كيف تساهم الأماكن الخالية من الهواتف في تعزيز التواصل؟

ظهرت على الموقع الإلكتروني والتذاكر وعلى اللافتات خارج المسرح ملاحظة تنص على ما يأتي: "يرجى عدم استعمال الهاتف في هذا الحدث"، لذا تجمهر الناس حول الردهة يتحدثون ويتراسلون ويرسلون الصور عبر منصات التواصل الاجتماعي، ولكن بينما كانوا متوجهين إلى مقاعدهم، أُوعِز إليهم بوضع هواتفهم على الوضع الصامت وتثبيتها داخل حقائب؛ إذ سَمعتُ إحداهن تسأل وهي تسلم هاتفها غير قادرة على تثبيته بنفسها: لمَ هذا الطلب؟ بينما بدا الآخرون مذهولين بصمت.



التواصل بدون هواتف:

خلال العرض، ضحك الناس على العبارات التي تُقال لحظة قولها، فلم يكن أحد منهم يحمل هاتفاً لتسجيلها، ورأى مقدمو العرض وجوههم وتفاعلوا معهم، وهم كذلك الأمر؛ إذ ولَّد الضحك الجماعي والهمهمات طاقةً أدت إلى حلقة من ردود الأفعال التي زادت من حماسة العرض كما اختبرناه جميعاً معاً، وفي وقت واحد.

ثم أُضيئَت الأنوار وتوجه الناس إلى محطات فتح الحقائب، ومن ثم أخذوا هواتفهم وبدا عليهم الارتياح عندما أشغلوا شاشاتهم دون التنحي أو السير نحو المخرج؛ فكان فتح الهواتف أشبه بكسر تعويذة ما وعندها بدا على جميع الحضور أنَّهم على قيد الحياة، وهو شعور لم أعرفه من قبل في أي عرض مباشر منذ سنوات.

أفكر أحياناً في محاولة تجربة هذا التأثير في مكان آخر، على الرغم من أنَّني لم أُدعى إلى العديد من الحفلات إذا فعلت ذلك، ولكن بعد ذلك أتساءل: كم من الناس سيقصدون أماكن يُمنَع فيها استعمال الهواتف؟ هل سيسكن الناس أماكن لن يستعمل فيها أحد هاتفاً؟ في زمن أصبحت فيه منشورات "إنستغرام" (Instagram) وفيديوهات "تيك توك" (TikTok) ذات أهمية تضاهي التجارب الفعلية.

إقرأ أيضاً: مهارات التواصل وطرق تطويرها وتنميتها

التواصل والهواتف الذكية:

استعمال الهاتف هو عادة فردية نمارسها في الأماكن العامة وحتى في العطلات؛ إذ يتفقد الناس هواتفهم نحو 80 مرة في اليوم، وبفضل الهواتف أصبحنا نمارس في الأماكن العامة نشاطات اعتدنا على القيام بها في الأماكن الخاصة أو في أماكن مخصصة لها مثل: المحادثات الجادة، وخوض الشجارات، وشراء الملابس، والقيام بالعمل، والتحقق من رسائل البريد الإلكتروني، ودفع الفواتير، والاستماع للموسيقى، ولعب الألعاب؛ إذ إنَّ القيام بكل هذه الأشياء في الأماكن العامة يعني أنَّ استعمال الهواتف العامة يسهم في تشكيل بيئتنا.

استعمال هواتفنا بهذه الطريقة يمكن أن يخلق حالات غير سارة يتعرَّض لها الآخرون لا إرادياً. يدرك هذه الحالة أي شخص اضطر إلى الوجود في مكان مغلق كالحافلة مثلاً، واضطر إلى سماع شخص يتحدث بصوت مرتفع على الهاتف؛ إذ تشير "كيو ستارك" (Kio Stark)، وهي مدرسة في برنامج التواصل التفاعلي في "جامعة نيويورك" (New York University)، والتي تركز عملها في كيفية تفاعل الناس مع التكنولوجيا إلى أنَّ استعمال الهاتف يؤدي إلى تعامل الناس مع الأماكن العامة على أنَّها أماكن خاصة، وتعتقد أنَّ طمس الخطوط الفاصلة بين الأماكن العامة والخاصة يؤدي إلى شعور الاغتراب وليس إلى التواصل، فإذا تسللت محادثة هاتفية إلى مساحة الآخرين، فإنَّهم على الأرجح سيحاولون تجنبها وتجنب الأشخاص المشاركين بها.

تُظهِر الأبحاث أنَّ الهواتف تعزلنا في فقاعاتنا الخاصة؛ وهذا يجعلنا نتحدث ونبتسم بشكل أقل إلى الأشخاص الآخرين؛ إذ إنَّ فقدان فرص التواصل يقوِّض السعادة الفردية، فضلاً عن الجو الاجتماعي؛ إذ وجد علماء النفس في جامعة "كولومبيا" (Columbia) البريطانية في عام 2013 أنَّ الأشخاص الذين يبتسمون ويتواصلون بصرياً ويتحدثون بشكل اعتيادي إلى النادل في المقهى، يتمتعون بمزاج حسن، بالمقارنة مع أولئك الذين يتخلون عن مثل هذه الإيماءات بهدف جعل أنفسهم أكثر "كفاءة".

شاهد بالفيديو: 9 طرق لتحسين مهارات التواصل.

التفاعل بدون هواتف:

تجعل عاداتنا فوائد التفاعلات الممتعة سهلة النسيان؛ إذ وجد الباحثون في جامعة "شيكاغو" (Chicago) عام 2014 أنَّ الناس يقللون من شأن الآثار الإيجابية الناجمة عن التفاعل مع الآخرين وخاصة الغرباء.

