كيف تستفيد من طاقتك النفسية في ظل جائحة كورونا؟

في آذار عام 2020، أصدرت الأمم المتحدة موجزاً سياسياً ينطوي على خلاصةٍ صادمة: تسبب جائحة كوفيد-19 أزمة كبيرة متعلقة بالصحة النفسية حول العالم.



إذ كشفت دراسةَ تلو الأخرى زيادات واسعة الانتشار في مستوى القلق وأعراض الاكتئاب واضطرابات ما بعد الصدمة واضطرابات النوم والأزمات النفسية. وبالتزامن مع مكافحة الفيروس، تم حَث الدول على إعطاء الأولوية للتخفيف من الآثار الضارة للجائحة على الصحة النفسية العامة.

لقد كشفت الأبحاث المهارات والكفاءات المتنوعة التي بإمكاننا توظيفها للتخفيف من الأضرار النفسية التي تخلفها الأوقات العصيبة.

في مقال حديث نُشر في مجلة "ذا جورنال أوف بوزيتيف سايكولوجي" (The Journal of Positive Psychology)، اكتَشَفَ فريق من علماء النفس طرقاً متنوعة؛ بإمكانها مساعدة الأفراد في الحد من الأضرار النفسية الرهيبة للجائحة. إذ لدينا - وبحسب مؤلفي المقال - مخزون من المهارات والحالات والكفاءات المدعَمة بالأبحاث، والتي باستطاعتها مساعدتنا في التصدي للتوتر وتعزيز الصحة العقلية وبناء قدرات جديدة. لحسن الحظ، نستخدمها جميعها بالفعل في حياتنا اليومية.

لنأخذ على سبيل المثال، المشاعر الإيجابية وعوامل الشخصية الإيجابية. وحتى عندما تكون لحظات الفرح والدهشة والحب والسكون والأمل والامتنان عابرة؛ فإنها قادرة على تخفيف الآثار المرضيَّة الناجمة عن التوتر وبناء المرونة وتنمية علاقاتنا. 

وما يدعو للمفارقة، كون الامتنان هو الشعور العاطفي الإيجابي الذي يميل الناس للإحساس به خلال الأزمات، بصفته العامل الأساسي لازدهار الإنسان. في حين أنه من السهل الشعور بالامتنان في الأيام الجيدة، إلا أن بإمكانه إحداث فارق كبير في أوقات الشدة. على سبيل المثال؛ يمكن للامتنان المُساعدة على التعافي من الفقدان أو الصدمة، من خلال سماحه للأفراد بتوسيع آفاقهم، والانفتاح على فرص جديدة.

تكمن طريقة أخرى لتعزيز عافيتنا في ظل التصدي للشدائد في مكامن قوة الشخصية، والتي تُعرَّف بأنها: "خصائص الشخصية الإيجابية التي تعكس هويتنا الحقيقة، وتعود بآثار إيجابية علينا وعلى الآخرين، كما تساهم في خدمة الصالح العام".

لقد كشفت جائحة كوفيد-19 عن طرائق لا حصر لها، وظفها الناس في خدمة أنفسهم والآخرين من خلال تعزيز مكامن قوتهم المختلفة. فمثلاً؛ استخدم الكثيرون اللطف لمساعدة جيرانهم والغرباء، والإبداع لابتكار طرائق تُساعد في التَّكيُّف مع ظروف العمل الجديدة، واستخدموا الفكاهة لجعل الناس يضحكون وخلق جو من المرح، والحكمة لتحديد البدائل في حل المشكلات، والمثابرة للاستمرار في ظل الأوقات الصعبة.

شاهد بالفيديو: 12 نصيحة للحفاظ على الصحة النفسية

فيما يلي ثلاثة مفاهيم أخرى يمكنها أن تلعب دوراً فعالاً في الحفاظ على صحتنا النفسية في ظل الجائحة وما بعدها، من خلال آثارها الوقائية والداعمة والبنائية.

