كيف تستثمر نظرية الاختيار العقلاني لمصلحتك؟

تُعرَف نظرية الاختيار العقلاني بأنَّها مبدأ يقول إنَّ الناس يتصرفون بعقلانيةٍ في أيِّ موقفٍ معيَّن، وتفترض النظرية أنَّ جميع البشر "ممثلون عقلانيون"، وأنَّ كل فردٍ يختار بحرِّيةٍ السلوك بناءً على حساباتٍ عقلانيةٍ تزيد من المنفعة إلى أقصى حد، وتستند معظم الأيديولوجيات الاقتصادية وحتى الإجرامية السائدة إلى نظرية الاختيار العقلاني؛ وهذا يعني أنَّ معظم سياساتنا وتفكيرنا في المجالات المالية والسلامة العامة، تعتمد على "حقيقة" أنَّ جميع الناس يتصرفون بعقلانية.



من ناحيةٍ أخرى، كثيرون هم مَن لا يؤمنون بنظرية الاختيار العقلاني، وأنا واحدٌ منهم، ومع ذلك، ما تزال النظرية هي الدافع وراء كثيرٍ من خطاباتنا وأفعالنا فيما يتعلق بالسلوك البشري، وتُعَدُّ مشكلةً نظراً لعدم وجود أيِّ إنسانٍ عقلاني تقريباً، فما زلت لم أقابل أحداً عقلانياً تماماً حتى الآن، وفي هذا المقال، نناقش نظرية الاختيار العقلاني، وكيف سيطرت على المجتمع، وكيف يمكننا بصفتنا أفراداً استخدامها لمصلحتنا التنافسية.

كيف تعمل نظرية الاختيار العقلاني؟

تأتي نظرية الاختيار العقلاني من علم الاقتصاد؛ إذ لا يقل التنبؤ بالأفعال البشرية أهميةً عن أيِّ شيءٍ آخر، ففي علم الاقتصاد، تُستخدم نظرية الاختيار العقلاني "لصقل" البيانات والتوصل إلى استنتاجاتٍ منطقيةٍ بناءً على سلوك البشر؛ على سبيل المثال، يفترض أنصار النظرية أنَّ جميع الناس يحاولون تضخيم مزاياهم والمنفعة العامة التي يقدمونها في أيِّ موقفٍ معيَّن وفي أيِّ وقت، ووفقاً لنظرية الاختيار العقلاني، فإنَّ الهدف الوحيد للفرد، هو تعظيم سعادته أو ربحه الفردي إلى أقصى حد.

وتفترض نظرية الاختيار العقلاني أنَّ كل البشر "وكلاءٌ على أنفسهم"؛ بمعنى أنَّهم مبادرون، وأنَّ كل الإجراءات تستند إلى حساباتٍ دقيقة، وتنصُّ النظرية على أنَّ الحسابات التي تقود هذه الإجراءات العقلانية تتكون من تحليلات التكلفة والعائد، وإن كان يُنظَر إلى الفوائد على أنَّها تفوق التكاليف، فحينئذٍ سيقوم الشخص بهذا الإجراء أو السلوك.

وهذا يعني أنَّه على المستوى الجزئي، يتصرف جميع البشر وفقاً لتحليلٍ ذاتي دقيق، أمَّا على المستوى الكلي، تقول نظرية الاختيار العقلاني إنَّ جميع الظواهر الاجتماعية ناجمةٌ عن تفاعل الأفراد مع بعضهم بعضاً؛ لذلك على مستوى الاقتصاد الوطني، يظن أنصار نظرية الاختيار العقلاني أنَّ الاتجاهات الاجتماعية يجب أن تعكس قرارات الأفراد التي تشكل الكل؛ أي إذا كان الناس عقلانيين على المستوى الجزئي، فيجب أن نرى الأشياء على المستوى الكلي - مثل الأسواق المالية - تتحرك وفق طرائق عقلانية أيضاً.

لكن، هل البشر عقلانيون؟ الجواب هو "لا"، أنا لا أظن ذلك، وأود أن أقول إنَّه بحكم التعريف، نحن لسنا كذلك؛ بمعنى أنَّ كلاً من المستوى الجزئي، ومن ثمَّ المستوى الكلي، يسيران على نحوٍ غير متوقع؛ إذاً، لماذا تفترض معظم قراراتنا رفيعة المستوى المتعلقة بالاقتصاد وعلم الجريمة، أنَّ نظرية الاختيار العقلاني صحيحة؟ وإن استمر الأمر على هذا النحو، فكيف يمكننا بصفتنا أفراداً تحديد الاتجاهات غير العقلانية قبل حدوثها، ووضع أنفسنا في موضعٍ يمكِّننا من الاستفادة منها؟

