كيف تضع حدوداً صحية في علاقاتك مع الناس؟

يُعَدُّ موضوع الحدود الصحية من أهم الركائز لبناء العلاقات المتوازنة؛ لأنَّ مقدرتك على وضع حدود صحية مع من حولك تحدِّد مدى ثرائك في الحياة، ولا يوجد إنسان ناجح أو متمكِّن على وجه الأرض إلَّا ولديه حدود صحية في علاقاته يُلزم بها من حوله، على عكس الشخص الأقل نجاحاً الذي تكون حدوده مخترقة من جهات عدة.



ما هي الحدود؟

الحدود هي قاعدة أو حدٌّ تضعه مع شخص آخر لِما تَعدُّه مقبولاً وغير مقبول، وعندما تبني حدوداً جيدة مع الآخرين، فإنَّك تحدِّد احتياجاتك ورغباتك بطريقة حازمة، ولكنَّها ليست عدوانية، ويمكنك أيضاً مناقشة أشياء لا تحبها أو لا تشعر بالراحة إزاءها.

عدم وجود حدود يجعل تفكيرك مشوَّشاً:

على سبيل المثال، عندما تصل إلى مفترق طرق، وتفكِّر في اختيار الطريق الأمثل لك، أو تعرَّضت لمشكلة وتريد اتخاذ الطريق الأمثل للحل، فستجد نفسك عاجزاً عن إيجاد الحل، أو مرتبكاً في اتخاذ قرارك، أو تشعر بأنَّ محاكمتك العقلية للمعطيات مشوَّشة؛ وذلك لأنَّ حدودك الصحية مُخترقة، ويدخل إليها ما يدخل من آراء ووجهات نظر وطاقات مختلفة التوجهات والنوايا؛ لذا يجب عليك أن تعيد إغلاق هذه الحدود حتى يتسنَّى لك التفكير بصفاء، من أجل اتخاذ قرارات تصبُّ في مصلحتك الشخصية وليس مصالح الآخرين.

لماذا نستصعب عادة وضع حدود صحية في علاقاتنا وحياتنا؟

السبب الأهم هو البيئة الاجتماعية، كلنا ولدنا وكبرنا في مجتمعات عربية، والتي يُميِّزها التلاحم، أو الحميمية الاجتماعية، عكس البرود الأوروبي المعروف، وهذا التلاحم جميل ورائع وصادق، ولكنَّه يمحي الحدود الشخصية؛ إذ تعَدُّ أغلب المجتمعات العربية نفسها كتلة واحدة أو مجموعة واحدة، وكل من يريد الاستقلال أو وضع حدود صحية في علاقاته مع أبناء الجماعة يتعرض للطرد أو النبذ أو تقليل القيمة؛ لذا نحن تربينا على أنَّ وضع الحدود أمر مكروه؛ فنجد صعوبة في تطبيقها.

يبقى لدينا الخوف من وضع هذه الحدود؛ لأنَّنا نعرف بأنَّها قد تعرضنا للرفض، ونحن مخلوقات اجتماعية تخاف الرفض، وتمت برمجتنا على أنَّ معيار قبولنا في العائلة أو المجتمع هو ألَّا نضع حدوداً صحية في علاقاتنا ونكون مخترقين من جميع الجهات.

إقرأ أيضاً: نصائح لتأسيس وبناء علاقات اجتماعيَّة ناجحة

كيف نتغلَّب على هاجس الخوف من وضع حدود صحية ضمن علاقاتنا الاجتماعية؟

ما يجب علينا فعله لكسر هذه البرمجة والتغلُّب على العواطف السلبية التي تتحكَّم بنا كلَّما أردنا رسم حدود صحية في علاقاتنا، هو تغيير نمط العلاقة مع الذات؛ أي أن نتعلَّم أن نحبَّ ذاتنا مثلما هي، بصرف النظر عن آراء الآخرين، وبصرف النظر إن قبلنا الآخرون أم رفضونا، ويجب أن نقتنع في أعماقنا أنَّنا محبوبون كما نحن، ومقبولون كما نحن، ومن يحبنا حقاً يُحبنا في جميع حالاتنا وظروفنا، شرط ألا نؤذي أحداً.