1. يمكن أن يشكِّل اتخاذ معنى في الحياة حاجزاً ضد التوتر:

في الأدب النفسي، يُعرَّف معنى الحياة بأنه درجة فهم المرء للعالم من حوله، ورؤيته أن لحياته قيمة وتستحق العيش، وإنجازه لتطلعاته المنشودة، والأهداف التي يسعى لتحقيقها.

يعتبر المعنى مكوِّناً جوهرياً للراحة النفسية: أولئك الذين تعني لهم الحياة كثيراً هم أكثر سعادةً وصحة ولديهم علاقات مُرضية أكثر. إذ إنَّه في أوقات الأزمات، يمكن أن يصبح إيجاد معنىً للحياة نقطةً محورية للحفاظ على الصحة النفسية. بمعنى أنه لا يقتصر على محاربة التوتر وحسب، وإنما بإمكانه أن يغدو مساراً للتأقلم والتكيف وتنمية الذات. على سبيل المثال، أظهرت دراسة حديثة أنه وعلى الرغم من زيادة الأعراض النفسية خلال جائحة كوفيد-19، إلا أن 61% من العاملين في مجال الرعاية الصحية أعربوا عن زيادةٍ في إدراكهم لمعنى الحياة وللهدف منها.

خلال العام الماضي، هددت الجائحة المكونات الثلاثة للمعنى: التماسك والأهمية والغاية، وذلك بطرقٍ مختلفة؛ فالتماسك، مثلاً، تعرَّض لخلل نتيجة للانقطاع الذي لحق بروتيننا وقدرتنا على التنبؤ بما سيجري لاحقاً. أما بالنسبة للأهمية؛ فقد تم المساس بها من خلال فقدان الإحساس بالسيطرة الملموسة على ظروفنا، وتعليق النشاطات التي نجدها مهمة، وتغيير طبيعة علاقاتنا. كما تعرَّضت الغاية للتهديد؛ من خلال التدخل في أهدافنا وتطلعاتنا وتقويض دوافعنا.

يقترح مؤلفو المقال الأساليب التالية لاستعادة معنى الحياة وتعزيزه في أوقات الشدة:

  • تعزيز التماسك من خلال اختبار كيفية تشويه الظروف لمعتقداتك في الحياة، لذلك لا بد من ضبط معتقداتك بما ينسجم مع الواقع الجديد، والحفاظ على إيجابيتها.
  • تعزيز الشعور بالأهمية، من خلال بذل أية جهود بإمكانك تقديمها، لإحداث فرق والتواصل مع الآخرين.
  • تنمية الغاية؛ من خلال إعادة النظر في الدوافع التي تكمن وراء أهدافك وتطلعاتك من جديد، واكتشاف طرق لخدمة الآخرين والصالح العام.
إقرأ أيضاً: ما هو معنى الحياة وكيف تعيش حياةً هادفة؟

2. يؤدي التعاطف مع الذات إلى فيض من النتائج الإيجابية على الصحة النفسية:

يمكن أن يكون التعاطف مع الذات حليفاً لا يقدر بثمن خلال الأوقات الصعبة. وبحسب عالمة النفس كريستين نيف (Kristin Neff)، فإن للتعاطف مع الذات ثلاثة مكونات: مُعاملة نفسك بمقدار اللطف والرعاية ذاته الذي يمكن أن تعامل به صديقاً عزيزاً، وأن تكون واعياً لمعاناتك، دون المبالغة بها أو إنكارها، وتتذكَّر بأنَّ المعاناة هي جزء من إنسانيتنا المشتركة.

يعود التعاطف مع الذات بالعديد من المنافع المدعَمة بالأبحاث. على سبيل المثال؛ الأشخاص المتعاطفون مع أنفسهم هم أكثر سعادةً ورضاً عن حياتهم، وأقل عرضةً للإصابة بالقلق والاكتئاب من أولئك الذين يميلون إلى انتقاد أنفسهم.

