صحيح أنَّ وعود كتب المساعدة الذاتية مبالغ فيها، والثراء السريع يحتاج إلى خطط طويلة الأمد، ولا يمكن إصلاح جميع مشكلات الحياة، إلا أنَّك تستطيع تقليل الكثير من الصعوبات من خلال خطوات واضحة إلى حدٍ ما، وليس بالضرورة أن تكون هذه الخطوات سهلة.
يمكن القول إنَّ هذه الخطوات تتمثل بتحديد الأهداف وإنشاء عادات أفضل وتعلُّم المزيد واتخاذ الإجراءات، لكن لنفترض أنَّك ناجح في حياتك، والجوانب الهامة في حياتك تسير على ما يرام؛ فلا نقول إنَّها مثالية بالضرورة، لكن هي جيدة على الأقل باستثناء بعض التفاصيل الهامشية.
ماذا يتبقى بعد؟
1. الكفاح من أجل شيء يشبه الشعور بالجوع والرغبة بتناول الطعام:
منطقياً عندما تؤدي جهودك لحل مشكلاتك إلى النجاح، فيجب أن تشعر بالسعادة والاسترخاء، لكن نادراً ما يتفاعل الناس بطريقة عقلانية مع هذه النهاية، والواقع أنَّنا نشعر بشعور إيجابي عندما نسعى إلى تحقيق شيء، والغريب أنَّنا بعد الحصول عليه نشعر أنَّه بلا معنى.
يشبه الأمر الشعور بالجوع، فعندما تكون جائعاً يكون كل ما تفكِّر فيه هو الطعام، وتبدأ تتخيل كم ستكون لذيذة الوجبة التي ستتناولها وكيف ستتناول الكثير من الطعام بشهية، لكن ما إن تحصل على الوجبة تشعر بأنَّك غير قادر على الأكل بالشهية التي كنت تتصورها.
نعم، توجد بعض المتعة في تناول الطعام عندما تكون جائعاً فعلاً، لكن ما إن تشبع، تنتهي اللذة، والسبب أنَّه لا يوجد شيء بحد ذاته ووحده يحقق الرضى، وببساطة لم تكن تريد شيئاً غير الطعام عندما كنت جائعاً، لكن بعد أن تشبع تشعر بالحاجة إلى أشياء أخرى مثل النوم أو السفر والترفيه عن نفسك.
هذا المثال مفهوم بلا شك، فالجميع اختبر الشعور بالجوع؛ لذلك استخدمناه لتوضيح هذه الظاهرة، لكن يمكن ألا تكون قد اختبرت الشعور بالأمان المالي أو امتلاك مظهر جسماني رائع أو علاقات قوية في حياتك؛ لذلك قد تعتقد أنَّ هذه الأمور مختلفة وأنَّها ستمنحك شعوراً دائماً بالسعادة إذا امتلكتها، لكن في الواقع الأمر لا يختلف عن تناول الطعام بعد الشعور بالجوع.
ما إن تحصل على أي شيء حتى تبدأ اللذة بالتناقص تدريجياً حتى تزول.
2. استراتيجية تدمير الذات وإعادة البناء من جديد:
يختلف الوضع عندما نتحدث عن تطوير الذات؛ وذلك لأنَّ تجربة الكفاح في الحياة تترافق مع شعور بالألم والحرمان، الأمر الذي يضيف إلى حياتك مقداراً من التوتر المحفِّز، وهذا التوتر المحفِّز ليس دائماً لطيفاً، لكنَّه يوفر إطاراً للجهود التي تبذلها ويجعلها موجهة نحو تحقيق ما تسعى إليه.
بعد أن تنتهي من القضايا الكبرى التي كافحت لأجلها، فإنَّ التوتر المحفِّز غالباً ما يزول، والنتيجة هي أنَّه على الرغم من أنَّك لا تريد العودة إلى المعاناة مع الكفاح، لكنَّك ترغب في استعادة ذلك الشعور بالحماسة الذي دفعك لتطوير نفسك وتحسين جوانب حياتك.
إحدى الاستراتيجيات التي يستخدمها الناس لاستعادة الحماسة أو تلك الطاقة هي تدمير الذات؛ بمعنى أن تقوم بتدمير الجوانب التي عملت بجد لبنائها حتى تتمكن من بنائها مرة أخرى، مثلاً، تفشل الكثير من العلاقات العاطفية والكثير من الزيجات لأنَّ الشريكين يشعران بالملل من بعضهما، ويترك الناس وظائفهم فجأةً بعد أن يستقر وضعهم فيها.
المشكلة الواضحة في هذه الاستراتيجية هي أنَّها تعيدك إلى نقطة البداية، وتستعيد طبعاً التوتر المحفِّز، لكنَّك ستتعامل مجدداً مع الصعوبات التي عملت بجد للتغلب عليها، ولحسن الحظ، قلما يستخدم الناس هذه الاستراتيجية، وإن كانت كثيرة الاستخدام في الأفلام والمسلسلات من أجل الضرورة الدرامية.
