علم النفس والدوافع الضارة "لثقافة الإلغاء"

إذا كان هناك فيديو يوثِّق كل ثانية من حياتك، فسيحتوي من غير شك على بعض التعليقات الغبية جداً التي أدليتَ بها على مر السنين، ومن المحتمل أيضاً أن يذكِّرك ببعض الآراء التي لم تَعُد تؤمن بها، فقد لا تكون الأشياء التي قلناها في الماضي شنيعة؛ لكنَّنا جميعاً شاركنا تعليقات أو تبنينا آراء وندمنا عليها لاحقاً، فنحن البشر كائنات ترتكب الأخطاء بطبيعتها.



لكن تخيَّل لو لاحقَتك عواقب موقف واحد أسأت فيه الحكم أو شاركت رأياً متطرفاً إلى الأبد، وهذه هي المشكلة التي يواجهها مجتمعنا الآن مع انتشار ثقافة الإلغاء.

في عام 2016، نشرت طالبة المدرسة الثانوية آنذاك "ميمي غروفز" (Mimi Groves) مقطع فيديو على منصة "سناب شات" (Snapchat) لفظت فيه إهانة عنصرية، وتداول طلاب مدرستها مقطع الفيديو الذي تبلغ مدته ثلاث ثوانٍ دون أن يسبب جدلاً في ذلك الوقت.

لم يرَ زميلها "جيمي جاليجان" (Jimmy Galligan) المقطع حتى العام الماضي بعد أن أصبح الاثنان في السنة الأخيرة من المرحلة الثانوية؛ أي بعد أربع سنوات من نشرها له، وبحلول هذا الوقت حوَّلت "غروفز" تركيزها إلى دورها بصفتها قائدة فريق المشجعات ولديها أحلام كبيرة بالالتحاق بجامعة مشهورة بفريق مشجعيها المصنف على المستوى الوطني.

بالنسبة إلى "غروفز"، كان صيف عام 2020 وقتاً للاحتفال بعد أن اكتشفت أنَّها قُبِلَت في فريق مشجعات الجامعة؛ لكنَّ فرحتها لم تدم طويلاً عندما أغضب مقتل جورج فلويد العالم، وعادت حركة "حياة السود هامة" (Black Lives Matter).

مثل العديد من المراهقين، استعملت "غروفز" منصات وسائل التواصل الاجتماعي لحث الناس على الاحتجاج والتبرع وتوقيع العريضات لدعم إنهاء عنف الشرطة، لكن خلال ذلك الوقت عاد مقطع الفيديو ليدمِّر حياتها؛ إذ علَّقت إحداهن على منشور لـ "غروفز" على موقع "إنستغرام" (Instagram): "كيف تتجرئين على نشر هذا بعد قولك لكلمة عنصرية؟".

وحينها بدأ هاتفها يرن دون توقف؛ إذ احتفظ "جاليجان" بالفيديو الذي شاركَته منذ أربع سنوات، واختار المباركة لها بدخول الجامعة عبر نشره على كل منصات وسائل التواصل الاجتماعي الرئيسة.

مع انتشار الفيديو على نطاق واسع، اندلع الغضب بين الناس، وراحوا يطالبون الجامعة بالتراجع عن قبول "غروفز"، وبالفعل استسلمت الجامعة ورفضَتها من فريق التشجيع، وهو قرار أدى إلى انسحاب "غروفز" من الجامعة.

بالطبع، استعمال الإهانات العنصرية من أي نوع هو سلوك مهين وغير لائق، ولكن هل يكفي تعليق واحد منذ أربع سنوات لتدمير مستقبل مراهِقة لم تدخل مرحلة البلوغ بعد؟ وفقاً للرأي العام أجل، حتى إنَّهم لم يعطوها فرصة للتكفير عن ذنبها.

إقرأ أيضاً: خماسية العقلية القمعية!

سبب انتشار ثقافة الإلغاء:

قصة "غروفز" هي مجرد قصة واحدة من قصص عدة. انتشرت ثقافة الإلغاء خلال السنوات العديدة الماضية أكثر مما كان يتوقعه أي شخص؛ لكنَّها لا تستهدف فقط الأشخاص الذين قالوا أموراً غير لائقة في الماضي؛ بل تهاجم اليوم كل شخص يتبنى أي رأي يتعارض مع أفكار نظرة "الووك" للقضايا، فيتعرض هؤلاء الأشخاص للسخرية على الإنترنت ويُطرَدون من وظائفهم، ويُحظَر بعضهم من استعمال منصات وسائل التواصل الاجتماعي الشهيرة بالكامل.

حتى إنَّ "مايك آدامز" (Mike Adams)، الأستاذ من "جامعة نورث كارولينا ويلمنجتون" (University of North Carolina Wilmington)، انتحر بعد أن فُسِّرَت تغريداته على أنَّها مسيئة، وسبَّبت تقاعده المبكر بعد سنوات من التدريس في الجامعة.

