تطبيق "منظور البعد النفسي" لتجاوز مواقف الحياة الصعبة

بدأ الإمبراطور الروماني "ماركوس أوريليوس" في القرن الثاني الميلادي بتوثيق تأملاته عن حياته التي شارفت على الانتهاء. وسأل الأسئلة نفسها التي يطرحها كلٌّ منا على نفسه، فيما يخص الطريقة المثلى لنعيش حياةً ذات مغزى، وكيفية التحلي بالمرونة لمواجهة صعوبات الحياة، والمعنى الحقيقي للسعادة البشرية.



لم يكن هدف الإمبراطور "ماركوس أوريليوس" من كتاباته حبَّ الشهرة، وهذا ما أتاح لنا الغوص في حوارٍ صادقٍ أجراه مع نفسه. مع تكرار بعض الموضوعات، إلا أنَّ النص يمثل سلسلة من الموضوعات المنفصلة عن بعضها، والتي تختلف في الطول لتقتصر على جملة أو اثنتين وتطول لتصل إلى فقرة.

كما أظهر الإمبراطور من خلال هذه الأجزاء المكتوبة قدراً متعمقاً من الحكمة التي أثبتت البحوث النفسية المعاصرة صحتها؛ بالإضافة إلى إظهار رؤيته الثاقبة لمجريات الحياة ضمن تأملاته التي تُرجِمت إلى اللغة الإنجليزية من اليونانية الأصلية، فقد كشفت كتاباته عن قدرة فائقة في تغيير بؤرة الاهتمام، والتصدي لأكبر الأفكار.

في بعض الأحيان نلاحظ أنَّ "أوريليوس" يفكر مستعملاً ضمير المتكلم، وهو ما يظهر في استعماله الضمير "أنا"، كما أنَّه يستعمل ضمير الجماعة "نحن" في بعض الأحيان متحدثاً عن الأفكار التي تنطبق على البشرية جمعاء، على سبيل المثال: "حياتنا حرب، ورحلة قدسية محضة".

إقرأ أيضاً: كيف تتجاوز تحدّيات الحياة بنجاح وتعيش حياتك بسعادة وسلام

كما تبيَّن التبديل في أقسامٍ أخرى باستعمال ضمير المفرد المخاطب؛ وذلك ليس لغرض مخاطبة القارئ - تذكَّر أنَّه لم يكن يطمح لنشر كتاباته - وإنَّما ليعكس ميله للحوار مع ذاته وتقييم حياته، وبهذا فهو يخاطب نفسه مباشرة.

استطاع "أوريليوس" من خلال اعتماد "منظور البعد الذاتي" الاعتراف بأنَّ معاناته كانت مؤقتة.

درسَ تأثير تبنِّي النظريات اللغوية الدقيقة في تغيير مجرى أفكارنا، ومن ثم تغيُّر الشعور. اقتُبِس هذا المقطع المدهش من كتاباته لهذا السبب، ويقدم فيه نصيحة لنفسه باستعمال ضمير المتكلم عن كيفية تهدئة بحار الأفكار الداخلية الهائجة التي ستقود الإنسان للغرق في النهاية، قائلاً:

"لا تدع عقلك يتخبط يمنةً ويسرة بالتفكير في المآسي والكوارث الخطرة التي تخضع لها بملء إرادتك. ولكن، أمعن النظر في كل مسألةٍ على حدة، اطرح هذا السؤال على نفسك: ما هي المسألة الحالية التي تبدو ملحةً ومستعجلة، وألحَّ على نفسك في الطلب ولا تخجل بالاعتراف بما يقضُّ مضجعك في الوقت الراهن؛ ثم أجرِ استحضاراً ذهنياً للتفكير برويَّة في المسألة الحالية وليس المستقبلية، ولا الماضي الأليم؛ ولكن ركِّز على ما بين يديك حالياً. وبهذا تحصر أفكارك في عدد قليلٍ من المسائل. تأكد من تهدئة أمواج الأفكار المتلاطمة إن لم يكن لفترة قصيرة فلمجرد لحظة، لن نصمد طويلاً إن لم نتحلَّ بالصبر".

