في بيئة يتجاور فيها العمل المكتب والمنزل، لم يعد التحدي في التكنولوجيا أو السياسات، بل في العقلية القيادية التي تدير هذا التنوع اليومي؛ إذ ما زال بعض القادة يطبقون أساليب “الإدارة بالمشاهدة”، ويغفل آخرون عن أهمية خلق ثقافة واحدة تتجاوز الحدود الجغرافية.
يحلل مقالنا هذا الأسباب الجذرية لفشل إدارة فرق العمل الهجينة رغم كل ما تحمله من مزايا، ويقترح نهجاً قيادياً ذكياً قائماً على القيادة الرقمية، ويعيد الانسجام بين أعضاء الفريق، ويمنحهم شعوراً مشتركاً بالانتماء والولاء داخل بيئة العمل الموزعة
التباعد الجغرافي يخلق فجوة إنسانية وتنظيمية
"تشير الدراسات إلى أنّ فرق العمل الهجينة تسجل تراجعاً بنسبة 25% في الترابط والثقة مقارنة بالفرق التقليدية".
أصبح التباعد الجغرافي بين الزملاء من أبرز التحديات التي تهدد التماسك التنظيمي داخل المؤسسات الحديثة، في ظل توسع بيئة العمل الموزعة. فبينما يمنح العمل الهجين مرونةً كبيرةً، يكشف، في المقابل، عن فجوة إنسانية وتنظيمية تتجلى في ثلاثة مظاهر أساسية، وهي:
1. ضعف التواصل غير الرسمي بين الزملاء
لم تعد الأحاديث الجانبية أو اللقاءات العفوية في أروقة العمل ممكنة، وتسبب ذلك في تراجع العلاقات الإنسانية التي تُبنى على الثقة والدفء اليومي. وهذا ما أثبتته دراسة (McKinsey & Company) لعام 2024؛ بإشارتها إلى أنّ 54% من فرق العمل الهجينة تواجه صعوبات في التواصل والثقة المتبادلة، مما ينعكس سلباً على الأداء العام ويعمّق الشعور بالانفصال بين أعضاء الفريق.
2. صعوبة الإحساس بالانتماء في بيئات العمل الرقمية
يشعر كثيرٌ من الموظفين بالعزلة نتيجة اعتماد التواصل الافتراضي، وهو ما يضعف ارتباطهم العاطفي بالمنظمة والزملاء.
3. انخفاض معدل التعاون العفوي والإبداع الجماعي
قلّت فرص تبادل الأفكار والابتكار المشترك، مما قلل من الطاقة الإبداعية التي كانت تزدهر في بيئة المكتب التقليدية، وذلك نتيجة غياب التفاعل الطبيعي.
يمكن هنا التفكير بأهمية القيادة الرقمية وإدارة فرق العمل الهجينة بأسلوب جديد يركز على التواصل الفعّال وتعزيز الثقة بين الفرق. فالمطلوب اليوم ليس مجرد تنسيق المهام، بل بناء بيئة عمل تُعيد الدفء الإنساني والانسجام التنظيمي رغم المسافات الجغرافية.

القيادة التقليدية في بيئة غير تقليد
"أبرز أسباب فشل الفرق الهجينة هي ضعف القيادة الرقمية وغياب سياسات توازن بين التواصل والمرونة".
يواجه القادة في الوقت الحاضر تحدياً يتمثّل في قدرتهم على التكيّف مع التحولات التي أوجدها نموذج العمل الهجين. فبينما اتجهت بيئات العمل الحديثة نحو المرونة الرقمية والاعتماد المتزايد على التواصل الافتراضي، ما زال بعض القادة متمسكين بأساليب الإدارة التقليدية التي ترتكز على الرقابة المباشرة والحضور المادي كمقياس رئيس للأداء.
يولّد هذا التباين بين القيادة التقليدية ومتطلبات البيئة الجديدة فجوةً تنظيميّةً وإنسانيةً تُضعف روح الفريق، وتقلل من عمق التفاعل الإنساني، وتُحدث تآكلاً تدريجياً في الثقة بين أعضاء الفرق. ذلك لأنّ نجاح العمل الهجين لا يتحقق بإدارة المهام عن بُعد فحسب، بل بقيادة مرنة قادرة على تمكين الأفراد وإدارة العلاقات من خلال الوسائط الرقمية بذكاء وتعاطف.

وبناءً على تحليل تجارب مؤسسات وخبراء في مجال إدارة فرق العمل الهجينة، يمكن تحديد ثلاثة أسباب جوهرية تقف وراء ضعف الأداء الجماعي في هذه البيئات، نذكرها تالياً:
1. غياب بروتوكولات واضحة للتواصل الرقمي
تُعد الفوضى في إدارة التواصل الرقمي من أبرز أسباب سوء الأداء الجماعي. فعندما تُترك الاجتماعات الافتراضية بلا تنظيم واضح أو أهداف محددة، تزداد فرص سوء الفهم والإرهاق الذهني. كما وأشار خبراء الموارد البشرية، في هذا الصدد، إلى أنّ بعض المؤسسات تقع في فخّ “كل شيء مسموح”، مما يؤدي إلى غياب المعايير الواضحة حول متى وكيف يتواصل الأفراد.