"جوناثان هايدت" (Jonathan Haidt)، مؤلف كتاب "العقل الصالح" (The Righteous Mind) والمؤلف المشارك لكتاب "تدليل العقل الأمريكي" (The Coddling of the American Mind)، كان ناقداً صريحاً لظاهرة الإلغاء الثقافي، وقال في مقابلة له من عام 2018: "جزء من ثقافة الإلغاء هو أنَّك تحصل على الثناء حين تشير إلى خطأ شخص آخر".

هذه الإشارة إلى الفضيلة، التي هي في الحقيقة مجرد وسيلة لتثبت للمجتمع كم أنَّ آراءك "خيِّرة" و"أخلاقية"، هي نصف المعادلة فقط، وتتعلق ثقافة الإلغاء أيضاً بالضغينة الشخصية، وهو أمر واضح في حالة "غروفز"؛ إذ لم يستعمل "جاليجان" مقطع الفيديو ضدها حتى أصبح الوقت مناسباً لإلحاق أقصى قدر ممكن من الضرر.

قال "هايدت": "وصلت ثقافة الإلغاء إلى مستوى الانتقام الشخصي، وأصبح الناس يبذلون قصارى جهدهم لإيجاد طرائق لتفسير الأشياء التي يقولها الآخرون على أنَّها مهينة"، وبصرف النظر عن الإهانات والتعليقات غير اللائقة، جعلت ثقافة الإلغاء الناس يخافون من مشاركة آرائهم خشية إدانتهم بالتفكير الخاطئ بشأن أيَّة قضية.

إقرأ أيضاً: لماذا لا تعد آراء الآخرين هامة؟

مخاطر ثقافة الإلغاء:

إنَّنا نعيش اليوم في عصر يشعر الناس فيه بالقلق دائماً خشية أن يجعلهم أي رأي ينشرونه ضحايا ثقافة الإلغاء، ولم يعد هناك فرصة ليغيِّر الفرد رأيه، ولا مجال ليدافع عن الآراء التي يؤمن بها، وهذه مشكلة كبيرة في مجتمع مدني.

تحدَّث "هايدت" عن أهمية حماية حرية التعبير عن الرأي كي نعيش في مجتمع فيه آراء متباينة يمكننا اختيار ما نقتنع به من بينها، قال: "أحد أهم الجوانب هو ألا يخشى الناس من مشاركة آرائهم، ولا يخشوا من أن يتعرضوا للوصم اجتماعياً لاختلافهم مع الرأي السائد".

هناك احتمال كبير بأنَّ آراءك عن قضايا معينة ستتغير مع مرور الوقت، أو قد لا يحدث ذلك، لكن في كلتا الحالتين لا يجب أن تعيش في خوف من أن تُقابل معتقداتك بالوصم بالعار اجتماعياً والنفي، لكن لم يعد هناك مجال لمشاركة آرائنا اليوم؛ ذلك لأنَّنا لم نعد قادرين على الاختلاف بعضنا مع بعض باحترام.

لن تتفق دائماً مع كل ما يقوله الآخرون، سواء كانوا أساتذتك أم زملاءك أم والديك، حتى إنَّ آراءك قد تتغير عندما تتعلم أشياء جديدة وتنمو بصفتك فرداً؛ لكنَّ التمتع بحرية امتلاك وجهة نظر مختلفة واختيار ما تؤمن به أمر ضروري للتجربة الإنسانية والنقاش المجتمعي.

هناك خيارات لكل شيء، من الملابس التي ترتديها والمنتجات التي تشتريها، والأفكار التي تؤمن بها، وقد لا تحب الزي الأول الذي تجربه عندما تتسوق، أو حتى الثاني أو الثالث؛ لكنَّ تجربة الأزياء أو الآراء المختلفة تسمح لك بالتفكير في نفسك ومعرفة ما تريده أو تؤمن به.

لكي تكون منفتح الذهن حقاً، يجب أن تكون قادراً على وضع جميع الآراء في الحسبان، عوضاً عن إدانة أيَّة فكرة تتعارض مع آرائك. تشجِّع مناقشة الأفكار بحرية الأفراد على مشاركة أفكار فريدة، وتسمح للآراء بالتطور.

بسهولة، التشهير بالآخرين ليس مفيداً؛ بل هو نوع من العقاب البحت والتباهي بالذات، كما أنَّه نادراً ما يغير طريقة تفكير الشخص، وغالباً ما يزيد من تطرفه؛ وهذا يوسع الشرخ بين معتقدات الناس.

الاختلاف هو أساس الديمقراطية، وحرية التعبير عنصر جوهري للابتكار وبناء المجتمعات والمجتمع المدني؛ لذا يجب علينا أن نحافظ على هذه القيمة الأساسية ونحميها؛ ذلك لأنَّه دون القدرة على التحدث بحرية وسماع جميع الآراء، لا يمكن إجراء نقاش مجتمعي، وفي غيابه، لن يكون المجتمع كما نعرفه وستصبح الانقسامات بيننا أعمق.

المصدر




مقالات مرتبطة