سايكولوجيا التصالح مع الذات

قد يظن بعضنا أنَّ عميلة التصالح مع الذات وتقبُّلها هي عملية صعبة ومعقَّدة وتحتاج إلى جهد كبير، ولكنَّنا في حال نظرنا إلى الأمر من زاوية أخرى، قد نجد عكس هذا الكلام تماماً؛ إذ إنَّ الإنسان قد خُلِق ولديه نوع من التصالح مع الذات ومع الطبيعة والأشخاص من حوله، ولو لم يكُن كذلك، لكان انقرض منذ زمن بعيد.



أي إنَّ التصالح مع الذات موجود في جيناتنا بالأصل، وليس ضرورياً أن نخلق تصالحاً مع ذواتنا، فهو موجود أساساً، ولو لم يكُن هذا التصالح موجوداً، لما كنَّا موجودين في هذه الحياة، أو لما بقينا موجودين لو لم نكُن متصالحين مع أنفسنا ومع الآخرين من حولنا، ومع الطبيعة والنباتات والحيوانات وكل أجزاء ومكونات النظام الكوني.

ماذا يعني مفهوم التصالح مع الذات؟

إنَّ التصالح مع الذات يعني أن تدير المشاعر والعواطف والأحاسيس والأفكار والهواجس والمخاوف وكل ما من شأنه أن يحمل طاقة في داخلك؛ إذ تمشي كلها بحركة دائرية دون أن تتصارع أو تتعارض مع بعضها، وتنسيق حركتها واتِّجاهها ولا تتصادم مع بعضها ولا تؤجِّج حرباً داخلية تكون فيها الخاسر الأكبر، دون أن تحاول كبتَ بعضها أو إخماد بعضها الآخر؛ لأنَّ ذلك يؤدي إلى تأججها وإدخال نفسك في حرب حقيقية معها تكون فيها خاسراً كائناً من كان المُنتصر.

ما هي أهمية التصالُح مع الذات؟

تكمن أهمية التصالُح مع الذات بأنَّه الطريقة الوحيدة لتتصالح مع محيطك الخارجي وتتعامل معه على حقيقته؛ إذ لا تصطدم معه وتُضيع وقتك وجهدك وقدراتك في معاكسته أو محاربته.

تصالح مع ذاتك كما تتصالح مع النظام الكوني:

أنتَ بصفتك إنساناً تسير وفق دقات قلبك لا يمكنك أن تفرضَ عليه دقات معيَّنة، وهكذا هو النظام الكوني والفيزيولوجيا البشرية والنفسية، ولا تستطيع أبداً بأي شكل من الأشكال أن تقف في وجهها أو تغيِّر مسارها؛ بل عليك أن تفهم حقيقتها وطبيعتها ثم تتصالح معها وتتماهى في هذا الكون؛ لأنَّك جزء لا يتجزأ من النظام الكوني، ولا تستطيع بأي حال أن تسلخ نفسك عنه.

قد يكون ما نقوله صادماً أو غير منطقي، لكن هل كل تلك الجبال والبيوت والغيوم ليس لها وجود إلَّا في داخل وعيك؟ إنَّ وعيك تلقَّى مجموعة من الإشارات والبيانات، وفسَّرها وقرأها على النحو الذي تراه أنت الآن أمامك.

إقرأ أيضاً: 6 خطوات مهمة تساعدك على المُضي قُدماً في الحياة

هل حب الذات يعني الأنانية؟

يوجد مثل ألماني يقول: "بعد أن خاب ظني في الكثيرين من الناس، عرفتُ أنَّ حب الذات ليس بأنانية"، وهذا كلام دقيق جداً؛ إذ إنَّ الكثيرين من الناس يخلطون بين حب الإنسان لنفسه وبين الأنانية؛ فالأخيرة تنطوي على الزهو بالنفس والتكبُّر بطريقة تؤذي الآخرين معنوياً أو مادياً، أما حب الذات فهو مفهوم شامل يقتضي حب الذات بجميع مكوناتها وأجزائها الخيِّرة منها والشريرة، وحين نحبها وتقبلها فإنَّنا سنتقبل الآخر ونفتح له ذراعينا برحابة صدر.