ونتيجةً لذلك، يتوزع الموظفون بين دوائر نقاش غير متناسقة، ويُستبعد بعضهم من فرص صنع القرار. بالتالي، يُفقد غياب التخطيط المتعمّد للتواصل إدارة فرق العمل الهجينة جوهرها القائم على المرونة المنظمة، ويحوّلها إلى فوضى رقمية تُضعف التعاون والإبداع.
2. تفاوت تجارب الموظفين بين المكتب والمنزل
يُعد ضعف الإحساس بالانتماء من الأسباب الجذرية لضعف التواصل الجماعي، والذي ينتج عن الفجوة بين العاملين من المكتب وزملائهم عن بُعد. فبينما يتمتع الحاضرون في المكتب بفرص أكبر للتفاعل والتقدير المباشر، يشعر أولئك الذين يعملون من المنزل أحياناً بأنّهم مهمّشون أو أقل تأثيراً.
يخلق هذا التفاوت انقساماً داخل المؤسسة، فينشأ ما يمكن تسميته بـ “ثقافتين مختلفتين"؛ ثقافة المكتب وثقافة العمل عن بُعد". ويتراجع التواصل غير الرسمي بين الزملاء مع مرور الوقت، وينخفض معدل التعاون العفوي والإبداع الجماعي، لتضعف معه روح الفريق وتزداد احتمالات الاحتكاك أو الانسحاب النفسي من العمل.
3. قيادة تفتقر إلى المرونة الرقمية
تتطلب القيادة في العالم الهجين مهارات جديدةً لا تقتصر على إدارة فرق العمل الهجينة، بل تمتد لتشمل بناء الثقة عن بُعد، وتحفيز الفرق من خلال أدوات رقمية، وإيجاد التوازن بين الرقابة والتمكين.
ومع ذلك، ما يزال بعض المديرين يقودون فرقهم بعقلية المكتب التقليدية: "إذا لم أرك تعمل، فكيف أعلم أنك تعمل؟". يُفقد هذا النمط الفرق الشعور بالاستقلالية ويضعف الحافز الذاتي. كما يؤدي تجاهل أهمية تدريب القادة على الذكاء الرقمي العاطفي إلى فجوة في التواصل الإنساني، فيتحول إدارة فرق العمل الهجينة إلى سلسلة من المهام المعزولة بدل أن يكون منظومة تعاون حيّة وفعّالة.
وقد أظهرت تقارير حديثة أنّ أزمة القيادة في بيئات العمل الهجينة لا تزال قائمةً؛ إذ كشف تقرير (CNBC 2024) أنّ نحو 70% من المديرين لم يتلقّوا أي تدريب رسمي لإدارة الفرق الهجينة بفعالية، وفي السياق ذاته، أشار تقرير شركة (McKinsey & Company) في تقريرها السنوي (The State of Organizations) لعام 2023، أنّ ما يزيد على 50% من القادة والمديرين التنفيذيين يعترفون بعدم ارتياحهم أو عدم جاهزيتهم الكاملة لقيادة فرق هجينة أو موزعة.
شاهد بالفيديو: 5 نصائح لإدارة فرق العمل عن بعد
بروتوكول القيادة الهجينة الذكية (Hybrid Leadership Protocol)
"تعتمد القيادة الهجينة الذكية على التواصل المنظم، والثقة المتبادلة، وتعزيز الروابط الإنسانية رغم التباعد".
مع الانتشار واسع النطاق لبيئات العمل الموزعة والهجينة، أصبح من الضروري للقادة تبني أساليب قيادة عملية تعزز التماسك التنظيمي والثقة بين الفرق؛ إذ تتطلب هذه البيئات بناء علاقات قوية بين أعضاء الفريق، وضمان التواصل الفعّال، وتحفيز الأداء حتى عن بُعد.
وقد أظهرت دراسة حديثة نشرتها (Harvard Business Review) في عام 2025، أنّ تطبيق بروتوكولات قيادة واضحة في الفرق الهجينة أدّى إلى زيادة رضا الموظفين بنسبة 37%، ما يؤكد أهمية وجود إطار قيادة منظم يدعم التفاعل والتعاون بين أعضاء الفريق ويحفزهم على الأداء المتميز. يعتمد بروتوكول القيادة الهجينة الذكية هذا على ثلاث ركائز أساسية، هي:
1. تواصل منظّم وواضح (Structured Communication)
قد يشعر بعض الموظفين بالانعزال الرقمي عند غياب نظام واضح للتواصل في إدارة فرق العمل الهجينة. لذلك، من الهامّ تحديد قنوات رسمية للتواصل، مثل البريد الإلكتروني أو منصات التعاون الرقمية، بالإضافة إلى تحديد أوقات ثابتة للاجتماعات الجماعية. تتيح هذه الاجتماعات الأسبوعية أو الدورية للجميع متابعة المستجدات، ومشاركة الأفكار، والتأكد من وضوح الأدوار والمسؤوليات.