نظرية الاختيار العقلاني في علم الجريمة والاقتصاد:

إنَّه لأمرٌ مزعجٌ بالنسبة إليَّ، أنَّه على الرغم من أنَّ نظرية الاختيار العقلاني تبدو خاطئةً بوضوح، إلا أنَّها تُستخدم بوصفها أساساً لبعض أكبر مبادراتنا السياسية والاجتماعية، وفي الواقع، يؤمن كثيرٌ من رجال المال والاقتصاد والسلامة العامة إلى حدٍّ ما بنظرية الاختيار العقلاني؛ إذاً ينبغي ألا يكون مفاجئاً أنَّ العديد من سياساتنا العامة وخطاباتنا تقود إلى أنظمةٍ تنهار على المستوى الكلي.

هذا يعني أنَّ نظرية الاختيار العقلاني تنهار بدايةً من المستوى الجزئي، ولا يمكننا حتى استخدام النظرية في خدمة حياتنا الشخصية؛ وهذا يعني أنَّه لا يمكننا استخدام النظرية لمصلحتنا، ما الذي نستنتجه من ذلك؟ نستنتج أنَّ تلك النظرية لا يمكن للأفراد استخدامها عند اتخاذ القرارات؛ وهذا ما يتسبب بأن تكون حركاتنا الاجتماعية والاقتصادية الكلِّية غير عقلانية إلى حدٍّ كبير.

ويمكن لهذا أن يسبب كثيراً من المشكلات، سواء في الاقتصاد أم في السلامة العامة؛ ففي علم الاقتصاد، تُبنى أسواقنا المالية على افتراض أنَّ الناس يتصرفون بعقلانية، لكنَّنا رأينا مراراً وتكراراً أنَّ ذلك ليس صحيحاً، ومع ذلك، ما زلنا ندعم نظاماً قديماً متعثراً بخطط الإنقاذ المالي؛ لأنَّه إذا لم تنجح نظرية الاختيار العقلاني، فيقع الخطأ على عاتق البشر لعدم التصرف بعقلانية وليس خلاف.

فيما يخص السلامة العامة، يستخدم الناس نظرية الاختيار العقلاني لافتراض أنَّ جميع المجرمين يتصرفون بدافع المتعة، وما دامت الفائدة تفوق التكلفة، فإنَّ المجرم سوف يتخذ الإجراءات اللازمة، ويظن مسؤولو السلامة العامة في كثير من الأحيان أنَّ المجرمين يختارون سلوكهم بحرِّية.

في الحقيقة، إذا قابلت مجرماً من قبل، أو إذا سبق لك أن تعرضت لدوافع إجرامية من قبل، فأنت تعلم أنَّ هؤلاء الأشخاص وهذه الدوافع بعيدةٌ كل البعد عن العقلانية، وفي الواقع، يبدو أنَّه كلما كانت الجريمة أكثر شناعةً، زادت تصرفات المجرم غير العقلانية.

شاهد بالفيديو: قوانين العقل الباطن

دعنا الآن نلقي نظرةً على مثالين لنظرية الاختيار العقلاني وكيف تنقسم:

1. مثالٌ عن نظرية الاختيار العقلاني في الاقتصاد:

يظن معظم الاقتصاديين أنَّ البشر يحاولون دائماً تضخيم المنفعة التي يقدمونها إلى أقصى حدٍّ، والتي تتمثل إمَّا بزيادة سعادتهم أو بزيادة ربحهم، على سبيل المثال، إذا كانت لديك أموال في البورصة وانخفضت هذه البورصة، فما هو التصرف الذي تمليه عليك النظرية العقلانية؟

وفقاً للنظرية، يقول الفكر العقلاني إنَّه إذا كنت تؤمن بالاستثمار، فعليك شراء الانخفاضات؛ لذا حتى لو كنت تخسر المال في أثناء الشراء، يجب أن تفعل ذلك على أيِّ حال؛ وذلك لأنَّه يزيد من أرباحك المحتملة على الأمد الطويل.

لكن كم منَّا يفعل ذلك؟ وكم عدد الأشخاص الذين استثمروا في عملة "بيتكوين" (Bitcoin) وظنوا أنَّها "التوجه" التالي، ثم انسحبوا بعد بضعة أشهر عندما بدأت قيمتها بالانهيار؟ أنا نفسي فعلت ذلك، ووفقاً لنظرية الاختيار العقلاني، إنَّ ذلك غير منطقي، فإذا كنت تظن أنَّ عملة "بيتكوين" (Bitcoin) استثمار جيد طوال السنوات الخمس المقبلة، فيجب أن يكون استثماراً جيداً اليوم كما هو الحال بعد ثلاث سنواتٍ من الآن؛ لذا لو كنت إنساناً عقلانياً، لكنت اشتريت المزيد خلال فترة تراجعها، إلا أنَّه من المرجح أنَّك لم تفعل ذلك.

