تعرف على معضلة القنفذ وتطبيقاتها النفسية في الحياة العملية

لقد كان الفيلسوف الألماني "شوبنهاور" هو أول من تكلم عما كان يُعرَف باسم "معضلة القنفذ"، وفيما بعد، تناولها مؤسس علم النفس "سيغموند فرويد" كتعبير عن المعضلة التي يواجهها الإنسان في علاقاته الحميمية مع الآخرين. سنقدم لكم في هذا المقال الممتع شروحات وأفكار سهلة لأبرز الفلاسفة، يتناولون فيها هذه المعضلة من زوايا مختلفة.



ما هي القصة وراء معضلة القنفذ؟

في يوم من أيام الشتاء القارس؛ إذ كان البرد يخرق العظم ويجمد اللحم، اضطر عدد من القنافذ إلى الاجتماع بقرب بعضهم بعضاً؛ وذلك من أجل أن يحصلوا على أكبر قدر من الدفء، ولكنَّ الأشواك الموجودة على أجسادهم بدأت تشكل مشكلة؛ فبدؤوا بوخز بعضهم بعضاً؛ وهذا ما أجبر هذه القنافذ على الابتعاد عن بعضها ومن ثم بعد فترة قصيرة أحست مرة أخرى بالبرد؛ وهذا ما دفعها إلى الاقتراب مرة أخرى، ومن ثم الابتعاد بسبب الانزعاج من موضوع الأشواك؛ وهذا ما دفع هذه القنافذ بعد هذه المحاولات المتكررة من الاقتراب ثم الابتعاد إلى اكتشاف حقيقة أنَّه من الأفضل لهم أن يبقوا على مسافة قصيرة من بعضهم بعضاً بما يوفر لهم حداً مقبولاً من الدفء، ودون الانزعاج من آثار الأشواك.

ماذا تعني معضلة القنفذ حسب رأي "شوبنهاور"؟

تُشكِّل معضلة القنفذ معضلة حقيقية في حياة البشر؛ إذ يشير "شوبنهاور" من خلال هذه القصة إلى حاجة البشر إلى الدفء الإنساني الذي لا يمكن الحصول عليه إلَّا بالاقتراب من الآخرين، وبناء علاقات حميمية تسودها المودة والمحبة المتبادلة؛ أي بشكل يشبه ما فعلته القنافذ في القصة السابقة في محاولة منها لطلب الدفء، ولكنَّ الإنسان في حقيقة الأمر عاجز عن تجاوز الحواجز الموجودة في داخله تجاه الآخرين؛ إذ يوجد أمر مغروس في الطبيعة البشرية يمنع الإنسان عن الاقتراب بشكل كامل من الآخرين.

هذا الأمر واضح من خلال مشاهدتنا للمواقف الحياتية اليومية؛ فإنَّ البشر عندما يقتربون من بعضهم أكثر، فإنَّهم يفتحون أبواب قلبهم، ومن ثم تصبح قلوبهم عارية ومن ثم هشة ودون أي ستار من الحماية؛ وهذا يعني أنَّها قد تتأذى من أيَّة نسمة صغرى، تماماً كما حدث عندما اقتربت القنافذ من بعضها، فوخزت بعضها بعضاً.

كيف فسر "فرويد" معضلة القنفذ؟

استخدم "سيغموند فرويد" حكاية "شوبنهاور" هذه في توضيح ما أسماه هو "بقايا ورواسب مشاعر العداء والنفور"؛ وذلك في مقال نشره سنة 1921 ميلادي؛ إذ يرى "فرويد" أنَّ مشاعر النفور هذه تلازم العلاقات التي تستمر لفترات زمنية طويلة نوعاً ما؛ إذ يبدأ أحد طرفي العلاقة أو كلاهما بالتساؤل حول ما بقي من الحميمية، وهل ما بقي منها يكفي من أجل الاستمرار في العلاقة؟ هنا نلاحظ أنَّ "فرويد" أخذ حكاية "شوبنهاور" إلى مكان آخر، ولكنَّه في الوقت نفسه ممتع ومثير للدهشة.

كيف يتوق الإنسان إلى الحميمية وينفر منها في الوقت نفسه؟

يتوق البشر وفق طبيعتهم الفطرية والغريزية إلى بناء العلاقة الحميمية، وفي الوقت نفسه يوجد نفور في داخل الإنسان تجاه هذه الحميمية؛ فيرى "فرويد" أنَّ الإنسان - وخلال عملية بحثه عن العلاقة الحميمية - يجب أن يعلم جيداً أنَّه قد يكون مقبلاً على إحساس الألم، واستناداً إلى ذلك، يجب أن يكون مُهيَّأ من أجل تقبُّل هذا الألم، فنحن نؤذي الأشخاص الذين نحبهم سواءً بقصد أم بغير قصد ومن ثم نسبب لهم الألم، وقد يترك هذا الأذى الندوب في قلوبهم، التي تؤرقهم مدى الحياة.

