دافع عن حدودك الشخصية كي تستعيد السيطرة على حياتك

هل سبق وأن عانيت مشاعر الاستياء تجاه أحد معارفك أو أصدقائك، ليس كرهاً بهم، إنَّما مجرد رؤيتهم أو حتى ظهور رقمهم على شاشة هاتفك يصيبك بالانزعاج والارتباك؛ فتتحاشى الرد على مكالماتهم؟



أنت في الحقيقة تتجنبهم لأنَّهم أشخاص مُتطلِّبون، وليس بوسعك أن ترفض لهم طلباً، ولكنَّك لا تريد أن يظنوا بك سوءاً أو تخسر علاقتك بهم، مما يجعلك تلبي جميع طلباتهم مهما كلفك الأمر، وتدفع ضريبة ذلك بإحداث الفوضى في حياتك.

قد يفيدك أن تكتب كلمة "لا" بأحرف واضحة على ورقة وتضعها على مكتبك، حتى يعطيك النظر إليها الجرأة على الرفض في كل مرة يطلبك ذاك الشخص لغرضٍ ما.

يمكن للحدود أن تكون خادعة، فقد لا ننتبه إلى أنَّ تعاستنا وعدم إنتاجيتنا تعود إلى افتقارنا للحدود؛ لذا تجد أنَّه من الأسهل لك أن تلوم الآخرين على التشتيت الحاصل لك أو استيائك أو فوضاك؛ لكن تقع اللائمة عليك في الحقيقة كونك أنت وحدك صاحب القرار.

حدود الملكية:

تكمن الحيلة لاستلام زمام السيطرة في معرفة الأمور التي تقع تحت سيطرتك دون غيرها، وقد شارك الأستاذ ومستشار الأعمال والعالم النفسي والكوتش في القيادة "جون تاونسند" (John Townsend) مع البروفيسور "هنري كلاود" (Henry Cloud) في تأليف كتاب "الحدود: متى تقول نعم ومتى تقول لا لتتحكم في حياتك" (Boundaries: When to Say Yes, How to Say No to Take Control of Your Life)، والذي يقول فيه أنَّ أفضل طريقةٍ لوضع الحدود هي اعتبارها حدود ملكية، ومنه نقتبس: "يعدُّ وضع حدود في حياتنا واحداً من الأشياء التي نتحمل مسؤوليتها وتلك التي لسنا ملزمين بها؛ فعلى سبيل المثال: أنا وأنت مسؤولان عن مهننا الخاصة، وقد نرغب في مساعدة ودعم بعضنا بعضاً، لكن لا يمكننا أن نأخذ على عاتقنا مهن بعضنا أو مشاعرنا أو علاقاتنا أو أموالنا أو وقتنا".

بمجرد أن نثبت ما يقع تحت سيطرتنا، سيكون بمقدورنا تحديد المجالات التي نملك فيها الخيار؛ حيث يقول "تاونسند" (Townsend) أنَّ المشكلات والعلاقات المختلة هي نتيجة محاولتنا تحمُّل المسؤولية بدل شخصٍ ما، والتعدي على ملكيته.

قد يقدِّم هذا التعدي على ملكية الآخرين مساعدة جمة لهم، ومعروفاً كبيراً، كما هو الحال مع الصديق الذي يتصل بك دوماً لطلب المساعدة؛ ولكن قد يبدو الأمر في أحيان أخرى أنَّ ذاك الشخص ينسب إليه الفضل في المجهود الذي بذلته أنت.

تقول "آن كاثرين" (Anne Katherine) المعالجة ومؤلفة كتابَي "تبدأ حدودي في المكان الذي تنتهي فيها حدودك" (Boundaries Where You End And I Begin) و"الحدود في عالم معقد الروابط: وضع القيود للحفاظ على تركيزك وخصوصيتك وعلاقاتك واتزانك العقلي" (Boundaries in an Over-connected World: Setting Limits to Preserve Your Focus, Privacy, Relationships, and Sanity): "تحيط بنا عوامل التشتيت من كل جهة، ونخاطر بالابتعاد عن أكثر الأمور أهمية بالنسبة إلينا".

لا تظن للحظة أنَّ انعدام الحدود لن يؤثر فيك أو في إنتاجيتك؛ لذا تقترح "كاثرين" (Katherine) أن نجري تقييماً ذاتياً لنرى إلى أي حد قد انحرفنا بعيداً عمَّا هو هام حقاً بالنسبة إلينا، وتقول: "ألقِ نظرة على مدى استقامة المسار الذي تتبعه بالنسبة إلى ما يهمك، واختر ثلاثة أمور تفضل القيام بها، ثم حدد المدة التي تستغرقها هذه الأمور الثلاثة لإنجازها، وسجلها جميعاً في جدولك لهذا الأسبوع والأسبوع المقبل، ثم تحقق منها مرة أخرى؛ فإن لم تقم بها، فابحث عمَّا يقف عثرةً في طريقك".