ماذا يحدث عندما نقرِّر وضع حدود صحية في علاقاتنا؟

إنَّ أول ما يمكن أن يعترض طريقنا عندما نبدأ وضع الحدود، هو محاولة الآخر محاربتك من خلال إشعارك بالذنب بكل الطرائق الممكنة، فلن يُسرَّ أي شخص يشعر بأنَّك تبتعد عنه، أو تضع حدوداً بينك وبينه؛ لذلك سيلجأ إلى سلاح الذنب، كأن يقول لك إنَّك تغيَّرت عن السابق، ولم تعد كما كنت، وأين ذلك العطاء والكرم الذي كنت تقدِّمه في الماضي، إنَّه يحاول إشعارك بأنَّك مذنب، وقد غيَّرت صفاتك الجميلة التي كنت تتمتَّع بها في ماضيك، من أجل تحفيزك لكسر الحدود التي بنيتها وإعادة حالة الاندماج أو الاختراق.

لذلك؛ إنَّ أهم شيء يجب عليك توقعه عند وضع حدود، هو توقع شعور الذنب، وتوقع رد فعل الآخرين تجاه حدودك الجديدة؛ لذا يجب عليك تقبُّل هذا الأمر عند حدوثه بوصفه جزءاً لا يمكن تفاديه من عملية بناء الحدود، فقد يكون الموضوع صعباً في بداية الأمر، ولكنَّه يُصبح أسهل فيما بعد، لكنَّه يحتاج إلى قليل من الصبر.

مثال من الحياة العملية يوضِّح طريقة وضع حدود صحية:

على سبيل المثال، يوجد شخص في العائلة قادر على العمل والإنتاج، ولكنَّه لا يريد العمل، واعتاد أن تقدِّم له كل شهر 20% من راتبك، وعندما شعرتَ بأنَّك تحتاج إلى رسم حدود صحية جديدة والتوقف عن إعطائه المال؛ لأنَّه قادر على العمل، ولكنَّه شخص كسول، فهل تتوقع أن يسرَّه الأمر أو أن يكون متقبِّلاً لقرارك؟

الجواب طبعاً لا، سيستنكر فعلك هذا، ويعدُّه خيانةً أو قِلَّة وفاء، وسيبدأ استدراجك إلى منطقة الذنب، ويذكِّرك بأيام الطفولة، وكم ساعدك في الماضي، وكم قدَّم لك من المال والدعم، وقد ينجح في إشعارك بالذنب، وهذا طبيعي في البداية، فكل ما عليك فعله في هذه المرحلة هو الصبر والانتظار حتى يتلاءم هو مع الوضع الجديد وتصبح الحدود الجديدة هي الحدود الطبيعية، حينها ستجد الآخر قد هدأ واستوعب الأمر والتزم بالحدود الجديدة التي وضعتها.

يجب أن نتذكَّر أنَّنا في بداية وضع الحدود، قد نواجه الرفض والشعور بالذنب أو العار، وأنَّ عملية وضع الحدود لا علاقة لها بقبول الطرف الآخر أو رفضه؛ لأنَّ الحدود في الحقيقة هي بينك وبين نفسك، وهي ما تقبله في حق نفسك وما ترفضه من أجلها.

شاهد بالفديو: 6 مفاتيح أساسية للتواصل بشكل فعّال مع الآخرين

ما هي أهمية وجود الحدود الصحية في علاقاتك مع الآخرين؟

لقد وجد معظم الباحثين أنَّ وضع الحدود يحسِّن صحتك العقلية وحالتك المزاجية، فمن دون حدود، من الصعب أن تكون مدركاً لذاتك ومستقلاً، فإذا كنت تتماشى مع ما يقوله ويفعله الآخرون ولا تتحدث أبداً عمَّا تريد القيام به، فأنت تضحي برغباتك من أجل الآخرين، وهذا أمر غير صحي أبداً، فالحدود هامَّة؛ لأنَّك يمكن أن تشعر بالاستغلال أو الاستياء دونها.

