الوعي الذاتي بين النعمة والنقمة

من الممكن أن نعرِّف مصطلح الوعي الذاتي من خلال فكرتين رئيستين؛ الأولى هي معرفة الفرد بمشاعره وسلوكاته وأفكاره، والثانية هي مقدرته على أن يراجع تصرفاته وأفكاره. ويمكن أن نقول إنَّ الوعي الذاتي هو جوهر الفرد؛ فهو الذي يجعل منه ذاتاً لها كينونتها وحدودها الشخصية، تستطيع رسم علاقاتها أو ارتباطاتها مع العالم الخارجي من جهة، ومع مكوناتها الذاتية من جهة أخرى، يقول "ديكارت" إنَّ معظم هذه الارتباطات والعلاقات هي التي تشكل الفكر، ويسميها "هيغل" بالروح.



الوعي الذاتي هو وعاء الفكر:

وضع "ديكارت" في القرن السابع عشر تعريفاً دقيقاً لمصطلح الوعي الذاتي؛ إذ حاول البحث عن حقائق من شأنها أن تنفي الشك، وقد خلص إلى نتيجة نهائية هي أنَّ الشك الدائم في اليقينيات أو المسلمات، لا يرقى إليه أي نوع من الشك، وأطلق حينها مقولته الشهيرة: "أنا أفكر إذاً أنا موجود".

شكَّلت هذه المقولة التي تتبنى الحقيقة، أساس الفلسفة؛ إذ إنَّها تعرِّف الروح على أنَّها مكون أصلي في الذات، مستقلة عن الجسد وحدوده، فهي قد عرفت الإنسان على أنَّه كينونة تميزها عملية التفكير. هذه المعرفة الموجودة لدى الإنسان على أنَّه كائن مفكر، هي ما يطلق عليه "ديكارت" اسم الوعي، وهو وعي ذاتي بطبيعة الحال.

هل وجود الوعي الذاتي عند الإنسان نعمة أم نقمة؟

ينظر الناس عموماً إلى مفهوم الوعي الذاتي على أنَّه سمة مفيدة أو ميزة إيجابية يتمتع بها أحد الأشخاص؛ إذ إنَّه على سبيل المثال يساعدك عندما تُجري حواراً سهلاً مع شخص ما في وقت قصير من حضور حفلة زفاف صديقك، ويجعلك تعرف النقطة التي يصبح فيها حديثك مملاً، أو في حال كنت تتكلم بصوت عالٍ لدرجة الإزعاج.

في نهاية الأمر يَعُدُّ بعض الأشخاص أنَّ الانطباع الذي نتركه لدى الناس، لا يهمنا بقدر ما يهمهم.

وأجرى الباحثون في علم النفس في "جامعة تورنتو" دراستين، وطلبوا من المتطوعين إجراء حوار واحد سهل وقصير مع شخص لا يعرفونه، وإجراء لقاءات أو حوارات متعددة مع شخص يعرفونه مسبقاً من خلال حياتهم اليومية، فكان المتطوعون الذين يعرفون كيف يتركون انطباعاً جيداً عند الآخرين، أكثر سعادة في هذه اللقاءات، مقارنة مع الأشخاص الذين لديهم درجة عالية من الوعي الذاتي؛ إذ قل إعجابهم أو حماستهم في اللقاء حين شعروا أنَّهم لم يُوفَّقوا في ترك انطباع جيد.

يتوافق هذا مع دراسات سابقة أجراها الباحثون تشير إلى أنَّ الإنسان يفضِّل أن يتقمص الصورة المثالية من ذاته، ومن جهة أخرى يكون شعوره بأنَّ الناس يراقبون عيوبه أمراً يدفعه إلى النفور من الحديث أو اللقاء.

ينظر علماء النفس إلى معرفة الصورة التي يرانا بها الناس، وطريقة تفاعلنا أو انسجامنا معها على أنَّها سلاح ذو حدين؛ إذ إنَّ معرفة كيفية رؤية الآخرين لنا ليست أمراً مفيداً في جميع الحالات؛ بل إنَّ الوعي الذاتي يحمل فوائد أكبر للآخرين؛ وذلك لأنَّه يجبرنا على تعديل كلامنا أو تصرفاتنا أو سلوكاتنا بناء على نفور أو إعجاب الناس بنا، أكثر من فوائده الذاتية لنا، لكنَّه في الحقيقة ليس بالضرورة أن يكون عاملاً مساعداً على الانخراط أكثر في العلاقات الاجتماعية.