نشر عالم النفس السريري "كلاود" (Cloud) كتابه مؤخراً بعنوان "حدود القادة: النتائج والعلاقات والمسؤولية الكبيرة التي تُلقَى على عاتقك" (Boundaries for Leaders: Results, Relationships, and Being Ridiculously in Charge)، ولا يسعنا هنا إلَّا أن نعرِّفك على القول المأثور: "إذا كان كل شيء هاماً، فلا شيء هام فعلاً"، وهو ما يصوغه بصورة أفضل في كتابه الجديد في عبارة: "إن كنت قائداً، فلن تجني إلَّا ما صنعته يداك وسمحت به".

إقرأ أيضاً: 6 طرق تُمكنك من قول 'لا' لطلبات الآخرين

لمَ نتعدَّ على حدود الآخرين؟

إن كنت تعي تماماً أنَّك مسؤول عن كل من مشاعرك ووقتك، فلمَ تجد صعوبة في رفض طلب ذاك الصديق؟ ولمَ تدعه يشعرك أنَّك ملزم بتنفيذ رغباته والابتعاد عن أولوياتك؟

يقول "تاونسند" (Townsend): "يعود فشلنا في فرض الحدود إلى 3 عوامل، ويتمثل العامل الأول في الخوف من تدهور العلاقة؛ حيث يعزو علم الأعصاب ذلك إلى كوننا كائنات تتمتع بدرجة عالية من العلائقية؛ مما يعني أنَّنا لا نهتم لأمر الآخرين فحسب، بل نريد لهم أن يهتموا بنا بالمقابل؛ وتكمن الصعوبة عندما تكون على علاقة بشخص يقابل الرفض برد فعل سيئ، ويبتعد عنك منزعجاً؛ وهذه تجربة سيئة لا يريد أحد خوضها".

نستنتج هنا أنَّ العامل الأول الذي يمنعنا من وضع الحدود وفرضها هو خوفنا من خسارة العلاقة بذاك الصديق، وهذا بالتأكيد أحد الدوافع التي تمنعك من رفض طلبه، خصوصاً إن كنت تخشى قطيعته.

يتابع "تاونسند" (Townsend): "العامل الثاني الذي يمنعنا من وضع الحدود وفرضها هو خشيتنا من أن يُقابَل رفضنا بغضب الآخرين، وهذا أمر صعب للتعامل معه"؛ فعندما نرفض طلب أشخاص معينين، قد يتخذون موقفاً دفاعياً ويعتريهم الغضب والاستياء، وقد يصل بهم الأمر إلى موجة من الغضب؛ ويعقِّب على هذا "تاونسند" (Townsend) قائلاً: "لا يرغب أحد منا في أن يمر بتجربة كهذه، سواء في العمل أم الحياة الشخصية؛ ذلك لأنَّنا لا نريد أن نكون سبباً في إزعاج الآخرين؛ ولهذا كله، نلجأ إلى ما يسميه علماء النفس سلوكات تجنب النزاع".

يعدُّ "تاونسند" (Townsend) العلاقة التي نتوخى فيها الحذر الشديد مثالاً على تطبيق سلوكات تجنب النزاع؛ والتي هي أداة نلجأ إليها عندما لا نريد إثارة حفيظة شخص ما وتحمل عواقب ذلك؛ كما يشير إليها أيضاً باعتبارها العلاقة التي لا ندافع فيها عن حدودنا، أو التي لا نضع فيها حدوداً في الأساس.

بينما يتمثل العامل الثالث لإهمال حدودنا في الشعور بالذنب؛ حيث نشعر جميعاً بأنَّنا مسؤولون بطريقة أو أخرى عن عدم إيذاء الآخرين، حتى أنَّنا قد نبالغ في ذلك، وقد نقنع أنفسنا أنَّنا لا نريد رفض طلب شخص كيلا نزعزع ثقته بنفسه، أو ربما نخشى بصفتنا رؤساء من التسبب في تضايق أعضاء الفريق وتثبيط معنوياتهم.

ثق أنَّ شعورك بالاستياء من أشخاص يفرضون أنفسهم كثيراً ويسيطرون عليك أو يجبرونك على الامتثال لما يريدون نتيجة لأحد العوامل المذكورة أعلاه أو جميعها.

