النجاح المهني بين الحظ والعمل الدؤوب

يؤدي كل من الحظ والعمل الجاد دوراً هامَّاً عندما يتعلَّق الأمر بالنجاح المهني أو بناء الثروة، وهذا ما يتحدث عنه أعظم مستثمر في التاريخ "وارن بافت" (Warren Buffett)، فهو يعترف أنَّ الحظ ساعده على تحقيق النجاح، وقد طبَّق "بافت" نفس استراتيجية الاستثمار التي علَّمه إيَّاها منتوره "بنيامين غراهام" (Benjamin Graham).



لكنَّ "بافت" استطاع تحقيق عائدات أفضل بسبب اختيار التوقيت المناسب، ففي حين كان على "غراهام" أن يستثمر في الفترات التي شهدت كثيراً من التقلُّبات المفاجئة في سوق الاستثمار وهي فترة الثلاثينات، كان "بافت" يعترف بأنَّه كان محظوظاً أكثر من "غراهام" بكثير.

يقول "بافت" في رسالته السنوية عام 2014: "كان من حسن حظي أنا وشريكي "تشارلي مانجر" (Charlie Munger) أنَّنا ولدنا في الولايات المتحدة الأمريكية (USA) وسنبقى ممتنين أبداً للمزايا الرائعة التي حصلنا عليها لكوننا نشأنا في هذا البلد".

لكن من المؤكَّد أنَّ "بافت" وشريكه "تشارلي" لم يحقِّقا هذا النجاح بالاعتماد على الحظ فقط، لقد عملا بجد، وبذلا قصارى جهدهما، وهذا هو الجدل القديم عن السبب الرئيس لتحقيق النجاح، هل هو الحظ أم العمل الجاد؟ أيهما مؤثِّر أكثر؟ وأيهما نحتاج إليه أكثر من الآخر؟ أم أنَّنا نحتاج إليهما كليهما؟ وهل نستطيع تحقيق النجاح دون كثير من الحظ؟

في هذا المقال، سنلقي نظرة على اثنين من الشخصيات المرموقة جداً في مجالهما، أحدهما ساعده الحظ في وقت أبكر من الآخر، لكنَّ كليهما حقَّقا النجاح في مجاليهما:

الحالة الأولى، الروائي الحائز على جائزة أدبية بعد إرسال النسخة الوحيدة من روايته الأولى:

عندما كان "هاروكي موراكامي" (Haruki Murakami) يبلغ ثمانية وعشرين عاماً، شاهد مباراة بيسبول في عام 1978 في مدينة "طوكيو" (Tokyo) وقد خطرت في باله فجأةً فكرة أنَّه في إمكانه أن يكتب رواية.

كانت هذه الفكرة بمنزلة إيحاء غريب، وشعر "موراكامي" أنَّ هذا الإيحاء استقرَّ عميقاً في ذهنه، وفي أثناء عودته إلى المنزل اشترى بعض الأوراق وقلم حبر وبدأ بالكتابة. لقد كان يجلس أمام طاولة المطبخ، ويكتب بعد أن ينتهي من عمله في نادي لعزف موسيقى الجاز.

لقد واظب على ذلك كل ليلة، لكن لأنَّها كانت المرة الأولى التي يكتب فيها "موراكامي" قصة في حياته ولم يدرس فن الكتابة دراسةً أكاديميةً، فإنَّه كان يكتب دون أن يعرف ما إذا كان يكتب بأسلوب صحيح أما لا.

قام بكثير من المحاولات، حتى اكتشف أخيراً أسلوبه في الكتابة من خلال كتابة أول فصل من روايته باللغة الإنجليزية، ومن ثمَّ ترجمته إلى لغته الأم اليابانية، فمن خلال ذلك استطاع تبسيط أفكاره، وإيصال الفكرة بأسلوب واضح، وعندما أنهى روايته القصيرة التي تحتوي على ما يقارب 30 ألف كلمة أرسلها إلى مجلة أدبية، وقد كانت هذه هي النسخة الوحيدة من عمله؛ أي إنَّه في حال فُقدت هذه النسخة أو رُفضت فإنَّه لم يكن غالباً سيعود للكتابة مجدداً.

لكن انتهى الأمر بفوز "موراكامي" بإحدى جوائز "اليابان" (Japan) في مجال الخيال الأدبي، وهذا ما شجَّعه لكتابة روايته الثانية، ومع الوقت أنتج روايته الثالثة، ثمَّ قرر أن يتفرَّغ تماماً للكتابة.

