تضليل الذاكرة: حقيقة الأكاذيب التي تُخبرها لنفسك

لا يمكنك الاعتماد على ذاكرتك بقدر ما تعتقد، لأنَّها سوف تُضلِّلُك حتى لو آمنت بأنَّها لن تفعل ذلك أبداً، فلقد سارت حياتك سيراً مختلفاً عمَّا تتذكَّره الآن، هل فاجأك ذلك؟



ملاحظة: هذا المقال مأخوذ عن الكاتب "تايلر تيرفورين" (Tyler Tervooren)، يُحدِّثنا فيه عن مشكلات الذاكرة وبعض الوسائل لتحسينها.

إنَّ كل الأوقات السعيدة التي تتذكَّرها الآن لم تحدث بالطريقة التي تعتقد أنَّها حدثت بها، ولم تكن معظم الأوقات العصيبة بالسوء الذي تعتقده، وكل القصص التي تسمعها من والديك وأجدادك عن الأيام الخوالي هي على الأرجح قصصٌ مُبالَغٌ فيها.

هذا ما يعنيه أن تكون إنساناً؛ إذ إنَّ الإنسان هو الكائن الأكثر تقدُّماً وذكاءً على وجه الأرض، ومع ذلك لديه كثير من العيوب ولا يمكنه إدراك معظمها، وأحد أكبر هذه العيوب هو عدم قدرته على تذكُّر الأحداث التي يعيشها بدقة، فهذا هو نصيب الإنسان في الحياة، وقد تعلَّم التعامل معه تعاملاً فعَّالاً جداً، ولكنَّه من وقت لآخر قد يتسبَّب في دمارٍ كبير.

بالنسبة إلى جميع التجارب الجميلة والمروِّعة والأحداث التي تشكِّل حياتك، والتي تسجلها التشابكات العصبية في دماغك، اتَّضح أنَّ الاعتماد على الذكريات لمساعدتك على اتخاذ قرارات مستقبلية قد يكون مخاطرةً أكبر ممَّا كنت تعتقد في السابق، وربما هذا هو السبب الذي دفع الإنسان إلى تطوير اللغة المكتوبة، وقد يكون ذلك بمكانة اعترافٍ دون وعي بأنَّه لا يمكن الوثوق بالأفكار لفترةٍ أطول من الفترة المطلوبة لتدوينها.

إثبات عدم موثوقية الذاكرة:

يعيش الإنسان علاقةً غريبةً جداً مع القصص، خاصةً القصص التي من المفترض أن تكشف له عن أدلَّة هامة، والغريب أنَّه يميل إلى تصديق القصص وخاصةً روايات شهود العيان أكثر من أي شكلٍ آخر من أشكال الأدلة، مع أنَّ الروايات المباشرة أثبتت أنَّها غالباً ما تكون غير موثوقة تماماً، وليست جديرةً بالثقة.

لذا لا يجب أن يكون ذلك مثيراً للجدل، فلقد أُثبت مراراً وتكراراً في المحاكم في جميع أنحاء العالم وكذلك من خلال الدراسات النفسية الخاضعة للرقابة، وأثبتت إحدى هذه الدراسات التي أجرتها الباحثتان "أمينة ميمون" (Amina Memon)، و"ريتا فارتوكيان" (Rita Vartoukian) مقدار قابلية الذاكرة للتكيُّف من خلال تكرار الأسئلة المغلقة فقط؛ أي الأسئلة ذات الإجابات المؤلفة من كلمة واحدة خلال الاختبار، ففي سلسلةٍ من الأسئلة، أدَّى تكرار الأسئلة المغلقة مرات عدة إلى انخفاض ثقة الشخص في إجاباته انخفاضاً كبيراً، ويمكنك العثور على أمثلة مختلفة على ذلك في أي مسلسل دراما إجرامية؛ إذ تدور الأحداث عادةً بالشكل الآتي:

المُفتش: ما هو لون القبعة التي كان يرتديها المُتهَم وقت السرقة؟

شاهد: أعتقد أنَّها كانت قبعةً خضراء.

المُفتش: ما مقدار يقينك من ذلك؟

الشاهد: إنَّني متأكِّد بنسبة 99%.

المُفتش: وهل رأيت المتَّهم عن قرب؟

الشاهد: لا، كنت في الجانب الآخر من الغرفة.