شاهد بالفيديو: 5 خطوات لوضع حدود شخصية لنفسك

وضع الحدود:

تنصُّ أحد نظرية المتعلقة بالعلاقات على ما يأتي: "إن شعرت بعدم الارتياح بمجرد رؤية شخصٍ معين، فيدلُّ هذا على وجود مشكلةٍ أعمق تحتاج إلى معالجة"؛ وبمعنى آخر، يستهلك معظمنا وقتًا طويلاً في تجنب مسائل كالحدود والمسؤولية الشخصية، لأنَّنا نجد أنَّه من الصعب الدفاع عن أنفسنا إن صبَّ الشخص الذي رفضنا طلبه جام غضبه علينا، إضافة إلى صعوبة وضع حدود أمام من نرى لديهم ضعفاً.

إنَّ استجماع الشجاعة لوضع الحدود والحفاظ عليها ليس أمراً ضرورياً لسلامتنا وتقديرنا لذواتنا فحسب، ولكن أيضاً لنحظى بعلاقات صحية مع الآخرين؛ لذا عليك أولاً أن تفرز الأشياء التي بوسعك تغييرها عن غيرها. يقول "كلاود" (Cloud): "يحب الدماغ السيطرة، ويتحسن أداؤه عندما تكون الأمور تحت سيطرته؛ لذا ركز على الأشياء التي يضمن لك التحكم بها نتائجها دون غيرها".

كما عليكَ أن تبحث عن أشخاص داعمين؛ وليس المقصود هنا أن نتخذ وضعاً هجومياً، بل كل ما في الأمر أنَّنا بحاجةٍ إلى الشعور بدعم الأشخاص وتشجيعهم عندما نقدم على خطوة مشكوك بها، سواء في العمل أم في حياتنا الشخصية.

يقول "تاونسند" (Townsend): "جد صديقاً يشجعك على الإقدام على الخطوة التي لا تتجرأ على القيام بها وحدك، وهي رفض طلبات الأشخاص التي لا تجد منها مهرباً، وستكتشف أنَّ رفض الشخص التحدث إليك وموقفه الدفاعي ليسا بالسوء الذي توقعته؛ ذلك لأنَّ وجود أصدقائنا بجانبنا سيبرمج عقولنا للتيقن من أنَّ بإمكاننا تحمل التأثير السلبي لترسيم الحدود بيننا وبين الآخرين".

تنصح "كاثرين" (Katherine) الأشخاص الذين يخشون من خسارة أحدهم نتيجة رفض طلبه أو الاختلاف معه أن يضعوا في اعتبارهم أنَّ العلاقة التي لا تُحترَم فيها الحدود مصيرها الفشل قطعاً، فعلى سبيل المثال: قد يحاول شخصٌ ما قولبة رأيك ليتناسب مع رؤيته السياسية أو الدينية، وقد تستاء من هذا الأمر في البداية، وتشعر بعد فترة أنَّ كرامتك على المحك، وتسأم في النهاية من سلوك ذاك الصديق لدرجة أنَّك لن ترغب في التواجد قربه؛ لذا إن أردت الحفاظ على علاقتكما، فاحرص على وضع الحدود وإلَّا ستخسر صداقته في نهاية المطاف.

كما توصي "كاثرين" (Katherine) بأن نسأل أنفسنا عمَّا إذا كنَّا نعير اهتماماً لمشاعر شخص آخر متجاهلين مشاعرنا، وملحقين الضرر بأنفسنا؛ فعندما نقول أنَّنا لا نريد إلحاق الأذى بصديقنا أو زميلنا عبر وضع حدود، علينا أن نسأل أنفسنا ما إن كان حرصنا الشديد على مشاعرهم يسبب استياءنا؛ وفي الحقيقة، يجب أن نتعايش مع فكرة أنَّنا قد نسبب لهم الإحباط كي نحظى ببعض الحرية في حياتنا.

يقول "تاونسند" (Townsend): "يعدُّ الخوف من الصراع عائقاً شائعاً آخر يحول دون المضي قدماً، حيث نفتقر جميعنا إلى مهارات حل النزاعات لأنَّ أغلبنا لم يحظَ بقدوة يحتذي بها تعلمه معالجة النزاع، وقد لاحظت استفادة عملائي الكوتشز من تجربة تبادل الأدوار عبر التحدث إلى صديق موثوق".

جرب أن تتقمص الشخصية التي ترفض طلب الأصدقاء وتسبب استياءهم، واسمح لنفسك أن تشعر بالقلق من ردة فعلهم؛ فعندما تقول عبارات مثل: "سألبي طلبك عندما أفرغ من عملي" أو "لا يمكنني فعل ذلك من أجلك"، لن يؤثر هذا في علاقتك مع الآخرين، وستتولد في ذهنك قناعة راسخة تمنحك الشجاعة للقيام بهذه الخطوة إن واجهتك مواقف كهذه في الحياة الواقعية.

