دور العلاقات الاجتماعية في إطالة العمر

ينطلق الزوجان مارتي شوميكر (Marti Shoemaker) وجوليان (Julien) في إحدى رحلاتهما التي تحب أن تسميها "مغامراتهما الصغيرة"؛ إنَّهما يجوبان الشاطئ ببطء على دراجاتهما المزودة بإطاراتٍ قياسها 20 بوصة، والتي اختاراها لأنَّها أخف وزناً وأقرب إلى الأرض إذا وقعا، كما تقول، ويتحادثان بودٍّ وهما يتجهان في طريقهما عبر ممر مرصوف بالقرب من منزلهما.



يقول جوليان: إنَّ زوجته مارتي تُحسن الإصغاء إلى حديثه الكثير؛ لكنَّ الحقيقة هي أنَّه حتى بعد 65 عاماً من الزواج، أبلغا بسعادةٍ أنَّهما لم ينفدا من موضوعات المحادثة أو سئما من الخروج معاً والقيام بالنشاطات معاً، إنَّهما يمشيان طويلاً كلَّ يوم وأحياناً يقومان برحلات لزيارة ابنتهما وأصدقائهما أو لمجرد رؤية شيء جديد.

تقول مارتي البالغة من العمر 86 عاماً عن زوجها البالغ من العمر 91 عاماً: "جوليان جاهز للذهاب إلى أيِّ مكان في كلِّ مرةٍ آتي فيها بأفكار غريبة، كأن نذهب ونلقي نظرة على حدائق منازل الناس والأشياء الصغيرة من هذا القبيل، ويقبل ذلك في كلِّ مرة".

هذا العام، فقدت مارتي كثيراً من أصدقائها المقربين نتيجة تقدمهم في السن؛ لذلك تبنت الشعار الآتي "افعل ما تريده الآن".

تؤكد الأبحاث أنَّ الصداقات والعلاقات الأسرية التي كوَّنها الزوجين وغيرها من العلاقات الشخصية الأخرى، قد ساعدتهما على عيش حياةٍ طويلة، ويؤكد أولئك الذين يدرسون مدى حياة الإنسان أنَّ العلاقات هي عامل أكثر أهمية من الجينات لعيش حياةٍ طويلة وشيخوخة جيدة.

تقول أستاذة علم النفس في جامعة بريغهام يونغ (BYU) جوليان هولت لونستاد (Julianne Holt-Lunstad): "طوال العقود القليلة الماضية، تظهر مزيد من الأدلة أنَّ الأشخاص ذوي العلاقات الاجتماعية العديدة يعيشون حياةً أطول، أمَّا الأشخاص الوحيدون والمنعزلون فهم معرضون لخطر متزايد للوفاة المبكرة".

فوائد العلاقات الجيدة:

لا تتحدث هولت لونستاد عن القليل من الأدلة؛ فالأبحاث المتعلقة بكيفية تأثير التواصل الاجتماعي في طول العمر تنطوي على كم هائلٍ من الأدلة.

في عام 2010، أجرت تحليلاً شمولياً لـ 148 دراسة عن هذا الموضوع، ومنذ وقت ليس ببعيد، نظر باحثون آخرون في 276 دراسة، وقالت: "كانت ثمة دراسات إضافية نُشرت منذ تلك المراجعة" مشيرة إلى أنَّ النتيجة موثوقة، وقد تكررت مراراً وتكراراً.

على الرَّغم من اختلاف المقاييس والأساليب، فإنَّ الإجابة هي نفسها دائماً: تؤثِّر العلاقات الاجتماعية في طول العمر وجودة الحياة، وكلَّما زادت علاقات الناس زادت الموارد التي يمكنهم الاعتماد عليها لتلبية مجموعة متنوعة من الاحتياجات؛ وذلك وفقاً لهولت لونستاد؛ إذ يمكن للشركاء والأصدقاء والجيران المساهمة في تعزيز الصحة العقلية والبدنية.

تتنبأ الأدلة الطولية بشكل خاص بأنَّ العلاقات الاجتماعية تأتي بنتائج صحية وجسدية أفضل، قالت هولت لونستاد: "لدينا دليل على أنَّ الترابط الاجتماعي مرتبط بوظيفة المناعة، والتعرض للفيروسات والقدرة على تكوين استجابة مناعية فعالة للقاحات، إضافة إلى ممارسة سلوكات صحية".