المُفتش: حسناً، كنت في الجانب الآخر من الغرفة، كم كنتَ بعيداً حسب تقديرك؟

الشاهد: لا أعلم، ربما 40 قدماً؟

المُفتش: حسناً، يبدو أنَّك كنت بعيداً، لكن هل رأيته رؤيةً واضحةً ومباشرةً؟ هل رأيت المتَّهم يرتدي القبعة دون أي عائق؟

الشاهد: في الواقع، كنت مختبئاً خلف مكتب، لكنِّي اختلست النظر مرات عدة.

المُفتش: دعني أستوضح الأمر، كنت في الجانب الآخر من الغرفة مختبئاً خلف مكتب وألقيت نظرة خاطفةً "مرات عدة" لترى ما كان يحدث ورأيت المتَّهم مرتدياً قبعة؟

الشاهد: أجل، هذا صحيح.

المُفتش: ذكِّرني مرةً أخرى، ما هو لون القبعة؟

شاهد: أعتقد أنَّها كانت خضراء.

المُفتش: وما مقدار يقينك من ذلك؟

شاهد: إنَّني متأكدٌ بنسبة 75% تقريباً.

المُفتش: لا مزيد من الأسئلة.

هذا السيناريو تخيِّليٌّ بعض الشيء، ولكنَّه ليس بعيداً عن الحقيقة، وأي محامي متمرِّس يعرف ذلك؛ إذ يمكنك بسهولةٍ أن تجعل شخصاً ما يشكُّ في يقينه، دون أن تُناقض قصته تناقضاً مباشراً حتى.

بالمقابل، قدَّمت دراسة أجراها الباحثان "جون شو" (John Shaw)، و"كيمبرلي مكلور" (Kimberley McClure) دليلاً دامغاً على أنَّ الإنسان يميل بشدة إلى إقناع نفسه بأنَّ شيئاً خاطئاً تماماً هو صحيحٌ في الواقع؛ إذ قام الباحثان في دراستهما بتنظيم انقطاع عن الفصل الدراسي في الكلية، ثمَّ درسوا مدى ثقة الطلاب برواياتهم الخاصة عمَّا حدث على مدار خمسة أسابيع، ولقد وجدوا من خلال سلسلة من الأسئلة التي طلبت من الطلاب تكرار ذكرياتهم أنَّ ثقتهم فيما يتذكَّرونه وما يعتقدونه ارتفعت تدريجياً، بصرف النظر عن دقة ذاكرتهم، وهذا ما يُسمَّى مغالطة الاتساق.

فعند مشاهدة برنامج "من سيربح المليون" يمكنك أن تُلاحظ معاناة المتسابق وهو يختار إجابةً خاطئةً اختياراً واضحاً، ولكنَّه يصبح أكثر ثقةً في إجابته عندما يفكِّر فيها ملياً ويكرِّرها مراراً وتكراراً، ثمَّ ينصدم عندما يجد نفسه مُخطئاً ويعود إلى المنزل دون المليون التي حلم بها، ربما لديك الآن تفسيرٌ لمثل هذه الظاهرة.

وفي دراسة أجرتها الباحثتان "ديبورا بول" (Debora Poole)، و"لورانس وايت" (Lawrence White) عن ثقة الناس بذاكرتهم، توصَّلتا إلى أنَّه عندما يتعامل الإنسان مع معلومات غير كاملة، فمن المُرجَّح أن يستخدم تجاربه الخاصة للتكهن بالتفاصيل المفقودة، بدلاً من الاعتراف بأنَّه لا يعرف، وربما يكون هذا الاستنتاج هو الأقل صدمة، لأنَّ جميع الناس عاشوه من قبل.

لا شك أنَّك تحدَّثت يوماً مع أقربائك عن التصرُّفات الغريبة التي صدرت من صديقٍ أو قريب، ونظراً لعدم وجود تفسير من ذلك الشخص، كان لدى جميع الناس بمن فيهم أنتَ نظرياتٌ يعتقدون أنَّها أكثر صحةً من نظريات الآخرين؛ إذ إنَّ عقولنا لا تتكيَّف جيداً مع المعلومات الناقصة، ولا يمكننا قبول القصص غير المكتملة، فبدلاً من ذلك نُكمل القصة من معلوماتنا الخاصة بصرف النظر عن دقَّتها.