ميزات إيجابية للوعي الذاتي:

كما هو الحال مع أي شيء في الحياة، لا بد من وجود ميزات إيجابية للوعي الذاتي؛ إذ إنَّه أكثر ما يكون في العلاقات العاطفية ذات الأمد القصير، وقد أُجري استبيان يخص الشركاء في العلاقات العاطفية بين مجموعتين، الأولى مضى على العلاقة سنتان، والثانية عقدان.

وجد الاستبيان أنَّ مَن يمضون سنتين لم يكونوا على رضى جيد بالعلاقة، في حال كان الشريك يملك درجة عالية من الوعي الذاتي، على عكس الشركاء في العلاقات التي مر عليها عقدان أو أكثر، فيكونون راضين عن شركائهم الذين يتمتعون بدرجة عالية من الوعي الذاتي.

وهذا ما يدفعنا إلى استنتاج أنَّ أصحاب الوعي الذاتي المرتفع هم أشخاص لا ينخرطون بسرعة في العلاقات مع الآخرين، ولا يبنون علاقاتهم بسرعة؛ ومن ثَمَّ ليست لديهم هذه الشبكة الكبيرة من العلاقات الاجتماعية، ولكن في بدايتهم في علاقة ما، فإنَّها تستمر وقتاً أطول.

لذا فإنَّ مواعدة شخص لديه درجة عالية من الوعي الذاتي ليست بالأمر السلس على الأمد القصير، ولكن على الأمد البعيد قد تستمر العلاقة فترة أطول؛ إذ إنَّ أي شريكين يخوضان بداية العلاقة، ينظرون إلى الحياة نظرة إيجابية مبالغاً بها، ولكنَّ هذه الأمور مع مرور الوقت لا تبقى على ما هي عليه؛ بل يحتاج الشخصان إلى أن يشعرا بالتقدير لما هما عليه في الحقيقة والواقع.

إقرأ أيضاً: 5 نصائح مهمة لتكون صادقاً ومتسامحاً مع نفسك

كيف تطوّر وعيك الذاتي؟

1. القراءة:

تُعَدُّ القراءة من أكثر المهارات التي تعود بالنفع والفائدة في مختلف المجالات؛ وذلك بسبب فاعليتها الكبيرة في إحداث فارق كبير في حياة الإنسان وتفكيره وسلوكه؛ فهي تساعده على إدراك التفاصيل، والبحث عن خفايا الأمور وما يقف خلفها في الواقع.

تُعَدُّ القراءة بمنزلة فترة يستريح فيها الإنسان من ضجيج العالم الخارجي من حوله، وتعزز القدرة على الفهم العميق للقضايا، وتوسِّع المدارك الذاتية، وتجعل الإنسان أكثر انفتاحاً على الأمور الجديدة ووجهات النظر والأفكار الحديثة؛ وهذا يسهم في تطوير الشخصية والقدرات.

إنَّ القراءة عملية طويلة تستغرق فوائدها فترة طويلة حتى تظهر، ولكن ستصبح شخصاً آخر قادراً على التعامل مع المواقف وتحليلها؛ لذا لا تؤجل البدء بها، ولو كان نصف ساعة في الأسبوع.

2. كتابة الأفكار والخواطر:

كما ذكرنا في بداية المقال إنَّ الوعي الذاتي يُكتَسب من خلال فهمنا الدوافع والرغبات التي تنتابنا، وتحليلها من أجل التعامل معها تعاملاً مناسباً، واستثمارها في خدمتنا، ومن الهام أن تتعرَّف مشاعرك في البداية، وتعمل على تخفيف آثارها السلبية دون أن تحاول تجاهلها أو كبتها أو التقليل من أهميتها، ويمكنك ذلك من خلال كتابة ما تشعر به في أعماقك؛ إذ إنَّ كتابة ما تشعر به على الورق أمامك سيساعدك على الاسترخاء وتعرُّف حقيقة الأمور التي تؤرقك كما هي؛ وذلك لعزل مشاعرك المضطربة عنها.

3. التصالح مع مواطن الضعف لديك:

يوجد بطبيعة الحال في كل إنسان نواقص أو لنقُل جوانب لا يريد لأحد أن يراها؛ وذلك لأنَّها لا تدعو للفخر، ولكنَّ هذا لا يجب أن يدفعه إلى عدِّ هذه النقاط السلبية هي جوهر الحياة، ولا يجب أن يسمح لها بأن تقلل من تقديره الذاتي، وبإغفاله عن مواطن القوة لديه.

