تعلم كيف يقوم دماغك بخداعك، وكيف يمكن أن تتحايل عليه

يُعَدُّ الإنسان أحد الكائنات المعقدة من الناحية السايكولوجية، ولعلَّ أكثر الأعضاء غموضاً هو الدماغ حسب التسمية العلمية أو الطبية، ولدينا العقل بحسب التسمية الفلسفية، فما زلنا حتى هذه اللحظة نجهل الكثير من الأسرار الموجودة في الدماغ البشري.



على الرغم من عدم تمكُّن العلم حتى الآن من اختراع أيَّة آلة يوافق عملها عمل الدماغ البشري، إلَّا أنَّ هذا الدماغ ليس عضواً مثالياً؛ بل قد تكتنفه الكثير من العيوب وأوجه القصور التي قد تجعله في بعض الحالات مضللاً للإنسان أكثر مما هو مفيد بالنسبة إليه.

الدماغ البشري كسول ويعشق الطرق الصغيرة:

إنَّ أكثر صفة ثابتة وجدها العلماء في الدماغ البشري هي الكسل، فالدماغ يختار طوال الوقت الطرق المختصرة أو القصيرة أو تلك التي لا تنطوي على تعب أو مشقة أو جهد، وهذا ما يُسمى عند علماء الدماغ عقلية بحسب الظروف.

إنَّ أقصر طريق يختاره الدماغ هو تجارب الماضي، والتي سبق وأن جربها الإنسان في حياته، وكوَّن نحوها ردود فعل جاهزة وثابتة، وأصبح الدماغ يتعامل معها على أنَّها مسلمات لا نقاش فيها.

مثال عملي عن قيام دماغك بخداعك من خلال طبعه الكسول:

على سبيل المثال عندما تود السفر إلى بلد ما من خلال استقلال الطائرة تتذكر ما قاله لك صديقك حين سافر مرة بالطائرة وتعرَّضت لعطل مفاجئ؛ إذ أُجبرت الطائرة على إجراء هبوط اضطراري في أقرب مطار، ومن ثم تم استكمال الرحلة بشكل طبيعي بعد حل المشكلة، وهذا ما دفعه إلى تذكُّر خبر سقوط طائرة بشكل مفاجئ عندما كان يستمع لنشرة الأخبار بينما كان يقود سيارته قبل يومين من موعد الرحلة، واجتمعت هذه الأفكار وقفزت إلى تفكيره مجتمعةً، ولقد سمح الدماغ لها بأن تتقدم إلى حيِّز التفكير أو قد يكون دفعها إلى القيام بذلك.

لقد أثبتت الدراسات والأبحاث في مجال علم النفس أنَّ قراءتك لخبر في الجريدة أو على أحد مواقع التواصل الاجتماعي عن تزايد حوادث السير في مكان ما، قد يدفعك في كثير من الحالات إلى الاعتقاد بأنَّ حوادث السير تزيد في منطقتك أيضاً أو حتى على طريق سيرك؛ مما قد يجعلك تفكر في ركن سيارتك في مكان تعتقد أنَّه آمن أو بعيد عن حركة السير.

ما هو السبب الكامن وراء قيام الدماغ بخداعك من أجل أن يسلك أقصر الطرق؟

إنَّ دماغك يعمل على تضخيم تلك الأخبار أو الأحداث؛ أي هو يخدعك بطريقة أو بأخرى؛ والسبب في ذلك هو أنَّ الدماغ البشري على الرغم من تطوره عن دماغ الكائنات الأدنى، إلَّا أنَّه ما يزال يمتلك بعض الرواسب والبقايا من ذلك الدماغ البدائي الذي يسعى إلى البقاء على قيد الحياة وتأمين حياته، وهذا ما يفسر به خبراء علم النفس التطوري قيام الدماغ بتضخيم الأخبار السلبية والمبالغة في تدابير الحماية.

على نفس المبدأ يختار الدماغ البشري الطرق المختصرة؛ وذلك بهدف حفظ الطاقة وعدم استهلاك كمية أكبر من الغذاء، وهذا أحد التفسيرات التي يطرحها خبراء علم النفس التطوري عن كسل الدماغ البشري.

