تأثير الشعور بالوحدة

لقد ظلَّ معظمنا تحت مستوى معيَّن من الإغلاق لفترة طويلة من العام، وهذا أدى إلى انخفاض كبير في نشاطاتنا الاجتماعية. تهدف هذه التدابير التقييدية إلى الحد من انتشار مرض مميت، ولكن هل يمكن أن يؤدي إلى نشوء مشكلة أخرى؟



تبدو الوحدة، مقارنةً بالجائحة المُعدية، كأنَّها مصدر إزعاج أكثر من كونها مصدر قلقٍ مشروع. لكن وجدت الأبحاث أنَّ الشعور بالوحدة يمكن أن يكون صعباً على كل من العقل والجسم. بالإضافة إلى القلق والاكتئاب اللذين يميزان عادةً العزلة الاجتماعية للوحدة، وجدت الدراسات أنَّ الوحدة تشكِّل أيضاً خطراً أكبر للإصابة بأمراض القلب، وارتفاع ضغط الدم، والسكتة الدماغية، والبدانة، وضعف جهاز المناعة، والأمراض التنكسية العصبية مثل مرض "الزهايمر" (Alzheimer).

غالباً ما يُسلَّط الضوء على الشباب بين أولئك الذين تؤثر الوحدة فيهم أكثر خلال هذه الجائحة. أكَّد مدير "مركز السيطرة على الأمراض" (CDC Center for Disease Control) "روبرت ريدفيلد" (Robert Redfield) في شهر تموز/ يوليو أنَّ حالات الانتحار والجرعات الزائدة من المخدرات قد تجاوزت معدل الوفيات تجاوزاً كبيراً؛ ذلك بسبب جائحة "كوفيد-19" (COVID-19) بين طلاب المدارس الثانوية.

وقد شهدت الاختصاصية النفسية السريرية المعتمدة الدكتورة "جودي ديلوكا" (Jodi DeLuca) معاناة العديد من المراهقين من القيود بسبب الإغلاق. قالت: "هذا لأنَّ هذا العمر يتعلق بالاختلاط والتفاعل الاجتماعي مع الآخرين. إنَّهم مكتئبون للغاية".

كان الأشخاص الذين تزيد أعمارهم عن 50 عاماً من بين الأشخاص الأكثر تضرراً من الوحدة، قبل الجائحة. عادةً ما تأتي التغييرات الكبيرة في دائرتك الاجتماعية مع تقدُّم العمر، مثل التقاعد، أو مغادرة الأبناء لمنزل الوالدين، أو وفاة الزوج. وغالباً ما تعني قيود "كوفيد-19" (COVID-19) مزيداً من العزلة لهذه الفئة العمرية.

ولكن ليس فقط المراهقين وكبار السن هم مَن يتأثرون بالوحدة. ترى "ديلوكا" أنَّ الوحدة هي العاطفة التي يمكن أن تصيب أي واحد منا. وعندما نتعرض لها، يمكن أن تكون مدمِّرة.

تقول "ديلوكا": "إنَّه شعور ساحق للغاية؛ لأنَّه يتعارض مع ما نحن عليه بصفتنا بشراً، فهو يتركنا بحالة صراع من أجل البقاء على قيد الحياة؛ أي الكر أو الفر. يُظهر البحث أنَّ ما تمر به أجسادنا نفسياً وجسدياً وعاطفياً عندما نشعر بالوحدة هو نفسه عندما يكون هناك تهديد محسوس".

شروط الوحدة:

الناس كائنات اجتماعية بطبعها. تؤكد "ديلوكا" أنَّه عندما نسعى إلى الوحدة، يكون ذلك وفقاً لشروطنا الخاصة. مع ذلك، فإنَّ الوحدة لا تحدث باختيارنا، وتختلف ظروفها من شخص لآخر، على سبيل المثال: يمكن أن تكون في غرفة مليئة بالناس ولكنَّك ما تزال تشعر بالعزلة الشديدة، وقد تجد نفسك أيضاً وحدك تماماً ولكنَّك لا تشعر بالوحدة.