هل التصالح مع الذات يقتضي التخلُّص من الجانب المظلم لشخصية الإنسان؟

لدى كل إنسان في الكون جانب مظلم وهو جزء من الذات، وقد نستطيع أن نتغاضى عنه أو نهمله، ولكنَّنا بكل تأكيد لا نستطيع أبداً التخلُّص منه، وعندما نقيِّم أي تصرف خارجي أو شخصية من حولنا فإنَّنا في حقيقة الأمر نرفض أو ننقد جزءاً من ذاتنا، ونكون بحاجة إلى تقبُّله والتصالح معه ولكنَّنا لا نفعل ذلك لعدَّة أسباب.

توجَد داخل النفس الإنسانية كل الألوان والطباع والصفات من الأبيض إلى الأسود، والتصالُح مع الذات يعني أن نتصالح مع جميع هذه الصفات والألوان المختلفة ونتقبَّلها كجزء من الطبيعة البشرية والنظام الكوني.

هل التصالح مع الذات يقتضي أن نصبح قديسين؟

الإنسان المُتصالِح مع ذاته لا يقول: "أنا شخص طيب أو أنا إنسان أحب فعل الخير"؛ بل على العكس من ذلك تماماً هو بهذه الطريقة يأخذ قطباً واحداً من أقطاب الحياة، بينما التصالح مع الذات يقتضي تقبُّل قُطبي الحياة وكل نقاط بينهما؛ أي بمعنى آخر الإنسان المُتصالِح مع ذاته يعلم تماماً أنَّه السارق وأيضاً يعلم أنَّه القديس، وكل ما بينهما من صفات متناقضة ومتخالفة، وهو يدرك بأنَّ كل تعابير الكون موجودة داخله، وهو يحتضن جميع مكوِّنات ذاته ويتصالح معها ولا يرفضها أو يتنكر لها.

كيف يمكن أن يفيدنا التصالُح مع الذات في الحياة العملية؟

أهمية أن يكون الإنسان متصالحاً مع ذاته تنبع عن كون الحياة فيها جميع الأشكال والألوان والطباع والمواقف، أو حتى عدد لا نهائي منها؛ أي بطريقة لا يمكن أن نتعامل معها باستخدام لون واحد من الألوان الموجودة داخل ذاتنا، ومن خلال التصالح مع الذات واحتضان جميع ألوانها ومكوِّناتها التي هي أشبه بالأدوات نستطيع انتقاء ما يناسب الحالة أو الموقف الذي نتعرَّض إليه.

في حال أردتَ أن تتكلم إلى شخص يريد الأذى، فإنَّ السليم أن تختار اللهجة القاسية أو الجديَّة أو القوية بحسب الموقف، فإن كنتَ متنكراً للجانب القاسي من شخصيتك أو ترى القسوة شراً، فإنَّك لن تستطيع أن تجسِّد الشخصية القاسية أو القوية، وهذا لن يخدمك أبداً في الحياة إن لم تكُن متصالحاً مع الجانب القوي أو القاسي من ذاتك.

هذا ما يتميَّز به الإنسان المُتصالح مع ذاته، فهو قادر على انتقاء الشخصية القوية والقاسية من أجل الدفاع عن نفسه حين يتعرَّض إلى الأذى، وهذه فطرة سليمة وصحيحة وهو يستطيع أن يستحضرَ الجانب المناسب من جوانب ذاته واستخدامه في الموقف الملائم له.

شاهد بالفديو: 7 خطوات لبلوغ الرضا عن الذات

أمثلة عمليَّة عن التصالح مع الذات:

في حال رأيت شخصاً يستريح من وقت إلى آخر ويحاول تقنين طاقته واستغلالها في العمل، ويلجأ إلى تدليل نفسه ومكافأتها من حين إلى آخر، وأخذتَ تنتقده أو تلومه أو تقلل من أهمية ما يفعله، فاعلم أنَّك في أعماقك تودُّ الراحة أو بدقة أكثر يوجد جزء من ذاتك يودُّ الراحة ويحبها ولكنَّك تتجاهلها وتتبرأ منها وتنكر وجودها، وهذا ما يدفعك إلى الشعور بالاستفزاز أو الغضب أو عدم الارتياح عندما تراها تتجسد في شخص آخر أمامك.