كما يمكن للتَّعاطُف مع الذات التَّقليل من مستويات هرمون الكورتيزول، ويزيد معدل ضربات القلب، ويحد من الآثار السلبية للتوتر الملحوظ مع مرور الوقت.

يقترح المؤلفون الأساليب التالية لتنمية عقليةٍ أكثر تعاطفاً مع الذات:

  • تَعايَش مع معاناتك بلطف، عوضاً عن التخلص من المشاعر المؤلمة أو قمعها، فالاعتراف بأصعب الحالات يمكنله إفساح المجال لجميع المشاعر كي تتعايش مع بعضها في وقت واحد.
  • اعثُر على العزاء في لُحمتنا وإنسانيَّتنا المشتركة، في الوقت الذي أصبحت فيه الجائحة منتشرة بوضوح؛ إذ يشعر جميع الناس بالمعاناة، حتى حينما يكون كل واحدٍ منهم وحده.
  • كن لطيفاً مع نفسك بكل الطرق الممكنة، حتى لو تطلَّب منك ذلك التَّحدُّث مع نفسك بنبرة لطيفة ومحبة، وقول الكلمات التي تحب سماعها، مثل: "أنا هنا لأجلك" أو "هذا أيضاً سيمر" أو "كل شيء سيكون على ما يرام".
  • تبنَّى موقفاً عطوفاً إزاء نفسك؛ إذ إن ذلك سيعزز بدوره قدرتك على التعامل مع الشدائد.
إقرأ أيضاً: عادات يوميّة تؤدي لتدمير الصحة النفسيّة للإنسان

3. يمكن للتواصل الفعال أن يعزز عافيتك:

هنالك تباين طبيعي في نوعية تعاملاتنا اليومية. إذ إنَّ بعض المحادثات تمنحنا شعوراً بالاهتمام المتبادل والحيوية والتقدير. هذه النوعية عالية الجودة من التواصل (High-Quality Connections) سواء أكانت مختصرة أم مطولة، مع الغرباء أو العائلة، افتراضية أم وجهاً لوجه، يمكنها أن تلعب دوراً أساسياً في تعزيز عافيتنا؛ حيث إنَّ تبادل النوايا الحسنة والمشاعر الطيبة عند تجاذب أطراف الحديث، يخلق جواً من الإيجابية. تبين أنَّ هذا الانسجام البيولوجي يقوي بدوره الاستجابة المناعية للإجهاد، ويحفز إفراز الأوكسيتوسين، ويخفف من إجهاد عضلة القلب، ويساعد على التعافي من آلام الفقد أو المرض، كما يحسن الأداء الإداركي.

عوضاً عن اعتبارها أمراً مفروغاً منه، يقترح المؤلفون تخصيص المزيد من الوعي والرعاية  لتعاملاتنا اليومية، مما يعزز عافيتنا:

  • اخلَق حضوراً نفسيّاً في تفاعلاتك من خلال إزالة العوامل التي قد تشتِّتك، وركِّز انتباهك على الشخص الأخر.
  • تَحلَّ بالفضول حيال الشخص الذي تحادثه وتهتم به، وبما يقوله؛ كي تعزز التواصل بينكما.
  • أَظهِر التعاطف من خلال عرض المساعدة، وبث الثقة في نفس الطرف الآخر.
  • في إطار الفريق، تعزيز التواصل الفعال من خلال خلق مناخ من الاحترام المتبادل والسلامة النفسية.

يَظهَر التوتر عندما يشعر الفرد أن متطلبات البيئة الداخلية أو الخارجية تفوق قدراته. لقد أطلقت جائحة كوفيد-19 العنان لتوتر لا يُقهر، أثَّر على حياة الكثيرين في كل أنحاء العالم. إلا أنه بالاعتماد على طاقاتنا النفسية الفردية وبمزيد من العزم، يمكننا تخفيف التوتر الذي ألحقه العام الماضي بصحتنا النفسية.

 

المصدر




مقالات مرتبطة