كيف استطاعت كرة القدم التخفيف من النزاعات السياسية والطبقية والعنصرية؟

ربما تتفاجأ أنَّ معظم الحساسيات الموجودة بين أندية كرة القدم في العالم أسبابها سياسية أو دينية أو اقتصادية أو طبقية، وهنا يأتي السؤال الهام؛ هل ساهمت كرة القدم في تأجيج أو تضخيم هذه الخلافات أم أنَّها على العكس من ذلك؛ كان لها دور كبير في حصر هذه الخلافات داخل مستطيل أخضر، بدل أن تخرج منه وتحرق الجميع؟ هذا ما سنتعرَّف إليه في هذا المقال.



سنتناول في مقالنا هذا مجموعة من العداوات التاريخية المشهورة بين مجموعة من أندية كرة القدم مثل ريال مدريد وبرشلونة، وروما ولاتسيو، الأهلي والزمالك، برشلونة وإسبانيول، محاولين البحث في جذور أو أصول هذه الخلافات، ونضمُّ إليها آراء خبراء علم النفس فيما يخص سايكولوجيا التشجيع في مدرجات كرة القدم، وكيف يمكن أن تكون هذه اللعبة قد حوَّلت النزاعات العميقة بين البشر إلى مجرد هتافات ولافتات وصراخ وغناء وغيرها من الوسائل السلمية في التعبير عن الرأي.

هل كرة القدم هي من صنعت هذه العداءات؟

يقول المثل الألماني الشهير: "الفرصة هي من تصنع اللصوص"؛ أي إنَّه في حال وضعت شيئاً أمام طفلك مثل محفظة نقودك، فإنَّك هنا تعطيه الفرصة ليسرق ومن ثم يصبح لصاً، وهنا ذات الأمر حصل مع نوادي كرة القدم التي وجدت أمامها السبب والفرصة لتكوِّن عداءً وربما ثأراً مع أندية أخرى.

أغلب العداوات موجودة منذ زمن بعيد وربما قبل تأسيس النوادي، فعلى سبيل المثال العداوة التاريخية بين نادي برشلونة ونادي إسبانيول، على الرغم من أنَّهم ينتمون إلى الإقليم نفسه، إلَّا أنَّ جماهير برشلونة تلقِّب إسبانيول بالابن العاق؛ وذلك بسبب معارضته لانفصال الإقليم عن إسبانيا، ويظهر ذلك جلياً في أرض الملعب من خلال الاحتكاكات العنيفة بين لاعبي الفريقين، وأيضاً بين الجماهير من خلال اللافتات والهتافات.

"ريال مدريد وبرشلونة" العداء السياسي:

ريال مدريد وبرشلونة

لا يمكن لأي أحد على سطح كوكب الأرض ألَّا يكون قد سمع أو شاهد كلاسيكو الدوري الإسباني أو ما يُسمى "بكلاسيكو الأرض"، بين أكثر ناديين شعبية في العالم وهما ريال مدريد وبرشلونة.

يعود العداء التاريخي بين هذين الفريقين إلى جذور تاريخية وسياسية قديمة، فلطالما طالب إقليم كاتالونيا بالانفصال عن إسبانيا احتجاجاً على عدم توزيع الثروات بشكل عادل؛ إذ إنَّ القسم الأكبر من ثروة ومقدرات إسبانيا موجودة في إقليم كاتالونيا الصغير نسبياً مقارنة بمساحة إسبانيا، فيما يُعَدُّ نادي ريال مدريد بالإضافة إلى كونه نادي العاصمة، إلَّا أنَّه معروف بقربه من الحكومة المركزية في إسبانيا. يُرجع بعض الأشخاص سبب هذا العداء التاريخي إلى قيام الجنرال فرانكو بقتل رئيس نادي برشلونة.

يُذكَر أنَّ كاتالونيا حاولت الانفصال بشكل جدي وأقامت انتخابات على مستوى الإقليم صوَّتت فيها الغالبية لمصلحة الانفصال، ولكنَّ الحكومة المركزية لم تعترف بهذه الانتخابات.

دور كرة القدم في تبريد النزاعات السياسية:

المُلاحظ بشكل هام هو عدم قيام الحكومة الإسبانية بأي تدخُّل عسكري لمنع انفصال الإقليم، وحتى لم تُضايق نادي برشلونة، ولم تقمع الاحتجاجات والمظاهرات المُطالبة بالانفصال، والتي شارك فيها ذات مرة مدرب برشلونة الشهير "بيب غوارديولا" الذي كان أحد أكبر مؤيدي الانفصال.