هل تعرف ما حدث في ذلك الفيلم الذي انتهى بنهاية غامضة؟ لا بدَّ أنَّك تعرف؛ فعندما يتعلَّق الأمر بكشف الحقيقة، فإنَّ موهبتنا الفريدة في تخيُّل الأحداث قد تكون في الواقع لعنة.

فإذا كان هناك شخص يعرف الحقيقة المؤلمة عن عدم قدرتنا على قول الحقيقة الصادقة، فهو "كيرك بلودسوورث" (Kirk Bloodsworth)، الذي أُدينَ بتهمة قتل فتاة تبلغ من العمر تسع سنوات، وحُكِم عليه بالإعدام؛ إذ توصَّلت هيئة المحلفين إلى قرار بالإجماع في غضون ساعتين فقط بعد سماع إفادات خمسة من شهود العيان، وبعد تسع سنوات في السجن، تمَّت تبرئة "بلودسوورث" من خلال أدلة الحمض النووي، لقد نجا من الموت في اللحظة الأخيرة.

هذه ليست حادثة غير مألوفة، فقد اتخذ "جورج رايان" (George Ryan) حاكم ولاية "إلينوي" (Illinois) في الولايات المتحدة، قراراً لم يحظَ بشعبية كبيرة؛ إذ خفَّف أحكام الإعدام لأكثر من 167 سجيناً بعد أن وجد طلاب كلية الصحافة في جامعة "نورث وسترن" (Northwestern) أدلةً تُبرِّئ عدداً من الأشخاص المحكوم عليهم بالإعدام، وفي وقت سابق من هذا العام، ألغت ولاية "إلينوي" عقوبة الإعدام تماماً.

هذا يعني أنَّنا قضينا وقتاً طويلةً نقتل الأبرياء قتلاً منهجياً، فمَن المسؤول عن إساءة تطبيق العدالة بهذا الشكل المريع؟ المسؤول هو أنت وأنا ونحن جميعاً، فلقد عرفنا هذا طوال الوقت، ولكنَّها حقيقةٌ لا نجرؤ على الاعتراف بها.

لقد وجد فريق "إنوسنت بروجيكت" (The Innocence Project)، وهو فريق مكرَّس لإيجاد الحقيقة في العدالة، أنَّ شهادة شهود العيان هي المسؤولة عن أكثر من 80% من القضايا المدانة خطأً، والتي قاموا بحلِّها باستخدام أدلة الحمض النووي، فجميع شهود العيان يعتقدون أنَّهم يتذكَّرون تذكُّراً صحيحاً، وجميعهم مخطِئون.

لكن لماذا نصدِّق القصص والذكريات التي يُخبرنا بها الناس رغم وجود أدلة قاطعة مخالفةٍ لها؟ لأنَّنا نستطيع أن نتعاطف مع الإنسان أكثر ممَّا نستطيع التعاطف مع أي شيء آخر، فجميعنا متشابهون في نهاية الأمر، وتجاهُل قدرة الناس على تذكُّر شيء حدث أمام أعينهم، يعني الاعتراف بأنَّنا لا نستطيع أن نتذكَّر الأحداث الهامة التي حدثت أمام أعيننا، فمن الصعب قبول هذه الحقيقة، لذلك بدلاً من التحقيق بأسلوب أعمق، نقبل الكذبة بهدوء حتى لا نُضعف مصداقيتنا.

شاهد بالفديو: 7 طرق مثبتة لتقوية الذاكرة طويلة الأمد

من أين تأتي الذكريات؟

تشير أحدث الأبحاث إلى أنَّ لدينا نحو 70 ألف فكرة كل يوم؛ إذ تتولَّد معظم هذه الأفكار دون وعي ولا يمكنك السيطرة عليها، لكن فكِّر في الحجم الهائل للأفكار العشوائية السخيفة التي تخطر في بالك كل يوم، عندها سيدو الرقم منطقياً.

إذ تتطلَّب كل من هذه الذكريات سلسلةً معقدةً من المشابك العصبية الدماغية التي تُطلق النبضات الكهربائية بالترتيب الصحيح لإنشاء صورة يمكنك تذكرها لاحقاً، وتتحكَّم البروتينات وهي اللبنات الأساسية للحياة بهذه المشابك العصبية.

