تعبير الأطفال عن مشاعرهم: خطوة مُنجية من الوقوع في شرك الكبت

نصادف اليوم الكثير من الأطفال الصامتين والهادئين جداً، والمُتقبِّلين لكلِّ أمر، والمنصاعين لكلِّ طلبٍ يُوجَّه إليهم، والمُعتمدين على أهلهم في الاختيار بين أيِّ صنفين من الأصناف؛ ونميل في أغلب الأحيان إلى إطلاق تسمية "الأطفال المهذَّبين" عليهم، وتهنئة آبائهم على حسن تربيتهم وجهودهم فيها، دون أن نعي الحمم البركانية المتراكمة في نفوس هؤلاء الأطفال، والتي تجعل منهم براكين تنذر بالانفجار في أيِّ لحظة.



نعم، إنَّهم يُعانون بصمت، فحريتهم مُستباحة، ومساحتهم وحقُّهم في التعبير مسلوب، وذلك تحت شعار "الطفل المهذَّب مَن يبقى صامتاً هادئاً، ومَن يُنفِّذ كلام والديه دون أيِّ اعتراض".

يؤكِّد علماء النفس أنَّ كبت المشاعر في أثناء مرحلة الطفولة مصدر معظم الأمراض النفسية والعضوية التي يعاني البالغون منها، والذي يُسبِّب الكثير من الكوارث مستقبلاً، ويخلق إنساناً مهزوز الثقة بنفسه، ولاجئاً مضطرباً إلى طرائق خاطئة من أجل التنفيس عن مشاعره المكبوتة، وغير قادرٍ على اتخاذ القرارات الصحيحة في حياته؛ لذلك تسعى جميع العلاجات النفسية إلى إعادة إحياء تلك الفترة من حياة الشخص، من خلال العمل على إعادة استحضار نفسه وهو صغير، واستشعار المشاعر القديمة المكبوتة، وتقبُّلها بدلاً من مقاومتها، وإنشاء حوارٍ صادقٍ ومُحِبٍّ مع ذاته، كأن يقول للشخص الذي كان عليه: "أنا مُقدِّرٌ لما تشعر به، وأنا معك دوماً. فلا تقلق، إذ سيكون كلُّ شيءٍ بخير".

لذا تعليم الأطفال مهارة التعبير عن مشاعرهم إجراءٌ وقائيٌّ هامٌّ جداً يحمي أطفالنا من الآثار الفتَّاكة للكبت؛ لذلك دعونا نتعلَّم من خلال هذا المقال كيف نساعد أطفالنا على اكتساب هذه المهارة الرائعة.

ما هي المشاعر؟ وهل يعدُّ التعبير عنها أمراً هامَّاً؟

يملك كلُّ إنسانٍ جملةً من المشاعر الطبيعية -الإيجابيَّة منها والسلبيَّة- وعليه أن يَعِي كيف يعبِّر عن هذين النوعين من المشاعر، ليتمكَّن من ممارسة حياته بصورةٍ سويَّة.

تعدُّ مهارة التعبير عن المشاعر من أكثر المهارات ضرورةً للطفل، حيث يؤكِّد علماء النفس أنَّ التعبير عن المشاعر يَقِي الأطفال من العديد من المشكلات النفسية والسلوكية مستقبلاً.

يملك كلُّ إنسانٍ كمَّاً كبيراً من الأفكار، ولكلِّ فكرةٍ ذبذباتٌ طاقيةٌ تشكِّل بمجموعها الطاقة الحيوية للجسم، وتعدُّ المشاعر الشكل الأول من أشكال التنفيس الحسي لهذه الطاقة، حيث تُمثِّل المشاعر الإيجابية -مثل: الفرح، والحب، والرعاية، والاهتمام، والسعادة- تنفيساً للطاقة الإيجابية في الجسم؛ في حين تُشكِّل المشاعر السلبية -مثل: الرفض، والتذمُّر، والحزن، وعدم الامتنان- تنفيساً للطاقة السلبية في الجسم.

يعاني الشخص الذي لا يُنفِّس طاقة الجسم ممَّا يُسمَّى "الاحتقان الطاقي"، حيث تبقى الطاقة مخزَّنةً في الجسم، وتظهر على هيئة أمراضٍ عضويَّةٍ ونفسيَّة، مثل: الاكتئاب، والتوتر، والقلق، وأمراض ضغط الدم، والسكري، والقولون العصبي، وغيرها.