الشيء المضحك هو وجود تجارب قد أُجرِيَت على القرود والمال، أثبتت أنَّ الرئيسيات تتصرف بطريقةٍ غير عقلانية عندما يتعلق الأمر بالاقتصاد، وإحدى التجارب على وجه الخصوص، التي أجرتها عالمة النفس "لوري سانتوس" (Laurie Santos) وآخرون غيرها، أظهرت أنَّ أفراد الشمبانزي لن يحاولوا زيادة مكاسبهم عند إعطائهم عملات معدنية يمكن استبدالها بالطعام.

بدلاً من ذلك، حقدوا على المسؤولين الذين قدموا لهم طعاماً أقل مع مرور الوقت، حتى وإن كانت الكمية الصافية أكبر من التي يقدمها المسؤولون الآخرون، ووجدت الدراسة أنَّ الشمبانزي لم تحاول بأيِّ حالٍ من الأحوال زيادة مكاسبها، على الرغم من فهمها قيمة كل عملةٍ وكيف يمكن أن تستفيد منها، ووجدت بعض الدراسات أنَّ القردة قد قايضت العملات المعدنية بالتزاوج والمقامرة؛ وهذا يشبه إلى حد كبير تصرفات البشر.

الأمثلة كثيرة؛ ولسوء الحظ، تعتمد معظم سياسات الاقتصاد الكلي لدينا على نظرية الاختيار العقلاني، وما الأزمة المالية في عام 2008 إلا مثالٌ آخر عن الوقت الذي تنهار فيه النظرية، ولحسن الحظ، لم تكن بالأمر الجلل، لكنَّ هذا ليس حكماً نهائياً.

2. مثال عن نظرية الاختيار العقلاني في علم الإجرام:

مع علم الإجرام، تحاول نظرية الاختيار العقلاني شرح كيف ولماذا يتصرف البشر، لكن يمكنها فضلاً عن ذلك، أن تشرح ما يمكن أن تفعله السلامة العامة وإنفاذ القانون للالتفاف على الإجراءات الإجرامية، وفقاً لعلم الإجرام والعقلانية، وفضلاً عن كون البشر عقلانيين، يمكن التحكم بخياراتهم من خلال إدراك أو فهم الألم أو الاستياء الذي يتولد نتيجةً لأفعالهم.

على سبيل المثال، تنصُّ نظرية الاختيار العقلاني من حيث صلتها بالمجرمين على أنَّ جميع المجرمين يتصرفون بعقلانية بعد التخطيط والتفكير الدقيقين، وهو ما يفعله بعضهم؛ فعلى سبيل المثال، قد يكون السطو على البنك إجراءً عقلانياً يعتمد على البصيرة، ولمكافحة عمليات السطو على البنوك، قد تتشدد الجهات المختصة بعقوبة السطو على مؤسسةٍ مالية.

لكن ماذا عن الجرائم التي لا تقوم على التفكير العقلاني إطلاقاً؟ نظراً لوجود كثيرٍ منها، فجرائم العاطفة على سبيل المثال لا تبدو عقلانيةً للغاية، وفي الواقع وبحكم التعريف، إنَّ الجرائم التي تحدث في الوقت الحالي لا يمكن أن تكون بعيدة النظر على الإطلاق.

إنَّ هذه الجرائم وغيرها، غالباً ما يرتكبها مجرمون يلقون بالحذر في مهب الريح؛ على سبيل المثال، إذا وجدت حبيبك يخونك، فهل تهتم كثيراً إذا أدى ارتكاب جُرمٍ ما إلى السجن مدى الحياة؟ من المحتمل أنَّك قد تتصرف بطريقةٍ غير عقلانية.

ونتيجةً لذلك، يقوم جزءٌ كبير من نظامنا القضائي على الاعتقاد بأنَّ المجرمين يرتكبون الجرائم بإرادتهم، فقد يكون هذا صحيحاً، لكن غالباً ما يبدو الأمر ملتبساً، ألن يكون من الأفضل الافتراض أنَّ كل المجرمين كانوا غير عقلانيين، ثم انطلقوا من تلك النقطة؟ لن يساعدنا ذلك في الجرائم فحسب؛ بل سيساعدنا أيضاً في إعادة تأهيل مَن يُقبَض عليهم.