3. استراتيجية وضع أهداف أصعب أي نسف الإنجازات فكرياً وليس فعلياً:
بدلاً من استراتيجية تدمير الذات، نقترح أن تتبع استراتيجية ابتكار كفاحات جديدة ذهنياً؛ إذ تحقق هذه الاستراتيجية نتائج أفضل، لأنَّها لا تؤدي إلى تدمير ما عملت بجد لتحقيقه، وإنَّما تجعلك تعيش نفس حالات الحرمان من الناحية النفسية؛ أي نفس الحالة التي تترافق مع الكفاح من أجل تحقيق شيء ما.
مع هذه الاستراتيجية، لدينا مثلاً شخص يتمتع بلياقة بدنية جيدة، لكنَّه يسعى إلى تحسين لياقته وتقليل نسبة الدهون في جسمه إلى الحد الأدنى، أو شخص يبلغ دخله 200 ألف دولار سنوياً، لكنَّه يريد أن يكسب مليون دولار؛ بمعنى ما كان يبعث على الرضى في السابق، لم يعد كذلك الآن ويبدأ الكفاح من جديد.
إنَّ ما نعالجه هنا ليس عقلية النمو المستمر، وإنَّما تأثير الحافز الذي تشعر به من خلال ما يمكن تسميته الاصطناع الذهني لحالات الحرمان التي تترافق مع الكفاح.
بالطبع، بعض الأشخاص قادرون على تحقيق أقصى درجات التميُّز دون الحاجة إلى نسف كل الإنجازات السابقة ذهنياً، لكنَّنا نقترح هذه الاستراتيجية لمن يشعر بأنَّه يفتقر للحافز بعد أنَّ حقق إنجازاً معيناً.
شاهد بالفيديو: 15 استراتيجية لتحقيق أهدافك بسرعة
هل يمكن أن تمتلك حافزاً دون كفاح؟
من الواضح أنَّ الكفاح لتحقيق شيء ما مؤلم، لكنَّ الحافز هو ما نريد الحصول عليه، ونظراً لأنَّ معظم تجاربنا التي تحتوي على توتر محفِّز تأتي في سياق الكفاح المؤلم، فإنَّنا نربط تلقائياً بين التوتر المحفِّز والألم المرتبط مع الكفاح؛ ولهذا نحاول تجنُّب ابتكار حالات كفاح جديدة سواء في الواقع أم الخيال؛ لذلك إنَّ التفريق بين الألم والحافز، يعني تغيراً في فلسفة الحياة التي تؤمن بها.
تعني هذه الفلسفة قدرتك على تحويل تركيزك عن التوتر الناجم عن محاولة حل المشكلات في حياتك، والتركيز على أهداف مجردة تدرك بوضوح أنَّها وحدها لن تحسِّن حياتك، ويختلف الشكل الذي تتخذه هذه الأهداف المجردة اعتماداً على ما تسعى إليه، فمثلاً إذا كنت تسعى إلى تقديم خدمة، فهذا يعني أنَّ لديك مصلحة متبادلة مع الأشخاص الذين تقدِّم لهم الخدمة في سياق كفاح كل منكما لإشباع حاجته.
أما الإتقان، فهو شيء آخر، وفيه يكون السعي نحو التميز هو الهدف بحد ذاته مع رفض فكرة أنَّ التميز سيكون كفيلاً وحده بتحسين الأمور، وأما الرؤية الإبداعية، فهي مرحلة متقدمة جداً، وهي تحويل فكرة موجودة في عقلك فقط إلى واقع ملموس لأنَّك تؤمن بها.
لا شيء مما نقوله جديد تماماً، فقد عدَّ الطبيب النفسي فيكتور فرانكل (Victor Frankl) الحب الهدف الأسمى في بحث الإنسان عن معنى للحياة، أما الكاتب ستيفن كوفي (Steven Covey)، فقد جعل الخدمة في الترتيب الثامن من عاداته، وتشجع الأديان العالمية كلها على شيء يفوق العمل على تحسين الذات.
مع ذلك، فإنَّنا نعتقد أنَّ ما لم يتم اكتشافه تماماً لحد الآن هو كيف ينتقل الإنسان من نمط تجاوز الصعوبات وتحسين الذات، إلى نمط الخدمة والإتقان والإبداع بوصفه الشكل السائد من أشكال تحفيز الذات في الحياة.
هل يجب على الجميع التحوُّل من نمط الكفاح إلى نمط الخدمة والإتقان والإبداع؟
قد نفترض جدلاً أنَّ بعض الناس يدركون أنَّ الرؤية الإبداعية والإتقان والخدمة هي أهداف تتجاوز ذات الإنسان؛ ولذلك كان يجب علينا جميعاً أن نفعل ذلك منذ البداية.
لكن لا نعتقد بأنَّ هذه الحقيقة منطقية لسببين:
- حتى لو كان لديك ما يكفي من المال واللياقة البدنية والأصدقاء وغير ذلك، فليس بالضرورة أن تمنحك هذه الأشياء السعادة، ومن ثمَّ لن تنجح في إقناع شخص يرى حياته مليئة بالمعاناة أنَّه سيكون سعيداً إن اهتم أكثر في الخدمة أو الإتقان.