هنا يكتب "أوريليوس" عن قوة الأفراد في السيطرة على أفكارهم الخاصة. ويقدم النصيحة الذكية الآتية: اسأل نفسك "عما يزعجك في هذه اللحظة؟". الصياغة هي أهم ما في الأمر؛ فلم يكتب: "ما الذي يزعجني؟"؛ بل نصح بطرح هذا السؤال على نفسه من وجهة نظر شخصٍ خارجي، مستعملاً ضمير المُخاطَب المفرد. ويمكن القول من خلال اعتماد "منظور البعد الذاتي"، استطاع "أوريليوس" الاعتراف بأنَّ مشاعر المعاناة التي شعر بها كانت مؤقتة.

تتم عملية التأمل والحكم الذاتي عبر محادثة باستعمال ضمير المُخاطَب أو الغائب أو حتى اسم المرء نفسه؛ وذلك للدلالة على الطرف الخارجي، وممارسة حديث النفس. تشير مجموعة كبرى من الأبحاث التي أجراها علماء النفس أنَّ الانخراط في حديثٍ مع النفس باستعمال "منظور البعد الذاتي" يساعد على تنظيم الأفكار والمشاعر السلبية نحو مجموعة من المواقف؛ وذلك جرَّاء المرور بتجربة مؤلمة سابقة أو الشعور بالإرهاق من أداء المهام المستقبلية.

وقد أتى العلماء بهذه النتائج بناءً على عقودٍ من البحوث عن الحديث مع النفس عن بُعد، الذي بيَّن أهمية وجود مسافة نفسية - وتبنِّي منظور "البعد النفسي" للتركيز على ما هو هام "هنا والآن" - وهو عنصر أساسي لتناغم أفكارنا ومشاعرنا وسلوكنا مع أهدافنا.

يمكننا تجاوز منظورنا الافتراضي والأناني عند استعمال ضمير المُخاطَب "أنت" للتفكير في دواخلنا، والنَّظر في أفكارنا ومشاعرنا من موقف مراقِب خارجي موضوعي. كما يؤدي هذا المنظور الذاتي الخارجي إلى طرائق جديدة للتفكير، التي تُحدِث فرقاً فيما نشعر به، ومن ثم تغيير سلوكنا ضمن المواقف العاطفية.

إقرأ أيضاً: في ظل ظروف الحياة الصعبة والعقبات: كيف أحافظ على الدافع لتحقيق أهدافي؟

توجَّهت إحدى الدراسات التجريبية بسؤال المشاركين لمحاولة فهم مشاعرهم عن طريق الحديث الداخلي من مصدر خارجي، على سبيل المثال: "لماذا يشعر ديلان بهذه المشاعر؟"، مقابل الحديث الذاتي، على سبيل المثال: "لماذا أشعر بهذه المشاعر؟".

وأتت هذه الممارسة بنتائج مذهلة، مثل انخفاض الشعور السلبي تجاه الذات، جرَّاء مواجهة التجارب السيئة التي أثارت تلك المشاعر السلبية: مثل الخيانة والغضب والرفض والإحباط والقلق والتهديد بأهمية الوجود. وبالإضافة إلى ذلك، فقد شملت فوائد هذه الممارسة المتطوعين الذين ارتفعت نسبة إصابتهم بالقلق وجلد الذات.

وتعاظم التأثير الإيجابي لهذه الممارسة عندما طُلب من الأطفال استعمال "منظور البُعد النفسي" لوصف شخصية معروفة بالعمل الدؤوب؛ مثل شخصيات الأبطال الخارقين.

في دراسةٍ أُخرى أُجريت في "الولايات الأمريكية" خلال تفشّي "فايروس إيبولا" (Ebola) في عام 2014 في "الولايات المتحدة"، قد أدى توجيه المشاركين في البحث لتفريغ أفكارهم عن تهديد الفيروس كتابياً باستعمال "منظور البعد الذاتي" - مقابل حديث النفس الذاتي - للتفكير تفكيراً عقلانياً؛ وذلك من خلال كتابة أسباب لعدم القلق مبنية على الحقائق، وإزالة الكثير من مخاوفهم، خاصةً لأولئك الذين كانوا يشعرون بالقلق الشديد فيما يخص هذا الموضوع.

