كيف تشعر بالرضا بما لديك؟

تصوَّر أن تتوجه إلى غرفة البريد الخاصة بمكان عملك، لتجد ظرفاً بداخله رسالة من مديرك، بالطبع، سوف تهرع للعودة إلى مكتبك لقراءة محتوى الرسالة، وفي هذه الأثناء تتبادر إلى ذهنك التساؤلات التالية: هل ارتكبتَ خطأً ما؟ أم بذلتَ جهداً يستحق الثناء؟ أم ستتولى منصباً مهماً في المنظمة التي تعمل لمصلحتها؟



تصل خلال زمن قياسي إلى مكتبك وتُخرج الرسالة من الظرف لتعرف فحواها، ويتبين أنَّها موجَّهة لك شخصياً من مديرك يثني من خلالها على إنجازاتك الأخيرة وتفانيك في العمل لمصلحة المنظمة، وينبِّئك بالحصول على زيادة راتبك بمقدار 10000$ في السنة، كم كانت سعادتك كبيرةً، فلم تكن تتوقع حدوث ذلك، وتكاد لا تسعك الفرحة جرَّاء سماعك لهذا الخبر السار.

ترسل نسخةً من الرسالة إلى زوجتك التي تعمل أيضاً لمصلحة المنظمة ذاتها، لترد عليك بدورها بنسخة من رسالة كانت قد تلقَّتها اليوم لتوِّها، وهي موجَّهة أيضاً من مدير الشركة، ينبئها من خلالها بحصولها على علاوة بمقدار 12000$ في السنة كتقدير لها على ما تبذله من جهود في خدمة المنظمة، وخلال الساعة التالية، تكتشف أنَّ العديد من زملائك في العمل قد تلقُّوا أيضاً رسائل مشابهة، وأنَّ كلاً منهم قد حصل على علاوة أكبر من تلك التي حصلتَ أنت عليها.

قبل ساعة من الآن، كنتَ ترقص من الفرح حيال نبأ حصولك على علاوة وتقدير مديرك لجهودك العظيمة وثنائه عليها، إلا أنَّك الآن وبعد ساعة فقط، تشعر بالضيق الشديد وتخطط للعودة إلى منزلك باكراً كي تتجنب لقاء أي من زملائك في العمل؛ إذ تحوَّلَت فرحتك العارمة سريعاً إلى شعور بالخزي والإحراج، ولم تَعُد راغباً برؤية أحد منهم بعد الآن.

في طريق العودة إلى المنزل، تجري مكالمةً هاتفية مع الشخص الوحيد القادر على تحسين حالتك الآن: والدتك، التي بدورها سوف تهنئك وتعلمك بمقدار سعادتها لسماع خبر سار كهذا، وبأنَّه ينبغي عليك التركيز على النصف الممتلئ من الكأس، فقد حصلتَ لتوِّك على علاوة بمبلغ 10000$ والتي من شأنها أن تسهِّل حياتك على نحوٍ كبير في المستقبل.

بعد أن تنهي مكالمتك الهاتفية مع والدتك، تشعر بمزيد من الاضطراب وبأنَّك مثير للشفقة، وتجد نفسك عاجزاً عن الفرح من أجل زوجتك لحصولها على العلاوة، والتي ستعود بالنفع عليك وعلى الأولاد، مما سيزيد إحساسك بالسخط.

شاهد بالفديو: كيف تعيش حياتك برضا تام؟

ما الذي أدى إلى تبدُّل مشاعرك إلى هذه الدرجة؟ لنحاول التفكير معاً في السبب الذي قد يدفعنا جميعاً لاختبار الإحساس بمشاعر سلبية أكثر من الإيجابية منها في حال تعرَّضنا لموقف مماثل؛ أي من الموقفين التاليين كنتَ لتختار؟

  • الحصول على علاوة بمقدار 9000$ في حين لا يتلقى زملاؤك أيَّة زيادة في رواتبهم أو يحصلون على علاوة بمقدار 5000$.
  • الحصول على علاوة بمبلغ 10000$ في حين يتلقى زملاؤك زيادةً في رواتبهم أكبر من تلك التي حصلتَ عليها.