إنَّ النوم هو مثال رئيسي على ذلك؛ فالأشخاص الذين لديهم علاقات جيدة ينامون نوماً أفضل، بينما أولئك الذين يشعرون بالعزلة أو الوحدة يعانون قلة النوم.

تحكَّم الباحثون في عوامل نمط الحياة لإثبات أنَّ الارتباط حقيقي ومستمد حقاً من الروابط الاجتماعية، وليس من أيِّ شيء آخر، وإنَّ زيادة طول العمر نتيجة العلاقات القوية ليست مجرد نتيجة لعمر الفرد أو وزنه أو ما إذا كان الشخص يدخن أو يعاني مرض السكري أو مشكلات صحية أخرى.

قالت: "أعتقد أنَّه من الهام بشكل خاص معرفة ذلك؛ لأنَّ بعضهم قد يفترض بأنَّ الأشخاص الذين يتمتعون بصحة أفضل من المحتمل أن يكونوا اجتماعيين، وأنَّ الأشخاص غير الأصحاء قد يكونون أكثر عرضةً للعزلة، وهذا الدليل هو حقاً جزء من مجموعة طويلة من الأبحاث، التي تشير إلى أنَّ البشر كائنات اجتماعية، ولقد كنا بحاجة إلى الاعتماد على الآخرين عبر تاريخ البشرية من أجل البقاء على قيد الحياة"؛ لذا فالروابط الاجتماعية بحد نفسها هامة.

أمَّا عن التعاسة التي شعر بها الناس خلال جائحة كوفيد-19 (Covid-19) والفترات الطويلة من الابتعاد عن الآخرين، فقالت: "هذا المستوى من الضيق هو في جوهره إشارةٌ إلى حاجتنا غير الملباة للتواصل الاجتماعي، وإذا تُرك الأمر دون علاج، قد يؤدي إلى مشكلات صحية إذا حدث بشكل مزمن، وأعتقد أنَّ ذلك يوضح مدى أهمية علاقاتنا لصحتنا، وأنَّنا بحاجة إلى منحها أولويةً في حياتنا".

شاهد بالفديو: 15 نصيحة تفيدك في حياتك الاجتماعية والمهنية

الأدلة العلمية:

ربما تكون أشهر دراسة طويلة الأمد عن تأثيرات العلاقات القوية أو نقصها قد تطورت بمرور الوقت من دراسة أجرتها جامعة هارفارد (Harvard) لتطور البالغين، والتي بدأت بمتابعة 268 طالباً في السنة الثانية من دراستهم في عام 1938 واستمرت في تتبعهم، كما درسوا المراهقين من الأحياء الفقيرة.

قال روبرت والدينجر (Robert Waldinger)، مدير الدراسة والطبيب النفسي في مستشفى ماساتشوستس العام (Massachusetts General Hospital) وأستاذ في كلية الطب بجامعة هارفارد، لصحيفة هارفارد جازيت (The Harvard Gazette): "المدهش هو أنَّ علاقاتنا ومدى سعادتنا بعلاقاتنا لها تأثير قوي في صحتنا؛ فالاهتمام بجسمك أمر هام؛ لكنَّ الاهتمام بعلاقاتك هو شكل من أشكال الرعاية الذاتية أيضاً".

مع مرور الوقت، تقاعد مديرو الدراسة، ونقلوا المهمة إلى أجيال جديدة من الباحثين، وأضافت الدراسة أطفال وزوجات المشاركين، وقد بلغ أطفال المشاركين الأصليين منتصف العمر حالياً.

لقد وجدت الدراسة أنَّ العلاقات الوثيقة هي التي تخلق السعادة مدى الحياة، وليس المال أو الذكاء أو التركيب الجيني للفرد، ولم ينطبق ذلك فقط على نخبة هارفارد؛ بل أثبتت النتائج صحتها للمشاركين من الأحياء الفقيرة أيضاً.

إقرأ أيضاً: 4 عادات يومية للأشخاص الذين يملكون شبكة علاقات استثنائية

إنَّ الشعور بالرضى في العلاقات في سن الخمسين تنبأ بالصحة الجسدية بشكل أفضل من مستويات الكوليسترول، وأولئك الذين يملكون دعماً اجتماعياً جيداً كان لديهم تدهور عقلي أقل مع تقدمهم في العمر من أولئك الذين يفتقرون إليه.