ما الذي يمنع الأطفال من التعبير عن مشاعرهم؟

1. التربية القاسية:

يميل الكثير من الأهالي إلى تبنِّي أسلوب التربية الصارم والعنيف أحياناً، معتقدين أنَّهم بذلك ينشئون طفلاً سليماً نفسياً ومميَّزاً وناجحاً، غير مدركين حقَّ طفلهم في ارتكاب الأخطاء والتعلُّم منها، وحقَّه في عيش عمره الحقيقي بكلِّ ما يحمله من عفويَّةٍ وطاقةٍ وحيويةٍ وأسئلةٍ كثيرةٍ واستكشافاتٍ جميلة؛ فيرفعون سقف طموحاتهم كثيراً، ويُطالِبونه بأن يكون مثالياً منذ البداية، مُتَّبعين أسلوب الأمر والفرض والإجبار، والاعتداء الجسدي بالضرب أحياناً؛ الأمر الذي يجعل الطفل مُقيَّداً، ولا يعيش حقَّه في الحرية، ولا يستطيع التعبير عن مشاعره، إذ تقول أمُّه له دائماً: "إيَّاك أن تبكي، فالبكاء للضعفاء فقط"، و"لا تضحك بصوتٍ عالٍ، حيث يُذهِب الضحك الكثير بصوتٍ مرتفع الوقار"، و"إن تصرَّفت تصرُّفاً خاطئاً، فسأبرحك ضرباً"؛ وإن كان متلهِّفاً ليشاركها أفكاره بخصوص موضوعٍ ما، فتجيبه سريعاً: "اسكت، فأنتَ ما تزال صغيراً على أحاديث كهذه، لا تتدخَّل فيما لا يعنيك".

2. تقديس الآخرين:

يعيش الكثير من الأهالي حياتهم بناءً على ما يُمليه عليهم الآخرون، فيتحوَّل كلام الناس ونظرة المجتمع إلى المحرِّك الأساسي لتحرُّكاتهم وأفعالهم، ولا يسعون إلى البحث عن شغفهم الحقيقي بالأشياء التي تُمتِّعهم بالفعل، وينقلون هذه الثقافة إلى أبنائهم، فيجعلون منهم تابعين للمجتمع، دون أيِّ مراعاةٍ لمشاعرهم ورغباتهم وشخصيَّاتهم.

على سبيل المثال: عندما تقول أمٌّ لابنتها: "ماذا سيقول الناس عنكِ إن تكلَّمتي بصوتٍ قويٍّ وضحكتِ عالياً؟ عليك أن تتكلَّمي بهدوء، وبصوتٍ منخفضٍ للغاية، وعند اللزوم فقط، وألَّا تضحكي أبداً"؛ تُحوِّل ابنتها من طفلةٍ قوية الشخصية، وراغبةٍ في التعبير عن نفسها وآرائها، وعاشقةٍ للحيوية والضحك؛ إلى إنسانةٍ جامدةٍ وباردةٍ بلا روحٍ أو طاقة، وغير قادرةٍ على التعبير عن نفسها بحريَّة.

3. النظرة المغلوطة عن الوقار:  

يملك الكثير من الأهالي نظرةً قاصرةً عن الوقار، حيث يعتقدون أنَّهم إن كانوا وقورين وجادِّين طوال الوقت، فهذا يُعبِّر عن النضج والرقي؛ في حين أنَّ الوقار جيِّدٌ في أوقاتٍ معيَّنة، ولا ينفع في أوقاتٍ أخرى، فمثلاً: عندما تكون مع طفلك، عليكَ أن تكون بكامل طاقتك وحيويَّتك وبهجتك، وأن تلاعبه وتشاركه أوقاته الجميلة، الأمر الذي يُقوِّي العلاقة فيما بينكما كثيراً؛ كما عليكَ أن تعامله بجديةٍ وحزمٍ في بعض الأحيان، كأن تُبيِّن له مساوئ أمرٍ يفعله، ومن ثمَّ تعطيه حرية القيام به، على أن يتحمَّل النتائج وحده؛ أي التنوُّع والتفنُّن في انتقاء الصفة المناسبة في الوقت المناسب، وهو ما يُضفِي الإيجابية على العلاقة.

يعدُّ كلٌّ من الضحك والبكاء وسيلتين ناجحتين لتنفيس طاقة الجسم، وكلَّما كانت الطاقة أكبر، احتاجت إلى اهتزازٍ أكبر لتتنفَّس؛ لكن يمنع تبنِّي حالة الجمود والوقار الدائمين من تنفيس هذه الطاقة، الأمر الذي يؤدِّي إلى الكثير من المشكلات النفسية والعضوية الناتجة عن كبت المشاعر.