هذا ما يفسر لجوء الكثيرين ممن يعانون من القلق أو الاكتئاب إلى الوحدة وعزل أنفسهم عن الاحتكاك بالناس؛ وذلك من أجل تجنب الأذى الذي قد يسببه هذا الاحتكاك سواءً لهم أم للآخرين؛ إذ تُعَدُّ إحدى الطرائق الدفاعية التي يلجأ إليها الإنسان لحماية ذاته التي تكون متعبة ومنهكة.

إقرأ أيضاً: 8 أشياء يجب أن تقوم بها حتى تعيش شغف الحياة

كيف يمكن بناء علاقة حميمية صحية مع تجنب الأذى؟

في سياق متصل يقدم عالم الاجتماع "ريشار سينيت" وسائل تفيد في تجنُّب الأذى الناجم عن علاقة البشر الحميمية مع بعضهم؛ وذلك من خلال ما أسماه التعاطف والتفهم الوجداني؛ إذ يُعَدُّ التعاطف شكلاً من أشكال التماهي مع الآخر؛ وذلك من خلال تمييع الحدود والحواجز بين الذات الإنسانية والآخر، فيما يشكل مفهوم التفهم الوجداني وسيلة متطورة تطوراً أكثر في التعامل مع الآخر؛ إذ إنَّ هدفه لا يكون القفز فوق المسافات الشخصية والاجتماعية والذاتية أو الوصول إلى الآخر بطريقة مباشرة كما هو الحال في التعاطف.

إنَّ التفهم الوجداني هو عملية بطيئة أو قد تصح عليها صفة البرودة؛ إذ إنَّها تحتاج حاجة أكبر إلى حوار عميق وعقلاني من أجل إيجاد قنوات الالتقاء بالشخص الآخر ووفقاً لشروطه الخاصة، بما يضمن جميع خصوصياته، وهنا نرى أنَّ المستمع المتفهم يكون أكثر فائدة ونفعاً من المستمع الذي يعتمد أسلوب التعاطف؛ وذلك لأنَّ الأول قادر على الحفاظ على مسافة مناسبة وإحداث توازن حقيقي بين الابتعاد الباعث على البرد، والاقتراب المسبب للوخز والإزعاج، فهكذا كانت نظرة "ريتشارد سينيت" إلى قصة القنفذ.

إليكم بعض الأمثلة التي تتجسد فيها معضلة القنفذ خارج نطاق العلاقات الاجتماعية:

1. الإدمان ومعضلة القنفذ:

إنَّ الإنسان الذي يدمن على الأمور الضارة بصحته مثل الكحول أو التدخين أو المواد المخدرة ويحاول التخلص منها أو الإقلاع عنها، يعاني من معضلة القنفذ مع هذه المواد؛ إذ إنَّه في الوقت نفسه الذي يحاول فيه تركها أو الإقلاع عنها أو الهروب منها، فهو يتوق إليها ويتمنى الرجوع إلى تعاطيها.

شاهد بالفديو: 15 نصيحة تفيدك في حياتك الاجتماعية والمهنية

2. إنقاص الوزن ومعضلة القنفذ:

الإنسان الذي يعاني من وزن زائد ويريد إنقاصه من خلال اتباع نظام غذائي صارم، يعاني أيضاً من معضلة القنفذ مع المأكولات الحاوية على سعرات حرارية عالية مثل: الحلويات والدهون والوجبات السريعة؛ فهو يشتهي هذه الأطعمة اللذيذة، وفي الوقت نفسه يرفضها ويحاول حذفها من نظامه الغذائي أو التقليل منها.

3. الطالب ومعضلة القنفذ:

إنَّ الطالب الذي يمر في فترة الامتحانات ولديه كم كبير من المعلومات التي يجب عليه حفظها في وقت قصير جداً، وفي الوقت نفسه لديه تعلق كبير بهاتفه المحمول والألعاب الإلكترونية الموجودة فيه وتفقُّد حساباته في مواقع التواصل الاجتماعي، يعاني من معضلة القنفذ مع هاتفه المحمول؛ فهو يريد الدراسة وفي الوقت نفسه يضيع وقته في استخدام جهازه الذكي، فهو يحب الأخير وينفر منه في آنٍ واحد.