مغالطاتٌ واضحةٌ في نظرية الاختيار العقلاني:

أظن أنَّ مغالطات نظرية الاختيار العقلاني باتت واضحةً الآن، لكن دعني أوضحها لك لتتأكد، والخلاصة أنَّ البشر ليسوا عقلانيين، ومع هذا، ما زلنا نفترض أنَّهم كذلك، لنبدأ بوضع قوانين وسياسات ومبادرات تفشل بعد أن يبدأ شخص ما بالتصرف تصرفات غير عقلانية؛ والنتيجة أنَّ الأشياء ستنهار على المستويين الجزئي والكلي.

ما يعنيه ذلك هو أنَّه لا يمكن للناس استخدام نظرية الاختيار العقلاني على الإطلاق، فهي لا تعمل على الفرد لأنَّ الأفراد ليسوا عقلانيين، ومن ثم إذا كان الكل الأكبر يتكون من أفراد غير عقلانيين، فإنَّ الكل الأكبر - بحكم التعريف - يصبح غير عقلاني، لكن ماذا لو تمكَّنَّا من استخدام نظرية الاختيار العقلاني لمصلحتنا؟ وماذا لو تمكَّنَّا من استخدامها لتحديد التباين واللاعقلانية، ووضع أنفسنا في موضعٍ يمكِّننا من النجاح بسبب التفكير غير العقلاني، وليس على الرغم منه؟

إقرأ أيضاً: 8 مغالطات منطقية تفسد تفكيرنا

كيف تستخدم نظرية الاختيار العقلاني لمصلحتك؟

يكمن المفتاح في فهم أنَّ البشر غير عقلانيين وليسوا عقلانيين البتة، ثم استخدام هذه المعرفة لتحديد التوجهات الحالية؛ على سبيل المثال، عند فهم أنَّ نظرية الاختيار العقلاني خاطئة، سيكون من السهل رؤية أنَّه بعد بدء سعر عملة "البيتكوين" (Bitcoin) بالانخفاض، فإنَّه سينخفض أضعافاً مضاعفة، لماذا؟ حسناً، عندما استثمر كثير من الأشخاص العاديين في عملة "البيتكوين" (Bitcoin) من دون أيِّ معرفةٍ حقيقية عن الأمر، أخاف ذلك الانخفاض بأسعارها هؤلاء المستثمرين غير المتمرسين؛ وهذا ما تسبب في قيامهم بالبيع وترك مسألة الاستثمار تلك؛ الأمر الذي جعل العرض أكثر من الطلب وزاد الضغط على السعر.

إذا كنت تستخدم نظرية الاختيار العقلاني استخداماً مدروساً، فقد تفترض أنَّ الناس سيحتفظون بمراكزهم، وأنَّ الانخفاض بأسعار عملة "البيتكوين" (Bitcoin) سيكون قصير الأمد، بحيث يستمر الناس في الشراء بسعرٍ منخفض؛ غير أنَّ الحالة ليست كذلك؛ إذ تعرضت عملة "البيتكوين" (Bitcoin) إلى حالةٍ من الهبوط الشديد في الفترة الأخيرة؛ وهذا ما أثار خشية مزيد من الناس، ودفعهم إلى التصرف غير العقلاني.

إذا كنت قد لاحظت هذا التوجه من اللاعقلانية، فقد تبيع عملات "البيتكوين" (Bitcoin) بخسارة، مستفيداً من التباين، بينما إذا تمسكت بالأمر وآمنت بنظرية الاختيار العقلاني، فمن المحتمل أنَّك كنت ستبقى فترة طويلة جداً حتى تحصل على فرصة ضئيلة لتعويض خسائرك؛ لذا ما الذي ستصدقه؟ أنَّ البشر عقلانيون أم أنَّهم ليسوا كذلك؟ حسناً، مهما كان الأمر، تصرف وفقاً لذلك.

إقرأ أيضاً: ما هو تعدين البيتكوين؟ وما هو مستقبل البيتكوين؟

في الختام:

تُعَدُّ نظرية الاختيار العقلاني فكرةً جيدة، لكنَّها تنطوي على عدة المشكلات، ومع ذلك، هذا لا يعني أنَّها ليست مفيدة، وفي الواقع، إذا كنت تعلم أنَّ خلاف ذلك هو الصحيح، وأنَّ البشر غير عقلانيين، فيمكنك استخدامها لمصلحتك من خلال اكتشاف التوجهات غير العقلانية، ووضع نفسك في موضعٍ يمكِّنك من النجاح.

المصدر




مقالات مرتبطة