كيف يمكننا التحايل على أدمغتنا المولَّعة بالكسل والطرق المختصرة؟

إنَّ إلمامنا بهذه النقاط الهامة هو بداية الطريق من أجل التحايل على الذات بغية معرفة الأماكن التي يخدعنا فيها الدماغ ومحاولة التغلُّب عليها، فعندما نجد أنفسنا نختار الطريق الأقصر أو الأسهل يجب أن نتوقف قليلاً ونفكر ملياً في الموقف، ونسأل أنفسنا إذا كنا قد اخترنا هذا الحل لأنَّه مريح أو سهل أو قصير؛ وفي حال كان الجواب بـ "نعم"، فلنفكر في صحة هذا الحل، ولنبحث عن طرائق أو حلول ونقارنها من حيث الفاعلية ومن حيث تحقيقها للغاية المطلوبة.

شاهد بالفديو: 8 عادات يومية لزيادة فعالية الدماغ

الدماغ البشري يلوم الآخرين على أخطائه:

من أهم ميزات الدماغ البشري اللوم؛ إذ نرى أنفسنا في حالات الفشل نلقي كل أسباب فشلنا على الآخرين أو على العوامل الخارجية المحيطة بنا، فعندما يحصل الطالب على علامة متدنية في الامتحان نجد أنفسنا قد بدأنا إلقاء اللوم على أستاذ المادة لأنَّه لم يقدم لنا المعلومات بطريقة مفهومة ولم يكن شرحه كافياً، أو قد نلقي اللوم على درجة الحرارة في قاعة الامتحان التي لم تكُن مناسبة لنا أبداً؛ مما دفعنا إلى الارتباك والضيق، وغيرها من الحجج التي قد تكون منطقية أو غير منطقية.

ما هو السبب الكامن وراء النزعة اللوَّامة التي يتمتع بها الدماغ البشري؟

يفسِّر خبراء علم النفس التطوري هذا السلوك الذي يتبعه الدماغ في إلقاء اللوم على العوامل الخارجية في كون الدماغ مبرمج لكي يحافظ على وجوده وبقائه، وأهم العوامل التي تدعم هذا الوجود هي احترام الإنسان لنفسه وتقديره لذاته؛ لذلك فإنَّه حين يتعرَّض للخطر أو الفشل، فإنَّه يسارع إلى حماية نفسه من أي لوم؛ وذلك بإلقائه على العوامل الخارجية مباشرةً.

إقرأ أيضاً: كيف تميز الفارق بين اللوم والمسؤولية؟

مثال عملي يشرح نزعة الدماغ البشري نحو اللوم:

خير دليل على ذلك هو اختلاف نظرة الطالب نفسه إلى موضوع الرسوب في حال كان يتعلق بشخص آخر غيره، فعندما يرسب زميله فإنَّه يعزو هذا الفشل إلى تقصيره في الدراسة وعدم متابعته لشرح الأستاذ وتكاسله عن دراسة المقرر في الأيام العادية، فهنا يقرأ الدماغ الموضوع بشكل منطقي طالما أنَّه لا يهدد وجوده ولا ينقص احترامه لذاته.

كذلك الأمر عندما ينجح الطالب أو يحصل على علامة ممتازة في المادة، فإنَّه يعزو نجاحه إلى دراسته الحثيثة والمتكررة للمعلومات، وانتباهه إلى شرح الأستاذ خلال الحصة الدرسية، وهنا أيضاً لا يوجد أي خطر على احترام الإنسان لذاته.

كيف يمكننا أن نتحايل على أدمغتنا عندما تبادر إلى اللوم؟

بعد معرفتنا بهذه النقاط ينبغي علينا أن نكون منتبهين إليها عندما تحدث، وألَّا نسمح لها بالسيطرة علينا؛ وذلك بأن نتوقف للحظات مع أنفسنا، ونفكر كلياً في الأسباب الحقيقية التي أدَّت إلى الفشل أو الرسوب أو الحصول على علامات متدنية، والعمل على إصلاح هذا الخطأ، فإن كان تقصيرنا في الدراسة اليومية، فيمكننا أن نضع برنامجاً يومياً للدراسة، وإن كانت المشكلة هي القلق الشديد في قاعة الامتحان، فمن الأفضل أن نطلب استشارة طبيب نفسي أو معالج نفسي.