أهم العبر المستفادة من معضلة القنفذ:

  1. يجب ألَّا تكون علاقات الإنسان الحميمية عشوائية أو منفتحة إلى حد يجعل خصوصيات الفرد عارية أمام سهام الآخرين.
  2. من الهام أن يُبقي الإنسان مسافة أمان تفصله عن جميع مَن حوله، مهما كان قربهم منه أو أهميتهم بالنسبة إليه.
  3. إنَّ معضلة القنفذ لا تعني أبداً أنَّ الإنسان يجب عليه أن ينعزل ويبقى وحيداً وبعيداً عن أعين الناس وسهامهم.
  4. الإنسان كائن اجتماعي لا يمكنه أن يعيش إلَّا مع مَن حوله من البشر، ولكن لكي يُبقي علاقاته ضمن إطار صحي، يجب أن يتبع أسلوباً يتوسط فيه بين الإفراط والتفريط.

ماذا عن معضلة القنفذ في الأفلام والثقافة الشعبية؟

من ضمن الثقافة الشعبية، تم التطرُّق إلى معضلة القنفذ أو قصته بطريقة سهلة ولكنَّها تحمل الكثير من العبر في طياتها، وقد حُوِّلَ بعضها إلى أفلام لاقت الكثير من الاهتمام والإعجاب عند مختلف مَن شاهدوها، ولعل أبرزها كان فيلم "نيو جينيسيس إيفيجيليون" الذي يتكلم عن قنفذ يبحث عن صديق له وكلما ظن بأنَّه حصل عليه، يقترب منه؛ وهذا ما يؤدي إلى وخزه، ومن ثم نفوره منه، وتتوالى هذه المواقف، غير أنَّه في نهاية الفيلم يجد القنفذ صديقاً له، وهو السلحفاة؛ إذ إنَّه كائن يحمل درعاً قوياً وقاسياً لا يتأثر في أشواك القنفذ، وهنا يمكننا الاستنتاج أنَّنا بحاجة إلى التباين في العلاقات البشرية، ومن الأفضل أن يكون شريكنا محصناً من عيوبنا أو نقائصنا التي لا نستطيع تغييرها أو القفز فوقها.

إقرأ أيضاً: لكي تكون ناجحاً، اعمل بما تتقن

ما هي أهم قضية تطرحها معضلة القنفذ في ظل العصر الحالي؟

ربما تكون المسألة الأهم التي تطرحها معضلة القنفذ هي طريقة استخدام وسائل التواصل الاجتماعي بطريقة آمنة نوعاً ما؛ إذ نخلق مسافة معتدلة بين أنفسنا وذواتنا وخصوصياتنا من جهة، وهذا العدد الهائل من الناس الذين يراقبون ما نفعله كل يوم على وسائل التواصل الاجتماعي من جهة أخرى، ليس فقط من أجل تجنب العلاقات التي قد تكون ضارة أو منتهكة للخصوصية؛ وإنَّما أيضاً من أجل أن نُكوِّن علاقة صحية مع ذواتنا؛ علاقة يسودها الهدوء العميق، وتكون بعيدة عن أجواء التوتر والضغط والترقب؛ فليس من السهل دائماً إيجاد فسحة هادئة من السكون والطمأنينة وسط هذا الكم الهائل من الضجيج، ولكنَّه وبكل تأكيد ليس أمراً مستحيلاً.

في الختام:

في نهاية هذا المقال، نرجو أن تكونوا قد استمتعتم معنا بواحدة من أجمل المعضلات الشائكة في علم النفس الذي يحاول إمتاعنا دائماً من خلال سبر أغوار النفس البشرية، التي ما زالت تمتلئ بالغموض والكنوز التي لم تُكتَشف بعد على الرغم من الجهود الهائلة التي يبذلها علماء علم النفس.

ويمكننا أن نختم كلامنا هذا بعبرة سهلة ولكنَّها هامة وتلخص كل شيء؛ وهي أنَّنا يجب ألَّا نقع في اليأس بمجرد تعرُّضنا إلى الرفض في أن نكون جزءاً من علاقة ما؛ بل علينا أن نبقى باحثين عن نصفنا الآخر، فهو موجود في مكانٍ ما من هذا العالم، ويمكننا أن نأخذ الأمل من قصة صديقنا القنفذ الذي لم يستسلم لليأس؛ بل ظل يبحث حتى وجد صديقه السلحفاة؛ لذا يجب أن يبقى لدينا الأمل في أنَّنا سنجد صديقنا السلحفاة في يوم من الأيام.

المصادر: 1، 2، 3




مقالات مرتبطة