إنَّ سبب هذا الهدوء والاستقرار الذي يسيطر على الأجواء قد يكون وراءه كرة القدم؛ وذلك من وجهة نظر خبراء علم النفس الذين يرون أنَّ الكلاسيكو هو وسيلة لتفريغ كل هذه الاحتقانات والغضب والسخط والجنون بين الإقليم الكاتالوني وحكومة مدريد؛ إذ يوجد في كل مبارة تجمع الفريقين مئة ألف مشجع أو أكثر يكونون موجودين على مدرجات الكامب نو والسانتياغو برنابيو، يهتفون ويغنون ويشجعون ويصرخون، بالإضافة إلى ملايين المشاهدين من جمهور الفريقين الذين يهتفون ويتفاعلون عبر الشاشات ومواقع التواصل الاجتماعي.

في الحقيقة نُقِلَت هذه المعركة السياسية إلى أرض الملعب؛ وبذلك حدث تفريغ طبيعي ومتكرر لكل الغضب والسخط والانفعالات عند الطرفين، وهذا ما يُسمى في علم النفس "Negative Emotionen entleeren"؛ أي تفريغ المشاعر السلبية؛ مما ساهم ويساهم في الحفاظ على الأمن والاستقرار في البلاد، وهنا يظهر دور كرة القدم مرة جديدة في حفاظها على أمن وسلامة واستقرار الدول؛ مما يؤكِّد أنَّها أكثر من مجرد كرة يركضون خلفها. 

"ميلان وإنتر ميلان" العداء العنصري:

كلنا نعرف أنَّه يوجد في مدينة ميلانو الإيطالية ناديان لكرة القدم "آي سي ميلان" و"إنتر ميلان"، ويوجد استاد واحد كبير، لكلا الفريقين، ولكنَّ له اسمين مختلفين هما جوزيبي مياتزه وسان سيرو.

في الحقيقة إنَّ النادي الأصلي هو ميلان بألوانه السوداء والحمراء، وكان هو النادي الوحيد في مدينة ميلانو، ولكنَّ النادي أصدر قراراً بمنع اللاعبين الذين لا يملكون الجنسية الإيطالية باللعب في الفريق، وحدث انقسام حاد في وجهات النظر بين مؤيد ومعارض للقرار.

لقد كانت الأصوات المعارضة قوية ومصرَّة على رأيها ومتضامنة مع اللاعبين الأجانب؛ مما دفعهم إلى الانشقاق عن النادي الأم وتشكيل فريق جديد أسموه "إنتر ميلانو" سمحوا فيه لجميع اللاعبين بالانضمام إليه مهما كانت جنسياتهم، وتأتي تسميته "إنتر" اختصاراً لكلمة إنترناسيونال وهي تعني العالمي أو الدولي، وقد حقق هذا النادي الوليد لقب الدوري الإيطالي؛ وذلك بعد سنتين فقط من تاريخ تأسيسه، وأصبح ديربي ميلانو من أكثر المباريات متابعة وجماهيرية.

إقرأ أيضاً: أشهر 6 لاعبي كرة قدم من إيطاليا

"الأهلي والزمالك" الصراع الطبقي بين البرجوازية والبروليتاريا:

من الأمثلة العربية عن العداوات التاريخية الغريمين التقليديين في الدوري المصري لكرة القدم النادي الأهلي ونادي الزمالك، ويأخذ الصراع بينهما منحى طبقياً؛ إذ يُعَدُّ النادي الأهلي نادياً للعمال والبروليتاريا بالإضافة إلى المثقفين والمحامين؛ إذ إنَّ سعد زغلول - شخصية وطنية مصرية معروفة - هو من أسَّس النادي الأهلي، وأسموه الأهلي كونه نادي الشعب ونادي الفقراء والبسطاء والمثقفين الثوريين.

