كل ما نعرفه عن الشغف ليس إلا كلاماً فارغاً

أُكِنُّ احتراماً كبيراً للفنانين الموهوبين عندما أرى لوحات واقعية لأشخاص رسمها فنان باستخدام ثلاثة ظلال فقط من أقلام الرصاص الملونة؛ فغالباً ما لا أصدق أنَّ ما تقع عيناي عليه ليس بصورة فوتوغرافية، أو شخص ما يرسم لوحات طبيعية لسلاسل الجبال والأنهار التي تبدو واقعية بكامل تفاصيلها كما لو كانت أمامك مباشرة؛ فحقيقة أنَّ بإمكان النحاتين نحت تمثال لشخص بالحجم الكامل مستخدمين الإزميل والمطرقة فقط تسحرني للغاية؛ فأنا من الأشخاص الذي يقدرون جميع أنواع الفن تقريباً؛ لقد قلت تقريباً؛ لأنَّ هناك نوعاً واحداً من الفن لا أفهمه، وهو الفن التجريدي.



ملاحظة: هذا المقال مأخوذٌ عن الكاتب "إيرين فالكونر" (ERIN FALCONER)، ويُحدِّثنا فيه عن عدم جدوى البحث عن الشغف.

لوحة "أونيمينت" (Onement) للفنان "بارنيت نيومان" (Barnett Newman) هي لوحة مطلية باللون الأزرق كلياً مع خط أبيض يمر بمنتصفها بيعت مقابل 43.8 مليون دولاراً، فسرحت في مخيلتي قائلاً: "لكنَّها مجرد لوحة زرقاء مع خط أبيض يمر بمنتصفها".

أتفهَّم أهمية لوحات المناظر الطبيعية أو الناس أو الأشياء التي تبدو أنَّها تتطلب كثيراً من المهارة، ولكن ماذا عن هذه؟ أنا متأكد من أنَّ مناصري الفن التجريدي سيقولون: "لقد فاتتك الفكرة، من الواضح أنَّ هذه اللوحة تعكس عيوب المجتمعات وسعي الجنس البشري إلى إيجاد هدف لحياته، وتشير ضربات الفرشاة هنا إلى صراع يسلط الضوء على عبثية الحياة"، في حين كل ما أفكر فيه هو: "يبدو أنَّك تختلق هذا كله لتشعر بالانتماء لما هو رائد، في حين نحن الحمقى لم نستطع فهم هذا العمل الفني".

ربَّما يوجد شيء لا أفهمه في هذا الأمر؛ فلم يسبق لأحد أن شرح لي هذا النوع من الفن بطريقة منطقية، ولكن من الممكن أنَّني لا أستطيع فهم مغزاه وحسب، ومع ذلك يستمر الناس بإخباري أنَّ هناك معنى مخبأ في طيات تلك اللوحات؛ لكنَّني لا أستطيع رؤيته، إلا أنَّني أمعنت النظر إليها؛ لكنَّني لم أستطع رؤية ذلك المعنى، هذا ما يشعر به معظم الناس عندما يُقال لهم باستمرار أنَّهم بحاجة إلى العثور على شغفهم.

كما قيل لي ذات مرة: "إنَّه في مكان ما، استمر بالبحث وحسب وستجده يوماً ما، وإن لم تجده فاستمر بالبحث"، ما يثير التساؤل هو إلى متى من المفترض أن نبحث؟ إن كنَّا قد أمضينا بالفعل كثيراً من الوقت في البحث من دون جدوى، ألن يكون من الحكمة التفكير في تجربة أسلوب مختلف؟ فأتى الرد على النحو الآتي: "لقد فات الأوان على التراجع؛ فالساعات التي قضيتها بالبحث ستؤتي ثمارها، وفي يوم من الأيام ستجد شغفك؛ لذا لا تستلم".

في مجال الاقتصاد يطلق على هذه الحالة اسم "مغالطة التكلفة الغارقة" (the sunk cost fallacy)؛ فالأمر أشبه بالمقامر الذي خسر كل شيء تقريباً ومع ذلك قرر المراهنة بآخر ما يملك؛ لأنَّه بنظره لقد خسر كل شيء على أيَّة حال، فلِمَ عليه أن يتوقف الآن؟ فإن توقف الآن فيجب عليه مواجهة حقيقة أنَّه خسر كل شيء، ولكن إذا استمر في الرهان فهناك دائماً فرصة لتعويض ما خسره.