إنَّ الدماغ هو أكثر أعضاء الجسم خضوعاً للدراسة، ولكنَّه أقل عضو نفهمه، فعلى الرَّغم من كثرة البحوث المكثَّفة، ما زلنا لا نعرف بالضبط من أين تأتي الذكريات، ولكنَّنا نعرف على وجه اليقين أنَّها ليست معقدة فقط؛ وإنَّما هشة أيضاً، وإليك مثالاً على ذلك:

هنالك مقهى في الشارع أسفل منزلي أذهب إليه كلما احتجت إلى استراحةٍ من العمل؛ إذ أزوره ثلاث إلى أربع مراتٍ في الأسبوع، فيمكن القول إنَّني زبونٌ دائم، لكن هنالك من هو دائمٌ أكثر مني، فهذا الشرف من نصيب جارتي "آنا" (Anna)، السيدة المصابة بأضرار طفيفة في الدماغ والتي تزور المقهى كل يوم تقريباً، أعرف "آنا" لأنَّ إصابتها جعلتها تقدِّم نفسها للآخرين بطرائق غريبة، كما أنَّها لا تتذكَّرني دائماً.

في الأيام التي لا أستطيع فيها تجاهلها، أحاول معرفة المزيد عن ماضيها وعن الشخص الذي كانت عليه قبل أن تصبح كثيرة النسيان؛ إذ إنَّها تجد صعوبة في تذكُّر الأشياء الآن، ولا يمكنها أن تتذكَّر الحادث الذي تعرَّضت له على الإطلاق، ولكنَّها تستطيع أن تتذكَّر بوضوح طفولتها ونشأتها، وكما يمكنك أن تتخيَّل لقد سمعت القصة مرات عدة.

لقد تعرَّضت "آنا" لحادث سير أليم عندما كانت طالبة في السنة الثانية بالمدرسة الثانوية، ولقد تخرَّجت أيضاً في ذات العام؛ إذ إنَّ ذلك غير منطقي على الإطلاق، ولقد أصريت عليها في ذلك، لكن بالنسبة لـ"آنا" لا يوجد عيب في قصتها، وهكذا تسير الأمور، فقد يوجد حقيقتان غير منطقيتان ومتضادتان تماماً دون أي مشكلة.

إنَّ ذاكرة "آنا" هشةٌ جداً، تماماً مثل ذواكرنا، ونتيجةً لإصابة مأساوية، فقدت إدراكها لجزء هام من تاريخها، فعلى الأقل هذا ما يبدو لي وللآخرين من حولها، لكن بالنسبة إليها لا يوجد أي تضارب.

في عام 2009، التقط العلماء لأول مرة صورةً فعليةً للذكرى في أثناء تكونها، لقد كان يوماً تاريخياً وإنجازاً كبيراً لعلوم الدماغ، لكن على الرَّغم من كل المعرفة التي تجلبها هذه الصورة عن كيفية تكويننا للذكريات، فإنَّها تترك لنا استنتاجات مقلقة عن كيفية تذكرنا لها.

وفي عام 1999، أراد البروفيسور في علم النفس "كريم نادر" (Karim Nader) معرفة ما إذا كانت البروتينات المسؤولة عن تذكُّر الذكريات هي نفسها من كوَّنت هذه الذكريات في المقام الأول؛ بمعنى آخر هل تحدث نفس العمليات في دماغنا عندما نتذكَّر ذكرى ما تماماً كما حدثت عندما شكَّلناها أول مرة؟

لقد درَّب البروفيسور فئران المختبر على الخوف من نغمة عالية من خلال تطبيق صدمة كهربائية خفيفة عليهم بعد سماعها مباشرةً، وبعد فترةٍ قصيرة من التكيُّف، أصبحت الفئران مرهقة جداً وخائفة من النغمة حتى دون تطبيق أي صدمة كهربائية، ثمَّ حقن الفئران بدواء يمنع تكوين بروتينات جديدة في الدماغ، فإذا بقيت الفئران خائفةً بعد سماع النغمة، فهذا يشير إلى أنَّ الذكريات تتشكَّل مرة واحدة فقط وتترسَّخ.

لكنَّ النتائج كانت مخالفةً للتوقعات، فبعد تلقي الدواء عادت الفئران إلى حالتها الطبيعية ولم تعد تُظهر أي خوف من النغمة، فالآثار المترتبة هنا هائلة، لأنَّها تشير إلى أنَّ الذكريات لا تُستدعى من نفس البروتينات التي كوَّنتها؛ إذ يُعاد بناؤها جزئياً على الأقل من قبل بروتينات جديدة في كل مرة نتذكَّرها فيها.