من الهام جداً أن يبتعد الإنسان ابتعاداً كاملاً عن توبيخ نفسه بسببها؛ بل يجب عليه أن يتقبَّلها ويعدَّها جزءاً لا يتجزأ من الطبيعية البشرية، ويمكن أن يعمل على تعديلها أو إصلاحها بدل التركيز عليها تركيزاً سلبياً وضاراً.

4. الابتعاد عن إلقاء اللوم على الآخر:

يجب على الفرد أن يبتعد عن توجيه الاتهامات واللوم إلى الآخرين، أو إزاحة المسؤولية عن ذاته؛ إذ يوجد أشخاص عندما يشعرون بتوجيه اللوم إليهم أو الوقوع في خطأ ما، يهرعون إلى الاتهام العشوائي للآخرين.

5. معرفة كيف ينظر الآخرون إليك:

إنَّ أهم الأمور التي تحسِّن درجة الوعي الذاتي لديك، أن تسأل المقربين منك أو الأشخاص الذين تثق بهم عن صورتك الخارجية، وسلوكك وتقييمهم لك تقييماً عاماً، كما يجب مراعاة الود عند الإجابة عن هذا السؤال. طبعاً هذا لا يعني أن يكون تقييم الآخرين هو المقياس الذي تقيِّم من خلاله ذاتك، ولكن لا بأس بأن تستفيد من نظرة أصدقائك لك ونصائحهم؛ فهذا يساعدك على فهم شخصيتك فهماً أعمق.

إقرأ أيضاً: إطلاق العنان لقوة الوعي الذاتي

ما هي طبقات الوعي الذاتي؟

شبَّه علماء النفس الوعي الذاتي بالبصلة من حيث الطبقات التي تتدرج من المحيط إلى المركز، وكما تسيل دموعنا عندما نقطِّع البصل فإنَّ كل طبقة من هذه الطبقات تحتاج إلى وقت وجهد عميقَين للوصول إلى مرحلة الوعي الذاتي، ولا يمكننا تجاوز أيَّة طبقة، فكل طبقة هي طبقة هامة، وإذا حاولت القفز مباشرةً إلى أعمق طبقة فإنَّك ستقع في الارتباك والحيرة. لنستعرض معاً هذه الطبقات:

  1. الطبقة الأولى هي إدراكنا الأولي لمشاعرنا وهويتنا وأفكارنا واهتماماتنا، ومعرفة الأمور التي تسعدنا أو تزعجنا أو تلهمنا، واكتشاف الأمور التي تحسِّن مزاجنا.
  2. الطبقة الثانية هي البحث وراء معرفة المسببات التي أدت إلى إحساسنا بهذا الشعور أو ذاك؛ وذلك للتعامل مع السبب ومعالجته.
  3. الطبقة الثالثة هي الأعمق، وهي أصعب طبقة، ولا يستطيع الجميع أن يصلوا إليها؛ إذ تتضمن مبادئنا وقيمنا ومعاييرنا الأخلاقية والاجتماعية والمهنية، التي نطلق من خلالها الأحكام ونتخذ القرارات، مثل ما هو الفشل؟ وما هو النجاح؟ وما هي القيمة الأسمى في حياتنا؟ وهي أسئلة عدة تحتاج إلى إجابات دقيقة.

إنَّ هذا المستوى الأخير، يصعب على الإنسان العادي أن يصل إليه؛ ذلك لأنَّه يحتاج إلى جهد كبير ونية صادقة، فهي تمثل المعايير التي تحدد نظرتنا أو تعاملنا مع جميع القضايا الوجودية في هذا الكون، فإذا كان ما نمرُّ به أو نقدمه أو نفعله غير مفيد وغير مُجدٍ أو لا يملك قيمة عليا، فإنَّ ذلك سينعكس سلباً على ذواتنا.

في الختام:

عادةً يهرب الإنسان من الإجابة عن الأسئلة الحقيقية ذات الطابع العميق والوجودي، مع نيته في الوصول إلى منبع آلامه، ومحاولة علاجه؛ إذ إنَّ الموضوع بحاجة إلى معرفة وجهد وإرادة، وهو يشبه عملية رد الكسر؛ فهي تكون عملية في غاية الألم، ولكنَّها في نهاية المطاف أمر مفيد، يخفف الألم والمعاناة على الأمد البعيد، ويؤدي إلى حياة عملية ونفسية ومهنية أفضل.

المصادر: 1، 2، 3




مقالات مرتبطة