المدارس بين تعليم الأطفال وتعليبهم

قد لا يختلف اثنان على أهمية المدارس في حياة الإنسان؛ بل يمكن القول إنَّ كل ما نراه أمامنا من تطور علمي وتقني وفكري وثقافي قد مر عبر هذه المدارس؛ إذ إنَّها تُعَدُّ الخلية الأولى لبناء أي دولة أو مجتمع أو حضارة.



سنتعرف في هذا المقال إلى أهمية المدارس في تقدُّم أو تخلُّف الشعوب، ونتحدث عن أهم الأنظمة التعليمية في العالم؛ وهو النظام الفنلندي، وأهم النقاط التي تميزه عن غيره.

لماذا تتمتع المدارس بكل هذه الأهمية؟

تكتسب المدارس أهميتها في كونها تتعامل مع الفئة الأكثر هشاشة، والأكثر حساسية لما يحيط بها من عوامل وأفكار، وهي فئة الأطفال؛ إذ يكون الطفل وخاصةً في سنوات المدرسة الأولى، عُرضة لتقبل أي فكرة تُطرح عليه؛ وذلك بسبب كمية الأسئلة التي تشغل دماغه في هذه المرحلة، وهو يحاول أن يجد الأجوبة دون أن يملك القدرة أو الوعي أو المهارة التي تخوله للتحقق من صحة الأجوبة التي تُعرض عليه، وهنا تكمن خطورة هذه المرحلة.

ماذا يمكن أن يحصل في حال كانت المدارس دون المستوى المطلوب؟

في حال لم تكن المدارس على المستوى المطلوب من المنهجية التربوية والعلمية والسيكولوجية، فإنَّ ذلك قد يؤدي إلى إنشاء بيئة مدرسية غير صحية، قد تؤدي - وبنسبة كبيرة - إلى إنتاج أجيال غير صحية أو غير سليمة من النواحي النفسية والاجتماعية، ومن ناحية الوعي بالآخر وتقبل الاختلاف وإنشاء علاقات مع أشخاص من ثقافات وحضارات مختلفة عنها.

إقرأ أيضاً: أهمية تنظيم الوقت لتحصيل دراسي أفضل للطلاب

ما هي أسوأ منهجية تُطبق في المدارس؟

إنَّ أسوأ ما يمكن أن يحدث في أي مدرسة هو تعليب الأطفال؛ أي بمعنى إدخالهم في مسارات الأدلجة، ودفعهم إلى اختيار مسار سياسي أو مذهبي معيّن؛ لأنَّ في ذلك اغتصاباً واضحاً للطفولة، فكما قال الأديب اللبناني الكبير "جبران خليل جبران": "أولادكم ليسوا لكم، أولادكم أبناء الحياة"، فالأطفال يجب أن يلعبوا ويمرحوا بعيداً عن التعصبات والاصطفافات الدينية والسياسية والعرقية.

مثال واضح عن تعليب الأطفال بطريقة متطرفة:

من الأمثلة الأشد تطرفاً عن تعليب الأطفال، هو إدخالهم في مدارس تعلمهم أفكاراً مغلوطة ومتطرفة، ويتم فيها غسل أدمغتهم، فالطفل كما ذكرنا يأخذ المعلومات التي تُعرض أمامه على أنَّها حقائق مطلقة ليس فيها لبس أو شك، إذ إنَّ القسم الأكبر والأهم من شخصية الإنسان يتبلور ويتشكل في مراحل الطفولة.

ويرى خبراء علم النفس أنَّ بعد انقضاء مراحل الطفولة، يصبح من الصعب إجراء تغيير جذري في شخصية وأفكار ومعتقدات هؤلاء الأطفال، خاصة بعد دخولهم مرحلة الشباب إذ قد يتفعل في أدمغتهم ما يسميه علماء الأعصاب بالتحيز الانتقائي، فالدماغ يقوم باختيار الأخبار والمعلومات والأفكار التي تناسب معتقداته ومبادئه وما تربى عليه في مراحل الطفولة.

بالمقابل أيضاً يعمل على تجاهل أي فكرة أو معلومة تأتيه وتكون مخالفة لما تعلمه، وبهذا يصبح تغيير الأفكار أو تغيير شخصية الإنسان أكثر صعوبةً مع مرور الزمن، وكلما مرَّت سنة، زادت الصعوبة أكثر وقلَّت احتمالية التغيير بشكل كبير، ومن هنا تأتي أهمية المدرسة في التأثير في توجهات وسلوكات أجيال بأكملها، ومن ثمَّ هي مسؤولة عن نوعية المجتمع ومستوى تقدمه ورقيه.