- قد تكون لدينا احتياجات نفسية حقيقية نفتقدها؛ ولذلك فإنَّ معاناتنا في أثناء كفاحنا هي مشاعر حقيقية مثل الجوع تماماً مهما بلغت العناصر الغذائية التي نحتاجها من تجرُّد. ونظرية تقرير المصير هي من التفسيرات المقبولة للدوافع البشرية التي تحدد ثلاث حاجات بشرية أساسية وهي الاستقلالية والكفاءة والعلاقات، فالحاجة إلى هذه العناصر الثلاثة تشبه الحاجة إلى الطعام، ومن ثم فإنَّ الألم في سبيل إشباعها هو ألم حقيقي ولا يمكن اعتباره ألم متخيل.
لذلك فإنَّ الحل بالنسبة إلى الأشخاص الذين يرون أنَّ حياتهم عبارة عن كفاح مؤلم للغاية هو تقديم وسائل لتخفيف هذه المعاناة، فالقول إنَّ تطوير الذات هو الحل الوحيد لكل المشكلات أمر غير مقبول، فلدى أي شخص جوانب في حياته لا يمكنه تحسينها، وفي حين يمكن تخفيف بعض المشكلات، إلا أنَّ الصعوبات ستستمر في الظهور.
هذه حقيقة مؤسفة في الحياة إلا أنَّ هذا هو الواقع، ومع ذلك إذا حالفك بعض الحظ للتغلب على بعض الصعوبات وتمكنت من تطوير ذاتك، فإنَّ سعادتك ستبدأ بالتناقص بعد الحصول على ما كنت تسعى إليه، والسبب هو تلاشي التوتر المحفِّز الذي كان يوجِّه حياتك ويضبطها تاركاً وراءه شعوراً بالفراغ تريد ملأه بشدة.
من المنطقي التخطيط لهذا الانتقال، حتى إن كنت تعد حياتك عبارة عن كفاح في الوقت الحالي؛ فالشخص الذي يريد أن يدخر الكثير من المال من أجل التقاعد المبكِّر، لكن ليس لديه خطة لحياته فيما بعد هذه الخطوة، لا بد أن يصاب بمفاجأة غير سارة.
بالمثل، فإنَّ الشخص الذي يريد الحصول على مستوى معين من اللياقة البدنية، لكنَّه لا يعرف ما الذي سيحفِّزه بعد تحقيق هذا الهدف، قد يواجه خطر التخلي تماماً عن ممارسة التمرينات الرياضية أو المضي في ذلك إلى شوط بعيد لحد المبالغة.
كيف تعرف ما إذا كنت تجاوزت مرحلة الكفاح؟
من الناحية النظرية، يجب أن تكون الجوانب التي نكافح فيها هي أكثر الجوانب وضوحاً في حياتنا؛ لذلك يجب أن يكون من السهل معرفة متى ينتهي الكفاح، ومع ذلك فإنَّ دوافعنا للتقليل من أهمية نجاحاتنا سواء في مخيلتنا أم على أرض الواقع، تؤدي إلى استمرار الشعور بأنَّ الكفاح ما يزال موجوداً في تفكيرنا لفترة أطول من وجوده الفعلي، بالإضافة إلى ذلك، لدينا دائماً مستوىً أساسياً من الصعوبات التي لا يمكن التغلب عليها.
أن تعيش بلا كفاح لا يعني ألا تمر بأوقات عصيبة أبداً، بل يعني إدراك أنَّه لا يوجد الكثير من الأشياء التي يجب أن تقلق بشأنها وتعمل على تحسينها، وهذه النقطة الأخيرة هي أيضاً نسبية؛ وذلك لأنَّ تفسيرها يختلف من شخص لآخر، فقد لا تستمتع بالشعور بالضيق على متن الطائرة، لكن لا يسعك إلا الاعتراف بأنَّ هذا الشعور حقيقة طبيعية مرتبطة بركوب الطائرة لديك، بينما قد تكون بالنسبة إلى شخص آخر أمراً يدفعه إلى تحسين دخله حتى يتمكن من السفر في الدرجة الأولى.
في الختام:
يوجد دائماً تقييم ضمني لما يجب الكفاح من أجله في الحياة والتفريق بين هذه الجوانب والجوانب التي تُعد مجرد جوانب يجب التعايش معها في حياتنا، مع ذلك، نعتقد أنَّ المؤشر الأساسي الذي يعني أنَّك على وشك التحول الفكري هو شعورك بالملل؛ أي عندما يبدأ التوتر المحفِّز بالتضاؤل، ذلك التوتر الذي ضبط إيقاع حياتك وفي نفس الوقت لا يمكنك أن تستعيد حماستك.
قد يبدو هذا الأمر سيئاً للوهلة الأولى، لكن فكِّر في الأبواب التي تنفتح أمامك بعد الوصول إلى هذه المرحلة؛ إنَّك الآن مستعد لبدء التفكير بالخطوة التالية.
أضف تعليقاً