إقرأ أيضاً: لماذا قد يكون اتباع الشغف أسوأ نصيحة مهنية على الإطلاق؟

يبدو أنَّه مهما نظر بعض الناس إلى تلك اللوحة لن يتمكنوا من رؤية ذلك المعنى الخفي إطلاقاً، وإن كنا قد قضينا كثيراً من الوقت بالفعل في البحث والتفكير ومحاولة إيجاد شغفنا في الحياة فربَّما حان الوقت للانسحاب، ربَّما لم تسمع هذا الكلام من قبل، ولكن في الواقع أظنُّ أنَّ ثمة أشخاص يقولون: "ألا يُقال لنا بانتظام إنَّه علينا البحث عن شغفنا لأنَّنا إذا وجدناه فلن يتعيَّن علينا العمل مرة أخرى في حياتنا؟ إن وجدنا العمل الذي خُلِقنا للقيام به سنعشر بأنَّ كل يوم هو عطلة، وستصبح حياتُنا رائعةً؛ لأنَّنا نقوم بما نحبه حقاً كلَّ يومٍ، أفلا نكابد قليلاً من أجل هذا كله؟".

لمَ نحتاج إلى أن نجد شغفنا؟

قبل إطلاقي برنامج "أوركينينغ بودكاست" (Aworkening Podcast)، أجريت بعض الأبحاث عن الشغف، ووجدت عدداً ضئيلاً أو شبه معدوم من الاقتباسات لأشخاص ناجحين حقاً يقولون فيها إنَّ العثور على شغفنا سيشعرنا بأنَّ كل يوم عمل هو عطلة. يوصي العديد منهم، مثل وارن بافيت (Warren Buffett) وبيل جيتس (Bill Gates) بأن نجد شغفنا؛ لكنَّ السبب وراء ذلك كان مختلفاً تماماً عمَّا كنا نظنُّه، وإن فكَّرنا بالأمر بعقلانية فالأمر منطقي كلياً.

شاهد بالفيديو: 14 نصيحة لتحويل شغفك إلى أفكار قابلة للتنفيذ

ألقِ نظرة على ما قاله ستيف جوبز (Steve Jobs) أحد أكثر الأشخاص نفوذاً في العالم عن الشغف: "يخبرني الناس بأنَّ لدي شغف كبير تجاه ما أقوم به، وهذا صحيح كلياً؛ والسبب وراء ذلك هو أنَّه من الصعب المضي قدماً من دون وجود الشغف؛ إذ سيستسلم أيُّ شخص عاقل، إنَّه أمر في غاية الصعوبة، وسيتعيَّن عليك القيام بذلك لمدة طويلة.

لذا إن كنت لا تحب ما تفعله أو تستمتع به وإن لم تحبه بكامل جوارحك فسينتهي بك المطاف بالاستسلام، وهذا بالفعل ما يحدث لمعظم الناس؛ في الواقع إن أمعنت النظر في الأشخاص الذين يُعِدُّهم المجتمع ناجحين، والذين لم ينجحوا أيضاً فغالباً ما ستلحظ أنَّ الأشخاص الناجحين لديهم شغف حيال ما يقومون به، ولهذا السبب تمكنوا من متابعة طريقهم حتى في أقسى الظروف".

الأشخاص الناجحون حقاً يدركون أنَّ علينا أن نكون شغوفين بما نفعله؛ لأنَّهم على يقين بأنَّنا نحتاج إلى شيء ما يدفعنا إلى الأمام في الأوقات العصيبة، على الرغم من أنَّنا أُوهِمنا بأنَّ إيجاد شغفنا يعني أنَّه لن يتعيَّن علينا أن نعمل مرة أخرى، إلا أنَّ الأشخاص الناجحين يعلمون أنَّ هذا غير صحيح.

إذا كنَّا نقوم بشيء ذي أهمية كبيرة فلا بد أن نمر بأيام عصيبة للغاية، ويؤكد الأشخاص الناجحون أنَّنا بحاجة إلى التحلي بالشغف؛ لأنَّهم يعلمون أنَّنا سنحتاج إلى دافع متين بما يكفي ليدفعنا للمضي قدماً عندما تفتر عزيمتنا ونفكر بالاستلام؛ إذ إنَّهم لم يكونوا ليعيروا أهمية للشغف لو كان النجاح سهلاً؛ لأنَّه لو كان سهلاً حقاً فلن نفكر بالاستسلام أبداً.

ما ينساه معظم أنصار مقولة: "اتَّبع شغفَك" هو أنَّ ثمة فرقاً بين السعادة والمعنى.

السعادة والمعنى:

يوجد نوعان من المصطافين؛ أولئك الذين يذهبون إلى الشاطئ والذين يتسلقون الجبال، فأولئك الذين اختاروا الشاطئ اختاروه لأنَّهم يرغبون في قضاء عطلة هادئة؛ فهم يريدون التمتع بالرمال، وقضاء رحلة ممتعة بعيداً عن المتاعب؛ أي إنَّهم يبحثون عن السعادة، على خلاف ذلك أهداف متسلقي الجبال؛ فهم يتوقعون معاملة تضاريس قاسية وتحديات وعدد هائل من المصاعب؛ فهم يتسلقون الجبال ليس لأنَّ ذلك سهلاً؛ وإنَّما لأنَّ ذلك هام بالنسبة إليهم؛ إذ يضيف تسلقهم للجبال معنى لحياتهم، ويختار هذان النوعان من المصطافين وجهتيهما لأسباب مختلفة؛ الأول يبحث عن السعادة، والثاني يسعى إلى البحث عن معنى؛ لكنَّ الوجهتين مختلفتان كلياً.