يرى عالم النفس السريري المعتمد الدكتور "بروس إل ثيسين" (Bruce L. Thiessen) أنَّ إحدى أكبر المفاجآت التي شهدها في أثناء الإغلاق هو عدد المرضى الذين أبلغوا عن تحسن ملحوظ في صحتهم العقلية، وهذه الظاهرة ترتبط مباشرة بقواعد العزل الخاصة بـ "كوفيد-19" (COVID-19).

يقول "ثيسين": "كان هؤلاء عموماً مرضى انطوائيين، يعانون من القلق والرهاب الاجتماعي والذعر. لقد كانوا وحيدين قبل الجائحة؛ لكنَّ الغريب أنَّهم يشعرون بالوحدة أقل الآن. عزا معظم هؤلاء الأفراد تحسنهم إلى الإحساس بأنَّ ميلهم إلى العزلة الذاتية أصبح أمراً طبيعياً بسبب الحجر الصحي، وشدَّد آخرون على الشعور بأنَّهم لم يعودوا يشعرون بالوحدة بسبب القلق والذعر".

هذا يبين كيف يمكن أن تظهر الوحدة بأشكال مختلفة. تؤكد المعالِجة المعتمَدة "إيرين كانتور" (Erin Cantor) أنَّ الوحدة تتجاوز الانطوائيين والمنفتحين. وأنَّ جذور الوحدة هي الشعور بأنَّك لا تنتمي وتفتقر إلى تواصل حقيقي ذي مغزى. وهذه مشكلة موجودة منذ فترة طويلة قبل الجائحة.

تقول: "قد يكون هناك الكثير من الأصدقاء، لكن لا وجود لأصدقاء مقربين. عندما يحدث هذا لفترة طويلة من الزمن، تبدأ الوحدة المزمنة، هذا يؤدي إلى الضرر العاطفي والعقلي والجسدي الحقيقي".

ربما نشعر جميعاً بالوحدة في مرحلة ما من حياتنا؛ لكنَّها عادة ما تكون مؤقتة، وعندما نحصل على بعض التواصل والارتباط، تتلاشى الوحدة، ونشعر بالراحة مرة أخرى.

لكنَّ "كانتور" توضِّح أنَّ الأشخاص الذين يفشلون في العثور على صلات ذات مغزى لفترة طويلة من الزمن، يمكن أن يستسلموا لحالة من الإحباط؛ هذا يؤدي إلى عزل أنفسهم أكثر. يتوقفون عن الوثوق بالجميع، ويعانون من خزي عميق لعدم قدرتهم على التواصل.

تقول "كانتون": "التأثير الأكثر تدميراً للوحدة الشديدة والمزمنة هو أنَّ الشخص يتوقف عن الشعور وينغلق تماماً على نفسه، بالمعنى الحرفي للكلمة. قد يكون الأمر تدريجياً، وأكثر هدوءاً، وأقل وضوحاً للآخرين؛ ولكنَّه يحدث في كل مكان من حولنا، خاصة في أثناء جائحة "كوفيد" (COVID).

هناك حقاً جائحة مزدوجة من الشعور بالوحدة و"كوفيد-19" (COVID-19)، وستكون آثار الصحة العقلية طويلة الأمد الناجمة عن تباعدنا الاجتماعي وعزلتنا مدمرة للغاية".

إقرأ أيضاً: العزلة الاجتماعية: أنواعها، وأسبابها، وأعراضها، وطرق علاجها

ألم الإنفصال:

تُسبب الوحدة أحياناً الشعور بالألم. وقد أكدت البحوث ذلك، هذا يدل على وجود صلة بين العزلة والألم. وجدت دراسة أجرتها "جامعة كاليفورنيا في لوس أنجلوس" (UCLA) أنَّ المسارات العصبية في دماغنا، التي تنشط عندما نتعرض لخطر إصابة جسدية أو مرض هي المسارات نفسها التي تنشط عندما نشعر بالبعد الاجتماعي.

تؤكد كاتبة الصحة، "ميلاني موسون" (Melanie Musson)، أنَّها شعرت بـ "لسعة العزلة"؛ ذلك لأنَّها كانت تعيش الشهرين الأخيرين من حملها. كان ذلك خلال فترة إغلاق دولتها المفروض. وضَّحت أنَّ جسدها يتوق جسدياً للتواصل البشري. لحسن الحظ، جاء الأصدقاء لإنقاذها.