في الواقع، ولأنَّنا محكومون بطبيعتنا البشرية، فإنَّنا على الأرجح سنفضِّل الخيار الأول.

قد يبدو الأمر غير منطقي في البداية؛ وذلك لأنَّك لم تختر الحالة التي تسمح لك بالحصول على المزيد من المال، والتي هي الحالة الثانية، ولكن لنواجه الأمر، إنَّ الراتب الذي يتقاضاه الموظف هو مؤشر على المكانة التي يحتلها في الشركة التي يعمل لمصلحتها، وفي ظل وجود الكثير من المؤشرات الاقتصادية في عالمنا، فإنَّ الراتب هو تعبير عن مكانتك وقيمتك الاجتماعية أكثر من كونه مبلغاً من المال تتقاضاه مقابل أداء عملك، وذلك بحسب الباحث الاقتصادي "روبرت فرانك" (Robert Frank).

علم النفس التطوري المرتبط بالمكانة الاجتماعية:

لقد أخذ العقل البشري بالتطور منذ أن عاش الإنسان ضمن مجتمعات قبلية صغيرة عبر آلاف السنين بحسب البروفيسور في علم النفس "غلين غيهير" (Glenn Geher)، وفي ظل تلك الظروف، إذا كان المرء منبوذاً أو ذا مكانة اجتماعية متدنية، فإنَّ ذلك يهدد بقاءه على قيد الحياة، ومن ثمَّ تطوَّر الإنسان ليعتمد على الآخرين، وغدت المكانة المرموقة طريقةً للتأكد من أنَّ الآخرين يدعمونه ويساندونه في حياته.

ولهذا السبب، تطورنا لنصبح على درجة عالية من الحساسية إزاء ما يحدد مكانتنا الاجتماعية، وذلك بحسب المقال الذي نشره عالما النفس "دايفيد باس" (David Buss) و"سارة هيل" (Sarah Hill) عام 2010، ومن المعروف أنَّ العوامل التي تهدد مكانتنا الاجتماعية يترتب عليها آثار عاطفية سلبية كالإحساس بالتوتر والخزي والإحراج، كما هو الحال في المثال الذي أتينا على ذكره سابقاً، فعندما يتعلق الأمر بتطورنا النفسي الاجتماعي، فإنَّ العقل البشري بطبيعته نسبي للغاية.

ولهذا السبب، نميل عادةً إلى اتخاذ قرارات قد تبدو غير منطقية في الظاهر؛ حيث يفضِّل بعض الناس الحصول على منصب رفيع المستوى كمدير أو نائب مدير على سبيل المثال، ويمكِن أن يلجأ بعضهم الآخر إلى إنفاق مبالغ تفوق رواتبهم للعيش في منزل رائع بالكاد يستطيعون تدبُّر نفقاته، كي يتمكنوا من مجاراة الوضع الاجتماعي لأحد المعارف من أصدقاء أو جيران، ويمكِن لكثير منا أن يحبذ عدم الحصول على زيادة في راتبه على الإطلاق مقابل ألا يتلقى علاوة أقل من تلك التي سيحصل عليها رفاقه في العمل.

لا يبدو اتخاذ أي من هذه القرارات أمراً عقلانياً، ولكن إذا أخذنا بالحسبان مدى نسبية تطوُّرنا النفسي الاجتماعي، فإنَّ الأمر برمَّته سيغدو منطقياً.