يقول والدينجر: "لا تحمي العلاقات القوية أجسادنا فقط؛ بل تحمي عقولنا أيضاً، ولا ينبغي أن تكون العلاقات الجيدة سلسةً طوال الوقت، ويمكن لبعض الأزواج في الثمانين من العمر أن يتشاجروا مع بعضهم بعضاً يوماً بعد يوم، لكن طالما شعروا أنَّهم يمكنهم حقاً الاعتماد على بعضهم بعضاً عندما تصعب الأمور، فإنَّ هذه المشاجرات لم تؤثر سلباً في ذاكرتهم".

لا يعني ذلك أنَّ العلاقات هي العامل الوحيد الذي يُحدِث فرقاً، وفي كتابه "أن تعمر طويلاً" (Aging Well)، ذكر الدكتور جورج إي. فايلانت (Dr. George E. Vaillant) العوامل التي تنبأت بالشيخوخة الصحية، وتشمل: النشاط البدني وعدم التدخين أو تعاطي الكحول والقدرة على التعامل بنضجٍ مع تقلبات الحياة والوزن الصحي والزواج المستقر، وكان الشيء نفسه ينطبق على رجال المدينة الفقراء، لكن المتعلمين منهم؛ فكتب: "كلَّما تلقى رجال المدينة قدراً أكبر من التعليم، زاد احتمال إقلاعهم عن التدخين وتناول الطعام الصحي".

لخص والدينجر نتائج دراسة هارفارد بما يأتي:

  1. الروابط الاجتماعية نافعةٌ حقاً، والعزلة مؤلمة لأولئك الذين يحبون التفاعل مع الناس، وقد تكون الوحدة سامة جداً، ويؤكد 1 من كلِّ 5 أشخاص أنَّهم يشعرون بالوحدة.
  2. ما يهم حقاً هو جودة العلاقات الوثيقة، على سبيل المثال يُعدُّ الزواج المليء بالخلافات ضاراً بالصحة، في حين أنَّ العلاقات الوثيقة تحميك؛ فالأشخاص الذين كانوا أكثر رضى عن علاقاتهم في سن الخمسين كانوا الأفضل صحةً بعد 30 عاماً.
  3. تحمي العلاقات الجيدة العقول، وليس الأجساد فقط؛ إنَّ وجود شخص يمكنك الاعتماد عليه هو أمرٌ وقائي في سن الشيخوخة وقبل ذلك أيضاً؛ فلا تُسبب صعوبات الحياة الضرر نفسه لهؤلاء الناس.
  4. يؤذي التوتر المزمن الناتج عن التعاسة الجسم بمرور الوقت.

أمَّا عن نصيحة والدينجر لبناء علاقات جيدة ووثيقة، فقد قال: "إنَّ منح الناس اهتمامنا الكامل ربما يكون أكثر الأشياء قيمة التي يمكن أن نقدمها، لكن من الصعب حقاً القيام بذلك لأنَّ اهتمامنا دائماً مُشتت ومُجزَّأ"؛ إنَّه عمل شاق ويستغرق وقتاً؛ لكنَّ المكاسب تستحق ذلك.

تحدد دراسات أخرى فوائد الروابط الاجتماعية القوية:

وجدت دراسة أجريت عام 2020 في مجلات جيرونتولوجي (Journals of Gerontology) أنَّ النساء المتفاعلات اجتماعياً عشنَ عمراً أطول بنسبة 10%، وكانت احتمالات بقائهن على قيد الحياة حتى سن 85 عاماً أعلى بنسبة 41% مقارنة بالنساء المنعزلات اجتماعياً، كان ذلك صحيحاً حتى بعد تعديل الباحثين للدراسة لمراعاة السلوكات الصحية والاكتئاب.

وجدت دراسة أجريت عام 2015 في مجلة "كلينيكال سايكولوجيكال ساينس" (Clinical Psychological Science) من قبل والدينجر وآخرون أنَّ الشركاء المسنين الذين عاشوا علاقةً متينةً مع بعضهم بعضاً من المرجح أن يكونوا أكثر رضى في زواجهم، ولديهم اكتئاب أقل وسعادةٌ أكبر، أمَّا بالنسبة إلى النساء، فإنَّ الأمان الذي ينبع من العلاقة الوثيقة قد تنبأ بذاكرة أفضل بعد سنتين ونصف.