لأنَّ إلقاء اللوم على أستاذ المادة أو درجات الحرارة لن يفيدنا في أي شيء، ولن يحسِّن من مستوانا؛ فهو يعطينا بعض الراحة النفسية المؤقتة من خلال تبرئة الذات وإلقاء اللوم على العوامل الخارجية؛ مما يؤدي إلى زيادة فشلنا من خلال تكرار نفس الأخطاء.

شاهد بالفديو: 7 خطوات تساعدك على التعلم من أخطاء الماضي

هل يمكن أن يكون الدماغ البشري محقاً في لومه؟

مع الانتباه إلى أنَّه يوجد بعض الناس الذين تكون الظروف حقاً هي التي تحول بينهم وبين النجاح، هنا لا يجب إلقاء اللوم على الذات؛ لأنَّ ذلك ينقص من تقدير الإنسان لنفسه، رغم أنَّ هذه الحالات موجودة على أرض الواقع، ولكنَّها ليست النسبة الأكبر؛ إذ إنَّ أغلب المشكلات أو حالات الفشل التي يمر بها الإنسان خلال مسيرة حياته قابلة للتغيير أو التفادي ولو كان مصدرها عوامل خارجية؛ إذ يمكننا التعامل مع أغلبها بطريقة تجعل الأمور تسير لمصلحتنا.

فالإنسان لا يستطيع استئصال جميع المشكلات والعثرات من الحياة، ولكنَّه يستطيع تدريب نفسه على طريقة التعامل معها، كما أنَّنا لا نستطيع القضاء بشكل كامل على الفيروسات والجراثيم والطفيليات، ولكنَّنا نستطيع أن نقوي مناعة الجسم تجاه هذه العوامل الممرضة، والبحث عن الأدوية العقاقير لكل نوع من هذه الميكروبات.

يظن معظم الناس أنَّ ذاكرتهم لا تخيب، وأنَّ كل ما يحصل لهم من أحداث مسجَّل بدقة، والحقيقة هي عكس ذلك تماماً؛ إذ إنَّ الذاكرة هي أكثر ما يتلاعب به الدماغ، ويمكن القول إنَّ الذاكرة هي ملعب واسع وشاسع للدماغ المتلاعب؛ إذ قد يقص الكثير من الذكريات التي لا تناسبه أو تلك التي تسبب له الضيق أو الحرج أو الألم؛ وذلك في محاولة منه للحفاظ على تقديره لذاته واحترامه لنفسه.

الدماغ البشري ولعبة الذاكرة:

أوضَح الكثيرون من الخبراء في علم النفس أنَّ ذاكرة الإنسان ليست بالقدر الذي يتوقعه؛ إذ إنَّ العديد من الذكريات تخضع إلى التعديل أو التغيير أو حتى الحذف، وليس بالضرورة أن تكون هذه الذكريات سيئة حتى تخضع إلى التغيير؛ إذ يتعلق الأمر في بعض الحالات بالتركيز؛ بمعنى أنَّ الدماغ يكون مهتماً بأمر واحد فقط؛ إذ تمر بقية الأحداث من حوله مرور الكرام وكأنَّ شيئاً لم يكُن، أو يكون مرورها خفيفاً؛ إذ لا تُحدِث التغيير الكافي أو التنبيه الكافي للخلايا العصبية الدماغية حتى تُحوَّل إلى ذكريات دائمة.

إقرأ أيضاً: 7 طرق مثبتة لتقوية الذاكرة طويلة الأمد

في الختام:

يجب أن نعرف أنَّ الكثير مما نحس به أو نثق تماماً بحدوثه قد يكون بشكل أو بآخر مختلقاً من قِبل الدماغ؛ إذ إنَّ الدماغ يعمل على تجاهل بعض الأحداث أو الوقائع أو حتى الحقائق التي لا توافق خبرته السابقة أو سجل تجاربه الماضية، وكذلك يتجاهَل عن كل الأمور التي لا تنسجم مع ما يؤمن به سواء من عقائد دينية أم فكرية أم فلسفية أم حتى علمية، وهذا ما يسمى في علم النفس بالتحيُّز الانتقائي؛ أي ننتقي الأسباب والمبررات التي توافق ما نريده أو ما تربينا عليه من أجل إقناع أنفسنا بصحة الأفعال التي نقوم بها، وصحة الخيارات والقرارات التي اتخذناها.

المصادر: 1، 2




مقالات مرتبطة