إقرأ أيضاً: نصائح مهمة تساعدك على توفير أموالك بعيدًا عن الإسراف

الجانب المظلم للحسد في التجربة الإنسانية:

في حين أنَّ للتجربة الإنسانية جوانب سلبية عدة، إلا أنَّ الحسد هو أحد أسوأ تلك الجوانب؛ حيث ينبع شعورك بالحسد من رغبتك في حيازة ما لدى غيرك، ولا بُدَّ من الاعتماد كلياً على علم النفس التطوري المرتبط بالمكانة الاجتماعية عندما يتعلق الأمر بتحديد مكانتنا الاجتماعية، وذلك بحسب البروفيسور في علم النفس "دانييل ديلبريور" (Danielle Delpriore) وعالمي النفس "سارة هيل" (Sarah Hill) و"ديفيد باس" (David Buss).

لا يبدو الحسد أمراً منطقياً على الإطلاق، فلنفترض أنَّك شخص تحب السفر، وكنتَ تستمتع بحضور حفل عند اكتشافك بأنَّ عدداً من أصدقائك المقرَّبين حجزوا رحلةً مدتها أسبوعين إلى منطقة سياحية، في حين أنَّك في اليوم ذاته، درستَ وضعك المادي مع زوجتك، وبناءً على ذلك تبيَّن أنَّ عليكما الاكتفاء بقضاء إجازة قصيرة على شاطئ محلي لهذا العام.

من المفترض أن تكون سعيداً من أجل أصدقائك، وتتمنى لهم قضاء وقت ممتع في رحلتهم، ولكن كما ذكرنا آنفاً، فإنَّ الطبيعة البشرية لن تسمح لك بأن تنظر إلى الأمر على هذا النحو، والكثير منا قد يشعر ولو بقليل من الحسد في موقف كهذا، وستجد نفسك عاجزاً عن التعبير عن سعادتك حيال ذهاب أصدقائك مع أطفالهم للاستمتاع بالعطلة.

إنَّ القدرة على السفر هي بالتأكيد نوع من الترف وشكل من أشكال الرفاهية، والتي من شأنها تعزيز مكانتك الاجتماعية، وإنَّ الجانب المظلم للشعور بالحسد تطوَّر ليدفع الناس إلى عمل كل ما بوسعهم للارتقاء بمكانتهم الاجتماعية، بغضِّ النظر عن الجوانب السيئة التي قد يتجلى من خلالها الحسد في حياتنا.

الخلاصة:

بالنتيجة، ليس من السهل دائماً أن تكون راضياً بما لديك؛ إذ طور البشر على مر العصور عقليةً اجتماعية ذات طبيعة تقوم على المكانة الاجتماعية، وتدفعنا إلى تقييم مرتبتنا الاجتماعية باستمرار؛ حيث نشعر بالتهديد عندما تكون مكانتنا الاجتماعية منخفضةً ضمن بعض المجتمعات المحلية، وفي إمكاننا فهم ذلك من وجهة نظر تطوُّرية، حيث إنَّ أسلافنا الذين عاشوا ضمن مجموعات صغيرة مترابطة، ولم يتمتعوا بمكانة اجتماعية عالية، كانوا أقل قدرةً على جني المنافع من الآخرين؛ لذا فقد طورنا الشعور بالخزي والحسد في حال كانت قيمتنا الاجتماعية أقل ممن هم في محيطنا.

من خلال فهم علم النفس التطوري المرتبط بالمكانة الاجتماعية والحسد، في إمكاننا فهم السبب الكامن وراء المشاعر السلبية المرتبطة بهذه الظاهرة، على أمل أنَّ الفهم الكامل لهذه المفاهيم في إمكانه جعلنا أكثر سعادةً بما منحَته إيانا الحياة.

نحن نعيش الحياة لمرة واحدة؛ لذا يجب أن نتذكر دوماً بأنَّ الحياة أقصر من أن نقضيها في الصراع مع جوانبها السلبية كالشعور بالحسد، فلديك فرصة واحدة؛ لذا ركِّز على الإيجابيات وقدِّر كل لحظة تعيشها.

المصدر




مقالات مرتبطة