات على الأمد الطويل والناجمة عن قبولنا لأي عمل.

رغم أنَّ التوقف عن العمل قد يؤدي إلى نتائج عكسية، إلَّا أنَّه يؤدي دوراً هاماً، فيجب أن تكون هناك مسافة بين الانشغال بالاهتمام بالذات والانشغال بالعمل؛ حيثُ يُعَدُّ أخذ فترات من الراحة التي يحق لنا الحصول عليها طريقة جيدة للحصول على مساحة، مثل استراحات شرب القهوة، وتناول الغداء، ووقت الإجازة.

توفير المساحة عن طريق أخذ فترات راحة لا يعني أنَّنا فقدنا حماستنا أو إخلاصنا أو تحفيزنا تجاه العمل؛ بل إنَّه ببساطة يزيد من قدرتنا على الاستمرار في تسخير شغفنا وتفانينا في العمل وتحفيزنا.

المصدر




مقالات مرتبطة