بم نقايض هذه التفاعلات الإيجابية؟ يجعل الـ "فيسبوك" الناس أكثر وحدة وحزناً، كما أنَّه يشجعنا على تفضيل الكمية على نوعية التفاعل؛ إذ تشير الأبحاث إلى أنَّ العديد من الشباب يشعرون بالعزلة والوحدة، وأنَّ أولئك الذين تتراوح أعمارهم بين 18-22 هم الأكثر وحدة، في حين أنَّ ذلك لا يمكن أن يعزى تماماً إلى استعمال الهاتف، فالهواتف الذكية لا يمكنها المساعدة.

عندما يواجه كثير من الناس الشعور بالغربة نفسه ولا يبدو أنَّهم قادرون على تجاوز ردود الفعل المفعمة بهرمون الدوبامين في المنشورات والتحديثات والإعجابات والتعليقات، فيستعرضون مساحاتهم المشتركة للمعاناة، وربما قد لاحظتَ هذا إذا كنت قد نظرت في أي وقت مضى إلى مترو الأنفاق ورأيت الجميع غارقين في هواتفهم أو إذا نظرتَ حولك في مطعم لرؤية الناس - بما في ذلك الأزواج - تراهم جميعاً محدقين في هواتفهم.

استعمل فنانون مثل "هانا غادسبي" (Hannah Gadsby) و"أليشيا كيز" (Alicia Keys) و"ديف شابيل" (Dave Chappelle) و"أريانا غراندي" (Ariana Grande) و"جاك وايت" (Jack White) حقائب لإنشاء تلك المساحات في عروضهم. وتستعملها الآن بعض المستشفيات والمحاكم والمدارس أيضاً، ويمكن للناس استئجارها لحفلات الزفاف والمؤتمرات والحفلات، وبعيداً عن الحقائب تتضمن العديد من القطارات الآن مكاناً هادئاً دون هواتف، وتقدم بعض المطاعم خصومات لرواد المطاعم الذين يمتنعون عن استعمال الهواتف، فيما يمنع بعضها الآخر استعمال الهواتف منعاً باتا، وتدل مثل هذه الأمثلة على نزعة كبيرة نحو خلق مساحات خالية من الهواتف.

يلوح احتمال منع استعمال الهاتف في الأُفق، فالعديد من الأشخاص - بمَن فيهم الأشخاص من ذوي الاحتياجات الخاصة - يعتمدون على هواتفهم للتنقل والتفاعل مع بيئاتهم بأمان، ووفقاً للمؤلِّف "إدوارد تينر" (Tenner)؛ قد يسبب الاستعمال القسري للتكنولوجيا -دون فترات راحة- قلق الانفصال، وبدلاً من حظر الهواتف تماماً؛ يكمن الحل المثالي في توفير بيئات من التوقعات تزيد تفاعل الأشخاص مع الآخرين ومع الأشياء المحيطة بالفرد.

التفاعل بدون هواتف

وتشير الأبحاث على نحو متزايد إلى أنَّ الجماهير مستعدة إلى هذا الحل، ووفقا لمركز "بيو" للأبحاث (Pew)، فإنَّ 54% من المراهقين و36% من الآباء والأمهات في الولايات المتحدة يعتقدون بأنَّهم يقضون الكثير من الوقت على هواتفهم الخاصة، في حين أنَّ 65% من الآباء يشعرون بالقلق إزاء استعمال أطفالهم للهاتف، ويشير ما يقرب من نصف المراهقين إلى أنَّ الهواتف تصرف انتباه والديهم على الرغم من التصاقهم دائماً بها.

يُعبِّر طلاب جامعتي عن خيبة الأمل في تضاؤل التفاعلات الشخصية، ويجتمع الناس لتناول العشاء وأحياناً يسهرون طوال الليل مستمتعين بتبادل الأحاديث دون انقطاع، وقد يكون ذلك مستحيلاً في ظروف أخرى، وقال "غولدبرغ": "أعتقد أنَّنا جميعاً نوعاً ما بحاجة إلى ذلك مرة واحدة في الأسبوع".

إقرأ أيضاً: لماذا نتفاعل مع وجوه الناس في عالم الواقع أفضل من العالم الافتراضي؟

وجود الهواتف في الأماكن الاجتماعية:

مجرد وجود الهواتف في الأماكن الاجتماعية يخلق مسافة بين الأشخاص، ووجدت تجربتان أجراهما باحثون في جامعة "إسيكس" (Essex) في عام 2012 أنَّ الأشخاص الذين التقوا وتحدثوا في أثناء جلوسهم إلى طاولة واضعين هواتفهم عليها، شعروا بأنَّهم "أقل قرباً من شركائهم وأبلغوا عن تدني جودة علاقاتهم بشركائهم، مقارنة مع أولئك الذين تبادلوا أطراف الحديث دون وجود هاتف محمول".

وقد تضخمت آثار التباعد هذه عند مناقشة أمور شخصية للغاية؛ إذ تعيد المساحات الخالية من الهاتف التركيز إلى التفاعل الاجتماعي من جديد، والذي يمكن أن يساعد الناس على خلق العلاقة الحميمة التي نحاول عادةً ترسيخها عبر الشاشات دون جدوى.

يتيح لنا ترك هواتفنا والاستمتاع بلحظات سنفتقدها في خضم الانخراط في مواقع التواصل الاجتماعي، لحظات سنختبرها مرة واحدة فقط.

المصدر




مقالات مرتبطة