إقرأ أيضاً: 7 تصرفات تفسد تربية الطفل حاول أن تتجنبها

كيف نجعل الأطفال محترفين في التعبير عن مشاعرهم؟

إليكَ بعض الطرائق التي تجعل من الطفل محترفاً في التنفيس عن مشاعره:

1. المخزون اللغوي:

على الأهالي تعليم الطفل في سنواته الأولى الكلمات اللغوية التي تساعده في التعبير عن مشاعره، فمثلاً: تستطيع الأم في عمر (1- 2) سنة رسم وجوهٍ لطفلها، بحيث يُعبِّر كلُّ وجهٍ عن شعورٍ سلبيٍّ أو إيجابيٍّ معيَّن، لكي يتعلَّم الطفل أنَّ الحياة تحمل الإيجابيات والسلبيات؛ وعندما يكبر الطفل أكثر، تستطيع الأمُّ تعليمه مهارة التعبير عن المشاعر من خلال قصِّها القصص الجميلة عليه، على أن تحمل القصة كمَّاً كبيراً من المشاعر وطرائق التعبير عنها، ومن ثمَّ تسأله عن رأيه في القصة، وعن الطريقة التي تعامل كلٌّ شخصٍ فيها مع مشاعره.

2. الاحتواء:

على الأهالي أن يبنوا الثقة بينهم وبين أطفالهم، لكي يطمئِن الأطفال نفسياً ويَشعروا بالأمان معهم؛ وعليهم تقبُّل تصرُّفات أولادهم وأخطائهم، والعمل على تصويب سلوكاتهم بطريقةٍ سليمة، عوضاً عن توبيخهم والتركيز على السلبيات فقط.

على سبيل المثال: إنَّ رفض الطفل الذهاب إلى المدرسة، وتعامل مع ذلك بسلبية، فعلى أبويه احتواء الموقف، فمن حقِّ الطفل الرفض وقول "لا"؛ لذلك على الأهل الجلوس مع الطفل، والنظر إلى عينيه ليشعر بالمشاركة، والقول له بحبٍّ وهدوء: "لا تقلق حبيبي، فأنا أشعر بك، إنَّها مرحلةٌ جديدةٌ في حياتك، ومن الطَّبيعي أن تشعر بالرفض بدايةً؛ لكنَّنا تكلَّمنا عن الهدف من المدرسة، وأعتقد أنَّك اقتنعت بكلامي وأدركتَ أهمية الأمر، فهيَّا بنا أيُّها البطل للذهاب إلى المدرسة".

3. الحوار الدائم:

على الأهالي تبنِّي أسلوب الحوار العميق والدائم مع أطفالهم، فمثلاً: أن تسأل الأم طفلها على الدوام عن مشاعره، وتطلب منه أن يَصِفها لها بدقَّةٍ في موقفٍ معيَّن؛ ممَّا ينمِّي مهارة الذكاء الوجداني لديه.

سيكون الطفل الناشئ في بيئةٍ سليمةٍ يمتلك فيها مساحة كافية للتعبير عن نفسه، طفلاً واثقاً من نفسه، وواضحاً، وذكياً، ومتوازناً نفسياً، وقادراً على اتخاذ قراراته لوحده.   

4. القدوة الحسنة:

يتعلَّم الطّفل من السلوك، وليس من الكلام؛ لذلك احرصوا على أن تكونوا قدوةً حسنةً لأطفالكم، فهم سيتعلَّمون من خلالكم كلَّ شيء، وسينتج الآباء الذين يعبِّرون عن مشاعرهم برقيٍ واحترامٍ أطفالاً قادرين على التعبير الصحيح عن مشاعرهم.

على سبيل المثال: عندما يختلف الأبوان على موقفٍ ما، فتعبِّر الأم عن غضبها من تصرِّف الأب، وتقول له: "أنا أحبُّك، لكنِّي غاضبةٌ بعض الشيء من تصرُّفك، فلو تصرَّفت بطريقةٍ مختلفةٍ وأكثر وعياً فيما يخصُّ ذاك الأمر".

لم تلجأ الأم هنا إلى تحطيم الزجاج أو الصراخ، وهي بذلك تعلِّم ابنها الطريقة المثلى للتعبير عن مشاعر غضبه.

إقرأ أيضاً: 8 طرق لتنمية الذكاء الاجتماعي للطفل

الخلاصة:

خصِّصوا الوقت الكثير لأولادكم، فالتربية من أهمِّ وأخطر المهام على وجه الأرض، وتستحقُّ منكم بذل الجهد والبحث الحثيث والطاقة من أجلها؛ واعلموا أنَّ الطفل القادر على التعبير عن مشاعره بحريَّةٍ وثقةٍ ودون قيود، مشروعُ إنسانٍ متوازنٍ نفسياً وروحياً وعملياً؛ لذلك أطلقوا العنان لأطفالكم، كي يطيروا بحيويةٍ وشغفٍ وحبٍّ وثقةٍ بالحياة. 

 

المصادر: 1، 2، 3




مقالات مرتبطة