تقول "موسون": "قبل ولادة طفلي بقليل، طرَقَ اثنان من أصدقائي الباب. لم أتفاعل شخصياً مع أي شخص لأكثر من شهر. لم أكن أعرف حتى كيف أتعامل مع طرْق الباب. عندما أدركت أنَّهم كانوا أصدقائي وأنَّهم أحضروا لي الحلوى، سألت إذا كان في إمكاني أن أعانقهم؛ إذ لم أتعامل مع أي شخص خارج عائلتي المباشرة منذ أسابيع. أنا لا أحب العناق؛ لكنَّني كنت أحتاج إلى لمسة إنسانية".

يُسمح لنا فقط، في ظل استمرار الأوامر التقييدية، بمواجهة الآخرين من وراء القناع وعلى مسافة ستة أقدام على الأقل؛ أي ما يعادل المترين. ومن المعروف أنَّ مثل هذه الظروف تجعل التواصل الذي نتوق إليه أكثر صعوبة.

تقول "موسون": "لطالما أحببت تسوق البقالة. إنَّها مهمتي المفضلة، ولكن الآن أخاف القيام بذلك. الناس ليسوا ودودين. يختبئ الناس خلف أقنعتهم؛ لذا من الصعب حتى تبادُل بعض الآراء مع المتسوقين الآخرين. أشعر كأنَّني أتسوق مع مجموعة من الروبوتات".

وبينما ما يزال هناك جدل عمَّا إذا كانت الأقنعة تبطئ انتشار الفيروس، فمن الواضح أنَّ ارتداءها يمحو بعضاً من أكثر ميزاتنا تعبيراً. ربما أصبحنا أكثر اعتياداً على الأقنعة مع ازدياد انتشار الجائحة؛ لكنَّنا نشعر بتحسن عندما نلتقي بوجه مبتسم، حتى لو اضطررنا إلى الحصول على هذا التفاعل من خلال شاشة.

قدَّم عالِم النفس الاجتماعي "ج. دبليو. فرايبرغ" (J.W. Freiberg)، وهو مؤلف لثلاثة كتب عن الوحدة المزمنة، في مقال نُشِرَ في شهر تموز/ يوليو نصائح عدة لكبار السن الذين يعانون من العزلة ويكافحون للتعامل مع القيود الوبائية.

أحد اقتراحاته هو تحويل المكالمات الهاتفية إلى مكالمات مرئية أكثر، مثل تطبيقات "فيس تايم" (FaceTime) أو "زووم" (Zoom). يؤكد "فرايبرغ" أنَّها تساعد المتعطشين اجتماعياً على تذوق شيء يسميه علماء النفس "الانعكاس".

الانعكاس سمة يتشاركها البشر مع العديد من الحيوانات. يسمح لنا بقراءة الفروق الدقيقة في المشاعر ونوايا أولئك الذين نتفاعل معهم. بالطبع، ما يزال في إمكاننا نقل الرسائل دونها، ولكن غالباً ما تُفقَد بعض التفاصيل الأكثر إفادة وجاذبية للتبادلات الاجتماعية لدينا في الترجمة.

يقول "فرايبرغ": "فكر عندما تفاجئ حيواناً وحشياً؛ كيف يظل ساكناً تماماً، ويحدق فيك، ويركز على لغة جسدك، ويحاول بيأس تحديد ما إذا كنت مفترساً نشطاً.

نحن البشر، بالطبع، نحسِّن هذه العملية تحسيناً كبيراً، ونبحث عن الإحساس بالتفاصيل الدقيقة للحالة العاطفية الداخلية للطرف الآخر. ينشغل الأطفال الصغار بصقل مهارات الانعكاس الهامة هذه، ومن الهام بالنسبة إليهم أن يروا ابتسامتك المحبة والبهجة الواضحة عندما يصفون لك نشاطاتهم ومشاعرهم".