شاهد بالفيديو: 8 نصائح تساعد الأطفال والآباء على الاستعداد للعودة إلى المدرسة

تعليب الأطفال في المدارس حلقة مفرغة من التعليب:

يوجد الكثير من المدارس الموجودة غالباً في الدول النامية أو دول العالم الثالث، تبث العديد من الأفكار المغلوطة النابعة عن الجهل في مبادئ وأساسيات المنهجية التربوية والنفسية السليمة؛ وهذا يؤدي إلى إنتاج أجيال غير سوية، يخرج من بينها أساتذة ومعلمون يذهبون إلى نفس المدارس، ويعاودون نفس الأخطاء والمنهجيات الشاذة؛ وهذا يجعل المجتمع يدور في حلقة مفرغة من الفشل والجهل والاضطراب، وتضييع طاقات شبابه في أمور لا ناقة له فيها ولا جمل.

هل نحن نبالغ في عيوب بعض الأنظمة التعليمية؟

لا شك في أنَّ عيوب النظام التعليمي في الكثير من الدول، هي عيوب ظاهرة للعيان، فترى التلاميذ يتضايقون من ضخامة المناهج وكثرة الحشو الموجود فيه، وترى الأساتذة أيضاً يركضون من أجل إنهاء المناهج مع نهاية العام الدراسي، ولكنَّهم يعجزون عن ذلك، ناهيك عن الشكوى المستمرة من قبل الأطفال حيال حقائبهم المدرسية الثقيلة التي تسبب لهم آلام الظهر؛ وهذا يعزز ضجر التلاميذ من المدرسة ومناهجها الثقيلة، ويزيد من نفورهم من العملية التعليمية، ويؤكد وجود مشكلة حقيقية في النظام التعليمي.

إقرأ أيضاً: نصائح مهمة للتخلّص من مشكلة رهاب الامتحان

النظام التعليمي في فنلندا أقل عدد ساعات في العالم:

على سبيل المثال، إنَّ النظام التعليمي في فنلندا واحد من أهم الأنظمة التعليمية على مستوى المدارس، وقد يكون الأول على مستوى العالم؛ إذ يأخذ التعليم المدرسي في هذه الدولة منحى مختلفاً تماماً؛ إذ يتفق الأستاذ والتلميذ على عدد ساعات معين في الشهر، ويكون في أغلب الحالات لا يتجاوز حد العشرين ساعة في الشهر، وهو عدد ساعات قليل جداً مقارنة ببقية الدول.

ميزات النظام التعليمي في فنلندا: أشياء لم نسمع بها من قبل

لا يقف تميز النظام التعليمي في فنلندا عند هذا الحد، وقد تصاب بالدهشة إذا عرفتَ أنَّه في حال أُصيب الطالب بالضجر خلال الساعة الدراسية أو خلال شرح الأستاذ، فمن حقه أن يطلب الإذن من أستاذه ليخرج، ويعمل في المقهى أو المتجر الخاص بالمدرسة، فيتعلم الكثير من الأمور المفيدة والممتعة في نفس الوقت، ومنها:

  1. يتعلم مبادئ الجمع والطرح والعمليات الحسابية بشكل عملي على أرض الواقع.
  2. يتعلم المبادئ البسيطة لعمليات البيع والشراء.
  3. يتعلم تعليماً مباشراً كيفية التعامل الصحيح مع الناس، وأساليب اللباقة، وأهميتها في الحياة العملية.
  4. لهذه الخطوة أهمية كبيرة في زرع الثقة بالنفس عند الطفل، وتوجيه رسالة إليه بأنَّه قادر على الاعتماد على نفسه.
  5. زرع ثقافة العمل وحب العمل في نفس الطفل؛ وهذا يؤسس لإنسان منتج في جميع مجالات الحياة.