قد تشعر بالأسى على صديقك لأنَّه ليس اجتماعياً بما فيه الكفاية، أو تخشى أن يسبب رفضك الكآبة والوحدة له؛ لكن لا تقلق عليه، فحريٌّ به أن يستجمع قواه ويتحمل المسؤولية لأنَّه لا يجب أن يكون بهذه الدرجة من الضعف.

قد يستاء منك الآخرون أحياناً أو يصابون بخيبة الأمل، لكنَّ هذا لن يؤثر في حياتهم سلباً؛ فنحن من نزرع في أذهاننا أنَّ الناس أكثر ضعفاً ممَّا هم عليه في الواقع؛ لكن بالمقابل، علينا أن نمنح الآخرين في حياتنا الاحترام ونثق بأنَّهم قادرون على التكيف والمرونة".

إقرأ أيضاً: 9 خطوات لتكون حازماً في اتخاذ القرارات

الاستمتاع بمساحتك الشخصية:

عندما تشعر أنَّك مُلزم إلى حد كبير بالامتثال لطلبات الآخرين، ستلاحظ بمجرد رفضها تحسناً في علاقتكما، ناهيك عن القدر الكبير من الحرية الذي ستمنحك إياه؛ وتستعيد بذلك وقتك المهدور لاستثماره في الأمور الهامة، وتلاحق أهدافك، وتفي بالتزاماتك التي سبق أن أخللت بها لتلبية طلبات الآخرين.

يمنحنا وضع حدود ثابتة مزيداً من الحرية التي هي أحد إيجابيات هذا النهج، إضافةً إلى تعزيز الطاقة وتحفيز الإبداع لدينا؛ وإنَّه لمن المدهش كيف يساعدك التخلي عن علاقة الاعتماد المتبادل والانهماك في مساعدة الآخرين وتلبية طلباتهم على استعادة الطاقة التي يستنفذها عملك وعلاقاتك، كما يساعدك وضع الحدود على تكوين علاقات سليمة جديدة؛ فكما يقول تاونسند (Townsend): "يحب الأشخاص الأصحاء نفسياً التواجد قرب أشخاص يحترمون الحدود، في حين يتجاهل غير الأصحاء نفسياً ذلك؛ لذا بمجرد أن تبدأ وضع حدودك، ستكتشف من هم أصدقاؤك الحقيقيون، وستكوِّن صداقات سليمةً أكثر؛ كما تعزز هذه الفوائد جميعها الثقة، وتحسِّن التواصل، وتزيد الإنتاجية".

من ناحية أخرى، تتضاعف المكاسب الذي يجنيها القادة من ذلك، فتتعزز قيادتهم، ويمسي أعضاء فريقهم أكثر سعادة؛ فنحن لا نربط في كثير من الأحيان بين مسائلنا الشخصية وقيادتنا، لكنَّ العمل على تحقيق اكتمالك كشخص هو أول خطوة على سلم القيادة.

تخيَّل نفسك قارباً يعبر نحو أهداف أو مهمات مختلفة، وتدفعه الرياح في اتجاهين مختلفين، يمكِّنك أحدهما من رؤية فاعلية مَهمَّتك في تحقيق أهدافك أو تنفيذ خططك بالكامل، وهو ما يركز عليه القادة دون غيره؛ في حين ينطوي الاتجاه الآخر على العلاقات التي تخلفها وراءك، تلك التي تخص شعور الناس تجاه المَهمَّة، وتجاهك بعد بلوغ الهدف.

يحقق القادة ذوو النزاهة نتائج إيجابية في كلا الاتجاهين، وذلك من خلال عدم التركيز فقط على العمل على المهمات الخاصة بالعمل.

يقول تاونسند (Townsend): "لقد اعتاد بعض الناس على الموافقة لدرجة أنَّ الرفض أو المواجهة أصبح يشكل رعباً لهم؛ ولهذا السبب يُفضَّل أن تخطو خطوات صغيرة فقط في البداية؛ وإن لم تتمكن من استجماع الشجاعة لرفض طلب أحدهم كحضور اجتماع على سبيل المثال، فاحرص على اختيار الوقت الذي يناسبك؛ أما في حال شعرت أنَّ عدم توقفك عن العمل الذي بين يديك لتلبية طلب شخص ما هو تصرف ينم عن الوقاحة، فخصص ساعة لراحتك الخاصة، بحيث تبدأ هكذا بأفعال بسيطة لتحافظ على حدودك؛ وعندما تكون واثقاً من محبة الآخرين لك ومن ألَّا أحد سيتأذى، تتسع حدودك وتزداد إنتاجيتك".

 

المصدر




مقالات مرتبطة