يعني ذلك أنَّ الذاكرة قد تتغيَّر حرفياً مع مرور الوقت، والصدمة الحقيقة هي أنَّ مجرد تذكُّرها قد يكون هو السبب في تشوُّه الذاكرة وتغيُّرها، فكلما تذكرتَ شيئاً ما، تغيَّرت الذاكرة وابتعدت عن الحقيقة الموضوعية، وقد تُغير تاريخك حرفياً في كل مرة تفكِّر فيه.

إقرأ أيضاً: 10 طرق لتحسين وتقوية الذاكرة وتجنب فقدانها

هل حدث بالفعل بهذه الطريقة؟

لا توجد طريقة للتنبُّؤ بما ستتذكَّره بالضبط، فعندما حاول العلماء إجراء تجربة على مجموعة من الأشخاص من خلال تعريضهم لبعض الأحداث الجديدة المماثلة في محاولة لاكتشاف نمط ذاكرة معيَّن، لم يكن هناك أي ارتباط على الإطلاق بين الذكريات التي تذكَّروها، بل كان كل شخص في التجربة فريداً.

فالفرضية الوحيدة التي يمكن استخلاصها من هذه النتائج هي أنَّ المجموعة الفريدة من التجارب السابقة لكل شخص مهما كانت متحيِّزة، تؤثر بشدة في الأشياء التي سوف يتذكَّرها في المستقبل.

إذا كان ذلك صحيحاً، فمن المحتمل جداً أن تكون ذكرياتك متحيِّزة، وأنَّها مبنيةٌ على تجاربك وتوقعاتك السابقة، فقد تتذكَّر فقط ما تريده تذكُّراً لا شعورياً، سواء كان صحيحاً أم لا.

إقرأ أيضاً: أساليب وطرق تقوية وإنعاش الذاكرة الضعيفة

كيف تُحسِّن تذكُّرك؟

إنَّ الذكريات التي تُكوِّنها عن أحداث حياتك مشكوكٌ فيها ومعرَّضةٌ بشدَّة للتحريف، ولا توجد طريقة للتنبُّؤ بانتظام بما ستتذكَّره بالفعل؛ إذ إنَّها نظرةٌ قاتمة، لكنَّ الأمل ما زال موجوداً، فعلى الرَّغم من عدم موثوقيتها، هناك طريقة واحدة يمكنك من خلالها التحكُّم بعقلك بدقة وحذر، وهي الذاكرة المتعمدة.

فعندما تبدأ في تعلُّم شيء ما، ثمَّ تتعلَّمه وتتذكَّره، فإنَّك تُنشِئ ما يُسمَّى بالذاكرة المتعمدة؛ إذ تعتمد المدارس والبرامج التعليمية في جميع أنحاء العالم على الذاكرة المتعمدة لتعليم المهارات التي نحتاجها لبناء مجتمعنا البشري، لكنَّهم يقومون بذلك بطريقة سيئة جداً.

إذا أردت دليلاً على ذلك، فحاول فقط أن تتذكَّر أي شيء هام تعلَّمته عن قصد في فصل المدرسة الذي لم تحبه، فقد تتذكَّر المفاهيم العامة، لكن من المُحتمل أنَّك لن تتذكَّر أي معلومات مفيدة؛ فما تفشل معظم المدارس في تنفيذه هو إنشاء نظام جيد للتذكُّر، لكن حيثما فشلوا، يمكنك أن تنجح.

المعلومات المفيدة التي تتعلَّمها وتتذكَّرها، والأهم من ذلك كم من الوقت تتذكَّرها، تحكمها ظاهرة علمية تُسمَّى "منحنى النسيان" (forgetting curve)؛ إذ إنَّها معادلةٌ اكتشفها عالم النفس الألماني "هيرمان إبينغهاوس" (Hermann Ebbinghaus) في أواخر القرن التاسع عشر من خلال سلسلة من الدراسات الذاتية الشاملة.

ومع أنَّك لا تدرك ذلك الآن، فهناك رسمٌ بياني يشرح بدقةٍ تامَّة المدة التي ستتذكَّر فيها المعلومات التي تدرسها؛ إذ يتحكَّم منحنى النسيان بذاكرتك تحكُّماً قاسياً بعض الشيء؛ فأكثر من 50% من المعلومات التي تتعلَّمها في أي وقت تختفي في أقل من 20 دقيقة، وتختفي 80% منها بعد 24 إلى 48 ساعة فقط.