توجد عدة أسباب أخرى تجعل الحدود ضرورية:

1. حتى لا يتم تجاوزك:

تتطلَّب الحدود الحزم حتى تكون فعَّالة، فإذا كنت تواجه مشكلة في التعبير عمَّا تحتاج إليه والتحدث عنه، فقد تجد نفسك في أماكن أو مواقف لا تريد التواجد فيها.

يُعرِّف الباحثون الحدود الصحية بوصفها القدرة على الدفاع عن اهتماماتك حتى لو لم تتوافق مع رغبات الآخرين، فعندما تكون حازماً مع الآخرين، فإنَّك تهتم بنفسك وباحتياجاتك، ولا يعني الحزم أنَّك لا تستطيع المساومة على الإطلاق.

2. لكي تتجنَّب الإرهاق:

ربما سمعت أشخاصاً يقولون إنَّهم مرهقون، الإرهاق هو الإجهاد العقلي والجسدي الذي يجعلك تشعر بالحزن، وتواجه صعوبة في التركيز أو إنجاز المهام، على سبيل المثال، إذا بدأت في أخذ العمل معك إلى المنزل، وضحَّيت بوقتك الشخصي لإكمال المهام، فقد يكون هذا مُربكاً؛ لأنَّك لا تحافظ على حدود جيدة بين عملك وحياتك الخاصة.

تشير الأبحاث إلى وجود ارتباط كبير بين الإرهاق ومشكلات الصحة العقلية، مثل الاكتئاب، والقلق؛ لذا إذا كنت تعاني من الإرهاق، فقد حان الوقت للنظر في وضع الحدود.

إقرأ أيضاً: الإرهاق في العمل وطرق مواجهته

3. من أجل تكوين علاقات صحية والحفاظ عليها:

يمكن أن تطوِّر علاقاتك مع الآخرين من خلال وضع الحدود الصحية، فعندما تضع حدوداً صحية في علاقاتك، فمن غير المحتمل أن تشعر بالاستياء من الآخرين؛ إذ تعدُّ الحدود ضرورة في العلاقات حتى تتمكَّن من الوصول إلى حالة توازن صحي بين الاستقلالية والاعتماد المتبادل على بعضكما بعضاً.

أهمية وضع الحدود على مستوى وسائل التواصل الاجتماعي:

يمكن أن تؤثر وسائل التواصل الاجتماعي في العلاقة وتثير حالة من عدم الأمان، على سبيل المثال، قد يفضِّل شريكك مشاركة تفاصيل علاقتكما عبر الإنترنت، في حين ترغب أنت في الحفاظ على خصوصيتك، أو ربما ما يزالون أصدقاء مع شركائهم السابقين على وسائل التواصل الاجتماعي، الأمر الذي قد يكون غير مريح بالنسبة إليك، فيمكن أن تكون عادات وأنشطة وسائل التواصل الاجتماعي متعجرفة ومبالغاً بها؛ لذا ناقش الأمر مع شريكك، وضع حدوداً لوسائل التواصل الاجتماعي، وسيحمي هذا خصوصيتك، ويمنع أيضاً مشكلات الثقة وسوء الفهم.

في الختام:

القدرة على وضع حدود صحية لها علاقة وثيقة بنجاحك في الحياة، وسلامك النفسي، وتوازنك الفكري والعاطفي، فانهيار هذه الحدود أو اختراقها أو عدم وجودها، يعني أنَّك أصبحت متأثراً جداً في الآخرين، أو تسير وَفق رغباتهم، أو تعمل وفق طاقاتهم؛ لأنَّك تكون قد فقدت اتصالك المباشر بذاتك وقدراتك.




مقالات مرتبطة