شاهد بالفيديو: 8 طرق لإعادة إحياء السعادة في حياتك

عندما يتحدث الناس عن الشغف فإنَّهم يتوقعون أن يجدوا السعادة والمعنى في ذات المكان، هذا ممكن؛ لكنَّه نادر للغاية، وبالتأكيد ليس شيئاً سيتمكن الجميع من تحقيقه؛ فكلما زاد معنى ما نقوم به زادت صعوبته، وبالمثل كلما كان عملنا سهلاً وممتعاً قلَّ المعنى الذي قد يحمله، أو ربما قد يكون له معنى أعمق، من يدري؟ ولكن من غير المعقول توقُّع أن تؤدي أيُّ مهنة إلى كليهما.

ما المغزى من هذا؟

إذاً ماذا سنفعل إن وجدنا أنفسَنا محبطين خلال البحث عن شغفنا؟ هل ننسى كل ما تعلمناه عن أنفسنا خلال رحلة بحثنا عن عمل لا بأس به؟ بالطبع لا، ففي بعض الأحيان كل ما يتطلبه الأمر هو تحويل تركيزنا من البحث عن عمل ينبغي علينا أن نحبه إلى البحث عن عمل يلبي طموحاتنا؛ باختصار أن نجد العمل المناسب لنا.

إن تمكَّنا من متابعة العمل بكدٍّ مدركين أنَّ الأيام لن تكون سهلة مطلقاً وأنَّنا يجب أن نمضي قدماً في الأوقات العصيبة؛ فسينتهي بنا المطاف بالرضى الوظيفي والرضى عن حياتنا عموماً، وهذا أفضل بكثير من بقائك جالساً وأنت تتأمل حياتك تمضي أمام عينيك على أمل العثور على ذلك المعنى الذي يراه الجميع إلا أنت.

غالباً ما يتسبب البحث اللامتناهي عن الشغف في فقدان الناس للفرص المتاحة أمامهم، فرص لا تحتوي على الهالة من النعيم التي توافق شغفنا الغامض؛ لكنَّها فرصة تناسب وضعنا الحالي وستأخذنا إلى المكان الذي نتمناه.

بصرف النظر عن مقدار شغفنا بعملنا إلا أنَّنا سنقضي أياماً سيئة وسنضطر إلى معاملتها حتى عندما نشعر بأنَّنا لا نقوى على ذلك، عوضاً عن التمسك ببعض الأوهام التي تخبرنا بأنَّه ليس على العمل أن يكون بهذه الصرامة.

لأوضِّح وجهة نظري أكثر؛ أنا لست ضد الشغف؛ إذ يمكن لبعض الأشخاص رؤية المعنى الخفي في اللوحة وملاحقة شغفهم، وأنا سعيد للغاية لهؤلاء الأشخاص.

لكن كما أسمع في برنامج "أوركينينغ بودكاست" عن الأشخاص الذين يتطلعون إلى العثور على وظائف إبداعية ومثيرة للاهتمام، أدركت أنَّ كثيراً من الأشخاص يتعثرون في بحثهم عن شغفهم ويشاهدون حياتهم تمضي أمام أعينهم.

إقرأ أيضاً: مشكلة مفهوم الشغف بالمعنى المعاصر

يظنُّ كثير من الأشخاص وجود خطب ما بهم لأنَّهم لم يجدوا طريقة لكسب المال من شغفهم أو لأنَّ المسعى الإبداعي الذي يعملون عليه لا يجعلهم يشعرون بالراحة، وهذا ببساطة ليس صحيحاً، فإذا تمكَّنا من العثور على عمل يناسبنا ويوصلنا إلى حيث نريد على الرغم من أنَّه قد لا يجعلنا نشعر بالشغف في العمل في معظم الوقت، سيجعلنا ذلك شغوفين بالحياة، وسنجني مزيداً من المال وسيكون لدينا مزيدٌ من الوقت للقيام بما يسعدنا وغالباً ما سينتهي بنا المطاف لنكون سعداء في المستقبل.

في الختام:

إنَّ البحث عن شغفنا ليس بالأمر الخاطئ، ولكن بالنسبة إلى أولئك الذين ينظرون إلى اللوحة ويرون خطَّاً أبيض في منتصف لوحة زرقاء فأنتم لستم وحدكم في ذلك، ولا عيب فيكم.




مقالات مرتبطة