شاهد بالفيديو: 7 معايير أساسية لاختيار المدرسة الأنسب لطفلك

تأثير النظام التعليمي في فنلندا في النواحي النفسية والذهنية:

إنَّ ما يفعله هؤلاء الأطفال من نشاطات خلال فترة وجودهم في مطعم أو متجر المدرسة، له بالغ الأثر في تعليمهم وليس تعليبهم؛ إذ يقومون باستلام الطلبات من الزبائن، وحساب ثمن ما يطلبون، وأخذ النقود منهم، ومن ثم إرجاع الباقي إليهم، بالإضافة إلى قيامهم بتناول وجبات الطعام جنباً إلى جنب مع بعضهم أو حتى مع أساتذتهم، وبعدها يقومون جميعاً بالتشارك في غسل الأطباق؛ وهذا يعزز حس المسؤولية لديهم، ويعطيهم الإحساس بأنَّهم قادرون على تدبر أمورهم بأنفسهم.

ولا يخلو النظام التعليمي الفنلندي من حصص الترفيه مثل لعب البلايستيشن والشطرنج وغيرها من الألعاب الذهنية المفيدة، وكذلك الألعاب الرياضية مثل كرة القدم وكرة السلة التي لها دور نفسي وعاطفي من خلال تفريغ الطاقة بشكل إيجابي.

إنَّ هذه الأمور - على بساطتها - هي أمور في غاية الأهمية من الناحية النفسية والذهنية والعقلية وكذلك التعليمية، فالأطفال سواء في أفريقيا أم أوروبا أم الشرق الأوسط أم الولايات المتحدة الأمريكية، هم أطفال يُولَدون بالقدرات الذهنية والعقلية ذاتها، والذكاء هو مهارة وتربية وصقل بالدرجة الأولى، وهذه النقاط الهامة التي تهتم بها فنلندا على سبيل المثال، هي التي تحدد فيما إذا كان النظام التعليمي فاشلاً أم ناجحاً.

إقرأ أيضاً: أهم النصائح لزيادة ذكاء الطفل وتحقيق التفوق في المدرسة

كيف يحدد النظام التعليمي حالة المجتمع، إما فوضى أو انضباط؟

لا شك أنَّ الكثير منا قد استيقظوا صباحاً وهم مرغمون على الذهاب إلى المدرسة، ولا يمكن أن ننكر فرحنا حين يغيب أستاذٌ عن الحصة الدراسية المقررة، فلا يمكن لنا أن ننكر نومنا الخائف من بطش المعلم، ولا يمكن أن ننكر أنَّنا تعلمنا الانضباط من خلال الخوف فقط، والتعلم بدافع الخوف لا ينتج إنساناً منضبطاً أو ملتزماً بقوانين المجتمع؛ بل يجعله خائفاً من العقاب الناجم عن مخالفته للقوانين؛ وهذا ما يتناقض مع رسالة التعليم والمدرسة في جعله فرداً ملتزماً بالقوانين انطلاقاً من إيمانه العميق بأهمية القوانين في بناء الأوطان، وتراه لا يكتفي بالالتزام بقوانين بلده؛ بل يسارع إلى الدفاع عنها في حال التعدي عليها.

هذا ليس مجرد كلامٍ فحسب؛ بل هو حقيقة تتجسد على أرض الواقع بكل وضوح، فنرى الفوضى تسود في الدول النامية التي ما إن تضعف فيها الدولة حتى يسارع الأفراد إلى انتهاك القوانين والأنظمة؛ وذلك لأنَّهم تربوا على اتباع القوانين خوفاً من العقاب، وحين يزول العقاب فإنَّهم لا يجدون أمامهم رادعاً، على عكس من تشرَّبوا حبَّ القوانين إيماناً بأنَّها السبيل الوحيد لحماية حقوقهم وحقوق الآخرين، وبناء مجتمع متقدم ومزدهر، والسؤال الذي قد يخطر في بالك: هل كل هذا يتعلق بالمدرسة؟ والجواب هو "نعم بكل تأكيد"، فالمدرسة إما تعليم أو تعليب.

في الختام:

في نهاية هذا المقال، يمكننا أن نلخص كل ما جاء فيه بقول أحد الفلاسفة: "أعطني تعليماً جيداً، أعطيكَ إنساناً جيداً"، والتعليم الجيد لا يكون بالمناهج التدريسية والتعليمية فقط؛ وإنَّما بالاهتمام بالنواحي النفسية والعاطفية والذهنية، التي لا تقل أهمية عن المقررات الدراسية.

المصادر: 1، 2




مقالات مرتبطة