لكنَّ هذا المنحنى ليس خالياً من الثغرات، فعندما اكتشف "إبينغهاوس" المنحنى، اكتشف أيضاً طريقة للتغلُّب عليه من خلال توقيت التذكيرات التي يحتاجها عقلك بأسلوب مثالي لكي يحتفظ بالمعلومات التي سينساها.

لذا إذا كنت تريد أن تتذكَّر كل شيء تعلَّمته، فكل ما عليك فعله هو أن تتذكَّر كل معلومةٍ في الوقت المناسب، فتعلُّم شيء تعرفه مسبقاً أسهل بكثير من تعلُّم شيء جديد، كتذكُّر كيفية ركوب الدراجة؛ إذ تكمن المشكلة في أنَّ الحياة الحديثة تجلب معها الكثير من المسؤوليات والتعقيدات؛ لذا من غير العملي محاولة توقيت هذه التذكريات جميعاً توقيتاً مثالياً حتى لو كنت تعرف متى يجب أن تحدث بدقة.

إنَّ العالم الحديث مليءٌ أيضاً بوسائل الراحة الحديثة، فلم تعد مضطراً إلى البحث عميقاً للعثور على أدوات مجانية أو غير مكلفة لتحسين الذاكرة، فبحث سريع في "غوغل" يعرض حوالي 134 مليون نتيجة، ربما يأتي الخيار الأفضل من "بيوتر فوزنياك" (Piotr Wozniak)، العبقري البولندي الذي كرَّس حياته لدراسات الاحتفاظ بالذكريات.

"فوزنياك" هو سيد الذاكرة، ويُطلق على تطبيقه اسم "سوبر ميمو" (Super Memo)، وهو متاح عبر الإنترنت مجاناً باستخدام التذكيرات الموقوتة، يستخدم التطبيق تأثير التباعد لتقديم المعلومات التي تحتاج إلى تذكُّرها في اللحظة المثالية بالضبط، أي بالطبع قبل نسيانها مباشرةً، ولقد تعرَّض لانتقادات كثيرة بسبب أسعار كورساته، ولكنَّني لم أقرأ حتى الآن شكوى واحدة عن مقدار نجاحها، وهو أمرٌ يعترف به حتى أشد المعترضين على عمله.

في الوقت الحالي، أنا أستخدم إحدى الدورات التدريبية المجانية في التطبيق لحفظ عواصم جميع دول العالم، وهو شيءٌ تعلَّمته منذ سنوات، ولكن مثل معظم الناس لم أستطع تذكُّره طويلاً.

يمكن أن تساعدنا التطبيقات البرمجية في تذكُّر المعلومات التي نتعلَّمها عن قصد، لكن ماذا عن بقية حياتنا؟ ماذا عن كل التجارب الرائعة والرهيبة والمعتادة التي نمرُّ بها عن طريق الصدفة والتي تتشوه أكثر فأكثر مع مرور كل يوم؟

باستثناء تصوير حياتك كلها بالفيديو، لا يمكنك القيام بشيءٍ حيال الأمر، وربما لا ينبغي أن تقوم بشيء، ففي نهاية الأمر هذه التشوُّهات في الذاكرة هي التي تسمح لنا بالنظر إلى الماضي بشيءٍ من الحنين في أوقات الشدة، أو انتقاد القرارات السيئة التي بدت مناسبةً في وقتها؛ إذ إنَّ ذكرياتنا المشوَّهة هي مصدر حنيننا.

شاهد بالفديو: 7 نشاطات عليك أن تُمارسها لتتمتع بذاكرة خارقة

في الختام:

في الفترة الأخيرة، كنت أحتفظ بمذكَّرةٍ يومية، وبدلاً من التركيز على قصة اليوم أو ما شعرت به خلاله، كنت أسجِّل فقط الحقائق القاسية والمزعجة، تماماً مثل رجل الشرطة الذي يدوِّن الملاحظات في مسرح الجريمة، فلم يكن ذلك ممتعاً، بل كان محرجاً أحياناً، لكن ربما سيساعدني يوماً ما على تذكُّر حياتي كما حدثت بالفعل، وبالطبع، لا يوجد دليل على أنَّني سأتذكرها كذلك.

المصدر




مقالات مرتبطة