من جهة أخرى، لدى نادي الزمالك مواصفات وظروف تناقض النادي الأهلي بشكل كامل؛ إذ تأسَّس نادي الزمالك على يد رجل أعمال بلجيكي، وكان مقرَّباً من الخديوي إسماعيل، والذي كان يحكم مصر في تلك الفترة، بالإضافة إلى ارتباط نادي الزمالك بالسلطة والحكم بشكل مباشر، فقد كان اسمه في تلك الفترة نادي "قصر النيل"، وهو ما زاد من سمعته البرجوازية، على عكس النادي الأهلي الذي كان نشيده الخاص مليئاً بالشعارات الثورية.

دور كرة القدم في تبريد الصراعات الطبقية:

شكَّل الصراع الكروي بين الأهلي والزمالك تجسيداً لما يُسمى "الصراع الطبقي"، ويؤكِّد خبراء علم النفس أنَّ تحوُّل هذا الصراع الطبقي - بشكل أو بآخر - إلى صراع على أرضية الملعب بين فريقي كرة قدم، وإلى صراع بالهتافات بين جماهير الفريقين في المدرجات؛ مما ساهم بشكل كبير في تفادي صراع حقيقي على أرض الواقع، وكان من الممكن أن يحدث لو لم يكُن هنالك عدة متنفسات أو تصريفات الاحتقان الشعبي لطبقة العمال في مواجهة طبقة أصحاب المال والسلطة.

"روما ولاتسيو" الصراع الراديكالي بين اليمين واليسار:

روما ولاتسيو

في الدوري الإيطالي لكرة القدم كانت أندية الشمال متفوقة على أندية الجنوب بشكل كامل؛ لذلك اقترح الجنرال الفاشي اليساري "موسوليني" توحيد أندية الجنوب تحت راية نادي واحد يحمل اسم العاصمة روما، وكان ذلك في عشرينيات القرن الماضي.

وافقت أندية الجنوب على طلب موسوليني، فيما عدا نادي "لاتسيو" الذي ينتمي أيضاً إلى العاصمة روما، ومن هنا بدأت شرارة الصراع بين قطبي العاصمة الإيطالية؛ إذ بدأ لاتسيو رحلة إثبات نفسه وقوته وقدرته على إكمال الطريق وحيداً؛ إذ تراجعت شعبيته بين صفوف جماهير العاصمة الإيطالية، وبدأت معركة لم تنتهِ حتى الآن بين لاعبي وجماهير الفريقين، ونجد الكثير من المباريات التي أُوقِفَت لبعض الوقت بسبب رمي الألعاب النارية داخل أرضية الملعب، بالإضافة إلى الشعارات العنصرية المعيبة التي كانت وما زالت الجماهير ترفعها في المدرجات.

دور كرة القدم في تبريد الصراعات الراديكالية المتطرفة:

على الرغم من الأحداث الدامية - بالمعنيين النفسي والجسدي - التي كانت وما زالت ترافق مباريات الفريقين، غير أنَّ العديد من علماء النفس يؤكدون أنَّ كرة القدم هي خير وسيلة من أجل تفريغ المشاعر والأحقاد المكبوتة، ومهما حدث من شغب أو عنف ضمن المباريات فهو ينتهي بانتهاء المباراة، ولو لم يُصرَّف هذا الغضب أو الانفعال بهذه الطرائق - ولو كانت قاسية بعض الشيء - لكانت النتائج من الممكن أن تكون كارثية على مستوى إيطاليا أو حتى أوروبا كلها، كما يحدث في الكثير من دول العالم الثالث والبلدان النامية.

إقرأ أيضاً: هل تقوم بخلق صراعات غير مُتعمَّدة؟

في الختام:

تثبت لنا كرة القدم مجدداً أنَّها أكثر من مجرد رياضة واقتصاد واستعراض للقوة؛ بل أصبحت جامعة للشعوب ومصرفاً طبيعياً وسليماً لكل أنواع الأحقاد والخلافات والصراعات، والتي لا يمكن أن نقضي عليها بشكل كامل لأنَّها تشكل جزءاً أساسياً من تكوين النفس البشرية، ومحاربتها ستؤدي إلى رد فعل مناقض يتمثل في تأجيجها وزيادتها، فالحل الأفضل هو إيجاد وسيلة لتفريغها، وعلى ما يبدو أنَّ كرة القدم هي خير وسيلة لهذا التفريغ.

المصادر:

  • 1، 2، 3
  • كتاب أكثر مما يعتقدون، الجزء الثالث، الإعلامي الرياضي محمد عواد.



مقالات مرتبطة