2. قيادة بالثقة لا بالمراقبة (Trust-based Leadership)
لطالما ارتكزت القيادة في الماضي على المراقبة الدقيقة للموظفين. أمّا في بيئة العمل الهجينة اليوم، أصبح التركيز على النتائج الفعلية أكثر فاعليةً من التركيز على الحضور الفعلي؛ فالقائد الذي يعتمد على الثقة، يمنح فريقه الحرية للعمل بمرونة، ويشجع المساءلة الذاتية، أي يتحمّل كل موظف مسؤولية دوره ويطمح إلى تحقيق أهداف الفريق دون شعور بالضغط المستمر.
3. لقاءات إنسانية دورية (Human Connection Rituals)
يبقى العنصر الإنساني هو الأهم، حتى مع أفضل أنظمة التواصل. لذا، يساعد تنظيم لقاءات اجتماعية بسيطة، مثل دردشة القهوة الرقمية أو جلسات تبادل الخبرات، على بناء روابط شخصية قوية بين أعضاء الفريق. كما وتخلق هذه اللقاءات شعوراً بالانتماء، وتكسر حاجز الانعزال الذي ربّما يشعر به الموظفون عن بُعد، وتعزز أيضاً التماسك التنظيمي، وتزيد من التعاون اليومي.
الأسئلة الشائعة
1. ما المقصود بالعمل الهجين؟
نظام يجمع بين العمل من المكتب والعمل عن بُعد بنسب مختلفة.
2. ما أبرز تحديات الفرق الهجينة؟
ضعف التواصل، وغياب الثقة، وصعوبة دمج الموظفين الجدد في الثقافة التنظيمية.
3. كيف تبني الثقة في الفريق الهجين؟
بتبنّي الشفافية، وتحديد الأدوار بوضوح، وتقدير الجهود علناً.
4. هل يمكن أن يكون العمل الهجين أكثر إنتاجيةً؟
نعم؛ بشرط وجود قيادة مرنة وخطة تواصل واضحة.
5. ما دور القائد في بيئة العمل الموزعة؟
إدارة التواصل، وتحفيز الفريق، وضمان العدالة في الفرص والانتباه.
إقرأ أيضاً: وحدة الموظف عن بُعد: الوجه الخفي للعمل المرن
ختاماً: التماسك لا يتحقق بالمكاتب بل بالعلاقات
"يعتمد نجاح الفرق الهجينة على إعادة تعريف القيادة لتصبح أكثر إنسانيةً وتشاركيةً".
لا يتحقق التماسك التنظيمي في الفرق الهجينة بمجرد وجود المكاتب أو المنصات الرقمية، بل يبنى على العلاقات الإنسانية الحقيقية بين أعضاء الفريق. فنجاح الفرق الهجينة يعتمد على إعادة تعريف القيادة لتصبح أكثر إنسانيةً وتشاركيةً، بعيداً عن مجرد إصدار الأوامر ومتابعة الحضور؛ لأنّ العمل الهجين ليس تحدياً تقنياً بل إنسانيا.
تُعد الثقة بين الفرق، في هذا السياق، الخيط الذي يربط الأعضاء معا مهما تباعدت الشاشات؛ إذ لا تُقاس القيادة الناجحة اليوم بعدد الاجتماعات أو عدد الرسائل المرسلة، بل بقدرتها على بناء بيئة يشعر فيها كل عضو أنّه مرئي وهامّ، ويملك مساحةً للتعبير عن أفكاره والمساهمة بفاعلية.
يجب على القائد، لتحقيق هذا الهدف، أن يوضّح الأدوار والمسؤوليات، ويستمع بفعالية إلى ملاحظات الفريق، ويمنحهم الثقة ليؤدّوا مهامهم بحماس ومسؤولية.
تدعم الدراسات هذا التوجّه بوضوح؛ إذ أظهر تقرير (Deloitte Future of Work Study) لعام 2024 أنّ المؤسسات التي تطبق ممارسات القيادة التشاركية تحقق تماسكاً وظيفياً أعلى بنسبة 42%، ما يؤكد أنّ بناء علاقات قائمة على الثقة والتواصل الفعّال والقيادة الرقمية الإنسانية هو مفتاح نجاح الفرق في بيئة العمل الموزعة والهجينة.
لذا، ابدأ من هنا؛ وضّح، واستمع، وامنح الثقة قبل أن تطلبها.
أضف تعليقاً