بيعت ملايين النسخ من روايات موراكامي، وتحوَّلت قصصه القصيرة مثل "توني تاكيتاني" (Tony Takitani) و"قودي سيارتي" (Drive My Car) التي حصلت منذ فترة على جائزة الأوسكار إلى أفلام حصدت على عديد من الجوائز.

النتيجة، يتطلَّب حظ المبتدئين كثيراً من العمل الدؤوب:

فازت رواية "موراكامي" الأولى بجائزة، الرواية التي وصفها هو بأنَّها غير ناضجة، ورفض أن يبيعها خارج اليابان في البداية، ومهدت الطريق له حتى يتفرَّغ للعمل الأدبي.

ربما ساعدته موهبته على الفوز بجائزة من المحاولة الأولى، وربما السبب أنَّ اللجنة المانحة انجذبت لأسلوبه الغريب في الكتابة والذي كان يختلف عن معظم الأدب الياباني في ذلك الوقت.

لكن في جميع الأحوال، لم يكن "موراكامي" ليصبح أيقونة في الأدب كما هو عليه اليوم، لو لم يلتزم بالكتابة ويجعل منها عادةً يطورها باستمرار، ومن ثمَّ يحسِّن أسلوب كتابته في كل مرة ينشر فيها شيئاً جديداً.

إذ يستيقظ "موراكامي" عادةً الساعة الرابعة فجراً في كل يوم، ويكتب حتى الظهيرة، ثمَّ يمارس رياضة الجري ويستمع لموسيقى قديمة، وينام في الساعة التاسعة؛ إذ يلتزم بهذا الروتين يومياً مع اختلاف بسيط جداً، وحالياً يصدر "موراكامي" رواية جديدة كل سنتين أو ثلاث سنوات، وغالباً ما تكون رواية من 1000 صفحة وتحقِّق أفضل المبيعات.

فربما كان "موراكامي" محظوظاً في البداية، لكنَّ عاداته وعمله الدؤوب هما ما حقَّقا له النجاح المستمر.

شاهد بالفديو: أهم 7 أسرار في حياة أصحاب الإنجازات

الحالة الثانية، العالمة التي اكتشفت أسرع علاج للملاريا لم تحصل على التقدير الذي استحقته إلا بعد مرور 40 عاماً:

في أواخر الستينيات، كان آلاف الجنود الصينيين في "فيتنام" (Vietnam) يموتون بسبب الملاريا، وقد فشل معظم العلماء الذين وظَّفتهم الحكومة في إيجاد علاج فعَّال.

لذلك؛ بدأت الحكومة الصينية بالبحث عن بدائل، وقد علَّقت آمالها على "تو يويو" (Tu Youyou) الباحثة في "أكاديمية الطب الصيني التقليدي" (Academy of Traditional Chinese Medicine) في "بكين" (Beijing).

كانت "تو" في بداية عقدها الرابع عندما اكتشفت العلاج، ولم تتخيَّل أنَّها ستبلغ من العمر 84 عاماً حتى يكتشف العالم إنجازها، ومن ثمَّ يكافئها بمنحها جائزة نوبل في عام 2015.

لكي نفهم مقدار الجهد الذي بذلته "تو" مع فريق عملها، يكفي أن نتخيَّل المقدار الهائل من العينات التي كان عليهم دراستها، وكونها متخصصة في الطب الصيني التقليدي، فقد قامت "تو" وفريقها بمراجعة النصوص الطبية والعلاجات الشعبية القديمة بحثاً عن أدلة.

كما أنَّهم سافروا لمناطق نائية لجمع نباتات معيَّنة، وبعد أشهر من العمل الشاق، تمكَّنوا من جمع أكثر من 600 نبتة، وأصبح لديهم قائمة تتضمَّن نحو 2000 علاجاً محتملاً.

درسوا كل احتمال ممكن، وقلَّصوا الاحتمالات الممكنة إلى 380 بدلاً من 2000، واختبرت "تو" وفريقها هذه العلاجات على فئران التجارب، علاجاً تلو الآخر، وتتالت الإخفاقات تبعاً لمئات التجارب، واستمرت الاختبارات لمدة عامين ولم ينجح منها شيء.

عندما شعرت "تو" أنَّها وصلت إلى أفق مسدود، قرَّرت العودة إلى الأساسيات، فأعادت قراءة النتائج التي توصَّلت إليها، وراجعت كل اختبار أجرته، وبحثت مجدداً عن العلاج بالاعتماد على ما يمكن أن يكون قد فاتها، ووجدت في النهاية الجواب الشافي في نصٍّ قديم، كُتب قبل 1500 عام مضى، ومن ثمَّ أعادت "تو" معايرة الاختبارات، وتوصَّلت في النهاية إلى علاج.