نفس الأمر عندما ترى شخصاً في غاية النشاط والحيوية، وتنظر إليه بعين ناقدة، أو تحاول التقليل من قيمة ما يقوم به، فإنَّك تنكر جزءاً من ذاتك يود أن يكون مثله بهذا النشاط وبهذه الحيوية؛ والحل بسيط جداً وهو أن تتقبَّل هذا الجزء من ذاتك، وتتصالح معه وتمد له يدك تصافحه، وتشده نحوك وتحتضنه بين ذراعيك، وتعيده إلى البيت الذي أخرجته منه، وهذا البيت هو ذاتك التي لا يمكنك التخلي عن أي جزء منها، كما أنَّه لا يمكنك التخلي عن أيَّة غرفة في منزلك.

كيف يمكن للتصالح مع الذات أن يجعلنا نرى الأمور بطريقة أخرى؟

قد يكون الحديث عمَّا تعتقد أنَّه يشكِّل إحراجاً هو وسيلة لتقبُّل هذا الموضوع، وعدُّه أمراً عادياً لا يستدعي الخجل أو الإحراج، فعلى سبيل المثال كان أحمد يخجل من كون والده "عامل نظافة" ويتجنَّب الحديث عن هذا الموضوع، وكان أحمد طبيباً وإخوته أطباء كذلك؛ لذا كان الأمر محرجاً بالنسبة إليه.

لكنَّه في يوم من الأيام استغرق في التفكير قائلاً لنفسه: "ماذا أستفيد من إخفاء أمر ظاهر للجميع؟"، هنا قرر أحمد أن يتوقَّف عن إخفاء الموضوع ويتقبَّله ويتصالح معه بطريقته الخاصة؛ إذ أصبح يتكلَّم أمام الجميع أنَّ أباه رجل عظيم قلَّ مثيله في هذا الزمان، فعلى الرغم من مهنته البسيطة كعامل نظافة، استطاع أن يُعلِّم جميع أولاده ويؤمِّن لهم كل متطلبات الدراسة على الرغم من صعوبة الحياة، حتى أصبحوا جميعهم أطباء ناجحين في حياتهم المهنيَّة والعمليَّة، فهكذا حوَّل أحمد الموضوع الذي لطالما تسبب له بالإحراج إلى سبب للفخر، وطريقة يقدم فيها شكره وامتنانه وتقديره لكل ما قام به والده من أجله، وتخلَّص من الإحراج؛ وذلك عبر التصالُح مع ذاته.

كيف يمكن للتصالح مع الذات أن يُخلِّص الإنسان من القلق والتوتر؟

في حال كنتَ تعاني من التوتر والقلق، فإنَّك دائماً ما تسأل نفسك عن الطريقة التي تستطيع من خلالها أن تخرج من حالة القلق هذه، وهذا السؤال والإلحاح يجعلك في حرب وجهاً لوجه مع المشاعر السلبية التي تعاني منها؛ مما يؤدي إلى مفاقمتها وتأجيجها.

إنَّ فلسفة التصالُح مع الذات لا تقتضي في هذه الحالة أن تتقبَّل حالة القلق كونها جزءاً منك؛ وإنَّما أن تحثك على أن تتذكَّر شيئاً هاماً، وهو أنَّك في حقيقة الأمر لستَ القلق ولستَ التوتر ولستَ المشاعر السلبية؛ وإنَّما أنت هو الوعي الذي يحتضن هذه المشاعر، وهي ليست دائمة فهي تشتعل وتنطفئ، فالوعي أشبه بالبيت، والمشاعر والعواطف هي ضيوف تدخل إلى هذا البيت تجلس لبعض الوقت ثم تذهب في حال سبيلها.

الهام أن تتصالح مع هذه الحالة من خلال التوقُّف عن إصدار الأحكام المتعلقة بهذا القلق، والتوقُّف عن تصنيفه إلى شعور جيد أو سيِّئ، وأَقنِع نفسك أنَّ القلق حالة قد نمر بها وقد نستفيد منها؛ وذلك من خلال توظيف طاقة القلق في أداء مهام معيَّنة.

إقرأ أيضاً: 31 وعداً عليك أن تعد بهم نفسك لتغيير حياتك

في الختام:

إنَّ الإنسان المتصالح مع ذاته يتقبَّل جميع الناس على اختلاف طباعهم وصفاتهم وتصرفاتهم؛ وذلك لأنَّه يرى نفسه في كل صفاتهم وسلوكاتهم.

المصادر: 1، 2، 3، 4




مقالات مرتبطة