شاهد بالفديو: كيف تحافظ على علاقات شخصية قوية؟

ماذا عن الجينات؟

لست وحيداً إذا كنت تفترض دائماً أنَّ المدة التي عاشها والداك ستدلُّ على طول عمرك؛ لذلك ليس من المستغرب أنَّ الدراسة التي أجراها موقع "أنسيستري دوت كوم" (Ancestry.com) وشركة كاليكو لايف سيرفيسز (Calico Life Services) في مجلة "جينيتيكس" (Genetics) في عام 2010، والتي شملت ملايين الأشخاص، قد أثارت ضجةً حقيقية؛ إذ حددت دور الجينات التي يرثها الفرد في تحديد طول عمره بنسبة 7%  فقط، وليس 20% أو 30% كما كان مُقدراً سابقاً.

حلَّل الباحثون 54 مليون شجرة عائلية، والتي ضمت 400 مليون شخص على موقع "أنسيستري دوت كوم"، قالوا إنَّ التزاوج المتلائق؛ أي اختيار شريك بناءً على خصائص واضحة، مثل امتلاك المعتقدات الدينية نفسها، أو العِرق المشترك أو مهنة مماثلة، قد ارتبط بزيادة طول العمر أكثر من الجينات.

قالت كاثرين بول (Catherine Ball)، كبيرة المسؤولين العلميين في موقع أنسيستري وأهم القائمين على الدراسة: "من المرجح أن يكون طول عمرك مشابهاً لحياة أهل شريكك أكثر من حياة شخص غريب"، وأضافت أنَّه نظراً لأنَّ الناس يختارون شركاء يشبهونهم بطريقة ما، فإنَّهم يمنحون أطفالهم "جرعة مضاعفة" من العوامل التي يمكن أن تؤثِّر في طول العمر، لكن لا علاقة لها إطلاقاً بالجينات، وقالت أيضاً: "إنَّه من النادر أن تتزوج عداءةٌ رياضية من رجلٍ خمول".

تفاجأت عائلة شوميكر عندما سمعوا أنَّ الجينات قد لا تكون هامةً كما اعتقدوا لطول عمرهم، لكن ربما لم يكن ذلك مفاجئاً حقاً؛ إذ توفي والد جوليان في أوائل الستينيات من عمره، ولم تبلغ والدته حتى عامها الـ 60.

لكن ليست كلُّ شيخوخة متماثلة، وقد تكون الجينات أكثر أهمية للأعمار الطويلة جداً، وذلك وفقاً لدراسة أُجريت عام 2012 في مجلة فرونتييرز إن جينيتيكس (Frontiers in Genetics)؛ إذ أكدت النتائج التي توصلت إليها الدراسات السابقة المتعلقة بأهمية المكون العائلي لطول العمر الشديد بين أولئك الذين يعيشون 100 عاماً أو أكثر.

نشرت كلية الصحة العامة بجامعة بوسطن (Boston University School of Public Health) بحثاً عن المعمرين الذين عاشوا أكثر من 100 عام؛ إذ قالت فيه إنَّ هؤلاء المعمرين لديهم عادةً المتغيرات الجينية نفسها المرتبطة بزيادة مخاطر الإصابة بمجموعة من الأمراض المرتبطة بالعمر، مثل ألزهايمر وأمراض القلب والسكتة الدماغية والسكري والسرطان، مثل أولئك الذين لا يعيشون هذه المدة الطويلة.

إذ يعتقد الباحثون أنَّ هذه الميزة الهائلة للبقاء على قيد الحياة التي يتمتع بها المعمرون قد تنبثق من المتغيرات الجينية، التي تلغي بطريقة ما أو على الأقل تحمي إلى حد ما من الآثار السلبية لتلك الجينات المرتبطة بالأمراض.

لكن مهما كانت ميزة طول العمر التي قد توفرها جيناتهم، فإنَّها لا توفر بالضرورة الصحة والسعادة التي توفرها العلاقات؛ فالناس أيضاً بحاجة إلى علاقات اجتماعية قوية، فقد أقامت عائلة شوميكر علاقاتٍ قوية مع الآخرين ومع المجتمعات التي عاشوا فيها منذ زواجهما في عام 1957.

إقرأ أيضاً: هل هناك جانب إيجابي لعدم وجود حياة اجتماعية؟

في الختام:

على الرَّغم من أنَّ مارتي لم تحب الاختلاط بالناس كثيراً، إلا أنَّها غنت مع جوقة في أواخر السبعينيات من عمرها؛ إذ تسافر مع المجموعة وتتواصل معهم دوماً، وكان جوليان سعيداً دائماً بالانضمام، لقد أحبوا بعضهم جداً، وسنواتهم الطويلة تشهد بذلك.




مقالات مرتبطة