إقرأ أيضاً: ماذا ستفعل إن كنت وحيداً بلا أصدقاء؟

التأقلم مع الوحدة:

تدعم أيضاً الدكتورة "ديلوكا" (DeLuca) المنصات الافتراضية للتخفيف من آلام الوحدة، لكنَّها تعترف بأنَّ هذه المنصات بديل ضعيف. ما نحتاجه حقاً ونزدهر به هو تواصل شخصي مباشر. وقد يؤثر عدم وجود هذا التفاعل البشري الحيوي فينا تأثيراً أعمق مما نتخيل.

تقول "ديلوكا": "يعتقد بعض الأشخاص أنَّهم قادرون على التكيف مع الوحدة، لكنَّهم لا ينامون، وهم يعالجون أنفسهم وحدهم".

عندما لا يتوفر أناس حقيقيون، يلجأ الناس غالباً إلى الحيوانات. أفاد المربون والمنقذون والملاجئ ومتاجر الحيوانات الأليفة جميعاً أنَّ تبنِّي الحيوانات الأليفة قد ارتفع ارتفاعاً كبيراً خلال الجائحة. تؤكد "ديلوكا" أنَّ رعاية كائن حي آخر، حتى لو كان مجرد نبات أو سمكة، يمكن أن يُحدِث فارقاً كبيراً في صحتنا العقلية. قالت: "علينا أن نشعر أنَّ لدينا سبباً لوجودنا".

يلجأ بعض الأشخاص إلى مشاهدة التلفاز عندما يكونون وحدهم، إما للتخفيف من الملل، أو لمجرد الحصول على بعض الأصوات الطنانة في الخلفية لإعطاء وهم الصحبة.

شاهد بالفديو: كيف تتخلص من الشعور بالوحدة؟

يمكن أن يصبح التلفاز رفيقاً موثوقاً، خاصةً عندما لا يُسمَح بالذهاب إلى مكان ولا مقابلة أحد؛ لكنَّ "ديلوكا" تحذَّر من أنَّ بعض وسائل الإعلام يمكن أن تزيد من حدة الشعور بالوحدة لدينا؛ ذلك لأنَّها تثير هرمونات التوتر لدينا بالفعل. وتؤكد أنَّ الأخبار على وجه الخصوص يمكن أن تؤدي إلى استجابة الكر أو الفر، ويمكن أن تكون ضارة خاصة إذا شاهدناها قبل النوم مباشرة.

تقول "ديلوكا": "نعتقد أنَّ التلفاز يبقينا على علم بما يجري بالفعل، ولكن لدينا أيضاً هذا المفهوم المتكرر اللاشعوري للموت والعنف والظلم الاجتماعي وما إلى ذلك. الكثير مما نحلم به يمكن أن يكون آخر شيء تحدثنا عنه، أو شاهدناه على التلفاز، أو قرأناه، أو أي شيء آخر؛ لذا من الهام جداً أن يكون لدينا وعي ذاتي وأن نكون على علم بشأن المعلومات التي تُعالَج في أدمغتنا.

تقول "كانتور": "إنَّ مراقبة أفكارنا يمكن أن تقطع شوطاً طويلاً في تقليل تأثير الوحدة. وتقول إنَّه في الوقت الذي تُضخَّم فيه مخاوفنا ويأسنا من خلال العزلة الناجمة عن الإغلاق، يمكن أن تساعد كثيراً المعلومات التي تُعالَج في الدماغ على أن تصبح أكثر وعياً بمشاعرك".

بدلاً من أن تنغلق على نفسك بدافع الخوف، تواصَل وابحث عن فرص لتعزيز العلاقات الجديدة.

تقول "كانتور": "إنَّ البحث عن الخير في أنفسنا والآخرين، خاصة في هذا الوقت الذي يسود فيه التباعد الاجتماعي وعدم الاستقرار السياسي والاقتصادي، هو طريقة أخرى سهلة ولكنَّها عميقة يمكننا التعامل معها. ما يزال هناك الكثير من الأشياء الجيدة في العالم؛ سواء في وجوه أطفالنا أم حيواناتنا الأليفة أم جيراننا. من الهام التمسك بهذه الخيارات وإبقائها نصب أعيننا وتركيزنا".

المصدر




مقالات مرتبطة