لم يبقَ سوى تجربة هذا العلاج على البشر للتحقُّق من سلامته وفاعليته، فقرَّرت "تو" واثنين من أعضاء فريقها أن يتطوعوا لتجربة العلاج على أنفسهم، فكانوا مستعدين للمخاطرة بحياتهم من أجل خدمة البشرية؛ إذ نقلوا لأنفسهم العامل الممرض للملاريا، وتلقوا أول جرعة من العلاج ولحسن الحظ كانت ناجحة.

إقرأ أيضاً: القوة المُذهلة للمثابرة

النتيجة، العمل الدؤوب يؤدي إلى الحظ الطيب عاجلاً أم آجلاً:

بدأت "تو" أبحاثها في عام 1969، لكن لم تعترف "منظمة الصحة العالمية" (WHO) بالعلاج الذي ابتكرته حتى عام 2000 كعلاج وقائي ضد الملاريا؛ أي بعد 31 عاماً من اكتشافها للعلاج.

لقد كان لديها العديد من الجوانب التي لم تساعدها على تلقِّي التقدير الذي تستحقه، فهي لم يكن بحوزتها شهادة دراسات عليا، ولم تتبوَّأ مناصب أكاديمية، ولم يكن لديها خبرة سابقة في المجال البحثي معترف بها خارج "الصين" (China)؛ أي إنَّها لم تكن شخصاً محظوظاً أو متميزاً، ومع ذلك فقد استمرت في عملها دون أي تقدير تقريباً، وهذا ليس شيئاً يستطيع الجميع أن يفعله.

يكفي بالنسبة إلى الكثيرين ألا يتلقوا التحفيز من الآخرين حتى يستسلموا؛ لذا نجد أنَّ كثيرين من المبتدئين يستسلمون في منتصف مشاريعهم؛ لأنَّهم يشعرون أنَّ عملهم لم يحظَ بالشهرة والتقدير الذي يستحقه، لكن بالنسبة إلى "تو" كان الهدف هو خدمة البشرية؛ لذلك واظبت على عملها على الرَّغم من كل ذلك التجاهل.

إقرأ أيضاً: ما معنى الحظ؟

غالباً ما يكون تأثير الحظ مؤقتاً:

يصبح معظم الأشخاص أثرياء بفوزهم باليانصيب، لكن تشير الدراسات إلى أنَّ معظم رابحي اليانصيب يخسرون كل ثروتهم؛ لأنَّهم لا يعرفون كيف يديرون الثروة، ونفس الأمر بالنسبة إلى النجاح المهني.

فالأشخاص الذين يحصلون على فرص على طبق من ذهب لا يتعلَّمون كيف يصبحون عصاميين؛ لذلك عندما لا يتلقون هذا النوع من الفرص تبدأ معاناتهم؛ لذلك فإنَّ معظم الناس هم في حالة وسطى بين "موراكامي وتو"؛ إذ إنَّنا نحصل على بعض الحظ من فترة لأخرى، وغالباً بعض الحظ في البداية وبعض الحظ في منتصف مسيرة عملنا.

يؤكِّد الكاتب "داريوس فوروكس" (Darius Foroux) أنَّ الحظ ساعده في مراحل عديدة من حياته؛ إذ انتقل والداه للعيش في "هولندا" (Netherland) عندما كان عمره عاماً واحداً، ولقد أتيحت له الفرصة للحصول على تعليم جيد، وكان محظوظاً أيضاً لأنَّ بعض أُولى مقالاته لاقت انتشاراً واسعاً خلال السنة الأولى من بدء مدوَّنته على الإنترنت، لكنَّه يؤكِّد أنَّ ما حافظ على نمو مدونته لم يكن الحظ بل العمل المستمر.

شاهد بالفديو: 6 صفات يتميز بها الناجحون

في الختام:

أهم شيء هو أن تبدأ إذا كنت تريد أن تفعل شيئاً، سواء تأليف كتاب، أم البدء بمشروع تجاري، أم العمل في شركة جديدة، وما إلى ذلك، فثمَّة شيئان هامَّان غير الحظ، وهما البدء والمواظبة؛ إذ يمكن للجميع البدء، لكنَّ القليل من يستمرون، والشيء الطريف هو أنَّ الأشخاص الذين يواصلون العمل عادةً ما يحالفهم الحظ خلال مسيرة عملهم، والطريقة الوحيدة لذلك هي الاستمرار بالعمل حتى يحصلوا على ما يستحقون من النجاح.

المصدر




مقالات مرتبطة