وفي بحث تجريبي آخر، أرشد "إيثان كروس" (Ethan Kross) من "جامعة ميشيغان" وفريقه المتطوعين لاستعمال نمط البعد الذاتي للتحضير لإلقاء خطاب قادم، وقد قُورِنوا بمجموعة ضابطة، ولُوحظ أنَّ ممارستهم "لمنظور البعد الذاتي" قد دفعتهم إلى النظر إلى الخطاب على أنَّه تحدٍّ يمكنهم قهره باستعمال الموارد المتاحة، بدلاً من عدِّه تهديداً مُستهلِكاً للطاقة.

إقرأ أيضاً: كيف توازن بين ضبط النفس ومتع الحياة لتعيش حياة سعيدة؟

أجرى الباحثون في "جامعة بافالو" (University of Buffalo) في "نيويورك" دراسة مماثلة، ووجدوا انعكاس هذا التغيير في التقييم المعرفي للأمور من التهديد إلى التحدي بإيجابية على استجابتهم التي أصبحت أكثر هدوءاً.

فقد توسعت فوائد تطبيق منظور البعد النفسي لتتخطى مساعدة الناس على تنظيم مشاعرهم السلبية. وثبت أنَّ هذه الممارسة تعزز المنطق الحكيم والتفكير العقلاني، فرغب المشاركون في البحث عن حلٍ وسط، والاعتراف بحدود معرفتهم الخاصة بأريحية.

وعلى نحوٍ مماثل، فقد ساعدت هذه الممارسة في سياق التعامل مع الصفات الأخلاقية الذميمة على تنحية الأنانية والتفكير بحيادية، الذي لم يكن ليحصل لولا توظيف هذا المنظور. على سبيل المثال: إذا صادفت صديقك المقرب يتحرَّش جنسياً بأحدهم، فاستعمال "التفكير بأسلوب البعد الذاتي" سيدفعك للتفكير بمنطقية والإبلاغ عنه بصرف النظر عن علاقتك الوثيقة به.

لا يستفيد البالغون وحدهم من هذه الوسيلة اللغوية. فقد لُوحظت مثابرة الأطفال الصغار - بدءاً من سن الرابعة - في إحدى الدراسات لفترةٍ أطول لأداء مهمة مملة باستعمال الحاسوب، عندما دُفعوا للتحقق من الأداء عبر "منظور البعد الذاتي" باستعمال أسمائهم الخاصة دورياً، على سبيل المثال، "هل تعمل بجدٍّ غابرييلا؟"، بدلاً من استعمال ضمائر المتكلم، على سبيل المثال، "هل أعمل بجد؟".

وتضاعفت فوائد هذه الممارسة عندما صدرت تعليمات للأطفال باعتماد منظور البعد الذاتي عبر شخصية خيالية تتصف بالعمل الدؤوب، على سبيل المثال، "باتمان"، أو "دورا"، أو "المستكشف".

أحد أسباب جدوى هذا الأسلوب للبالغين والأطفال باختلاف أعمارهم ومواقفهم هو سهولة تنفيذه. بالتأكيد فقد سمع أغلبنا نصائح التغلب على الصعاب القائلة بالتمهل والتراجع خطوة للوراء، أو بالنظر إلى الأمر نظرة شمولية؛ إذ وُجدت النصيحة محبطة نوعاً ما. توفر ممارسة البعد الذاتي حلاً سهلاً نسبياً. كما أكدت دراسة مسح الدماغ التي أظهرت أنَّ الممارسة لا تتطلب جهداً ذهنياً مفرطاً لتنفيذها.

شاهد بالفيديو: كيفية التحكم بالانفعالات وضبط النفس

كشف الإمبراطور "أوريليوس" من خلال كتاباته وسعيه إلى تغيير طريقة التفكير ومن ثم تغيير ما نشعر به، عن سرٍ دفينٍ يخص النفس البشرية. وأكدت الأبحاث بعد قرون، أنَّ تغيير الطريقة التي نفكر بها حيال شيءٍ ما هي وسيلة قوية لإدارة العواطف أيضاً.

يمكنك مجابهة الصعاب عبر تجربة اتباع قيادة "أوريليوس" للحالة الذهنية، والعمل على تغيير أفكارك ومشاعرك السلبية من خلال مخاطبة نفسك باستعمال ضمير المخاطب "أنت" أو استعمال اسمك؛ أي باستعمال "منظور البعد الذاتي" كما يمكنك الاستفادة من بنية اللغة للتمهل ورؤية الصورة رؤية شمولية.

المصدر: 1




مقالات مرتبطة