العلاقة بين المشتتات والمرونة والتفاعل

علمت "شيريل" (Sheryl) أنَّ لديها مشكلة؛ وذلك بصفتها شريكة رئيسة في إحدى أفضل شركات المحاماة في "أمريكا" (America)؛ إذ كُلِّفَت بإدارة المحامين المنتسبين الجدد. لم تكن المشكلة في توظيف أفضل المواهب أو تدريبهم ليصبحوا محامين بمستوى النخبة؛ بل كانت التأكد من عدم شعورهم بالاحتراق الوظيفي أو انخفاض تفاعلهم أو ترك الشركة أو الأسوأ من ذلك؛ الانتحار.



إنَّ المشكلة التي واجهتها "شيريل" هي واحدة من تلك المشكلات الثقافية التي دُفِنَت بعمق في روح العصر للأعمال الحديثة. فهي المشكلة التي يراها الجميع، ولكن لا أحد يريد التحدث عنها.

الحقيقة هي أنَّه والآن أكثر من أي وقت مضى، يجد الموظفون صعوبة في الحفاظ على مستوى تفاعلهم وتفادي الاحتراق الوظيفي. وبالطبع، لطالما كان تفاعل الموظفين محوراً هاماً للمديرين التنفيذيين. ومع ذلك، هناك شيء جديد وغير مسبوق عن هذه القضية؛ إذ إنَّها تحوَّلت من مجرد كونها مشكلة هامة إلى مشكلة أساسية.

يتعلق هذا التحول بحقيقة ثقافية واضحة؛ وهي أنَّنا نعيش الآن في زمن غير مسبوق مع كم هائل من المعلومات والتشتيت. فنحن نعيش في حالة وصفتها عالمة النفس "ليندا ستون" (Linda Stone) بـ "الاهتمام الجزئي المستمر"؛ أي في المنزل، والعمل، والمطار، ولعبة كرة القدم للأطفال، وكل مكان آخر تقريباً، ونادراً ما نكون حاضرين حضوراً كاملاً، ومنهمكين في المهمة التي نحن بصددها.

تأثير المشتتات:

على مستوى الوقائع، نعلم جميعاً هذا. ولكن ضع في حسبانك فقط بعض النتائج من الأبحاث الحديثة عن أسباب تشتت الموظف:

1. تعدد المهام ومحاولة التركيز على كم كبير من المعلومات في الوقت نفسه، يُضعف الأداء المعرفي:

في دراسة أُجريت العام الماضي في "جامعة ستانفورد" (Stanford University)، وجد الباحثون أنَّ تعدُّد المهام المكثَّف يرتبط بضعف الذاكرة العاملة عند الموظفين، ويقلل الانتباه.

2. المقاطعات التي تمنعنا من التركيز على المهام الهامة:

أظهرَت الأبحاث التي أَجرَتها شركة "مايكروسوفت" (Microsoft) والخبيرة في مكان العمل "جلوريا مارك" (Gloria Mark) من "جامعة كاليفورنيا إيرفين" (University of California Irvine) أنَّه بعد كل مقاطعة، يستغرق الأمر نحو 23 دقيقة لاسترجاع التركيز على المهمة التي كنت تعمل عليها.

وربما يفسر هذا جزءاً من الأسباب التي جعلت شركة "غالوب" (Gallup) تذكر أنَّ 51% من الموظفين الأمريكيين غير متفاعلين في بيئة العمل.

3. نحن مدمنون على المشتتات الرقمية:

لا تكمن المشكلة في أنَّ المشتتات الرقمية تقلل من الأداء المعرفي والإنتاجية، إنَّما المشكلة الحقيقية هي أنَّنا مدمنون على هذه السلوكات التي تستنزف الإنتاجية.

وكما يقول "آدم آلتر" (Adam Alter) في كتابه "لا يقاوم" (Irresistible)، طوَّر كثيرون منا "سلوكاً إدمانياً" على أجهزتنا الإلكترونية. وفي كل مرة نفتح فيها صندوق البريد الوارد أو الرسائل النصية الواردة، نرى شيئاً جديداً، وقائمة جديدة من الرسائل أو موجزاً جديداً للتحديثات. ويؤدي هذا إلى إطلاق الدوبامين في مناطق الدماغ المختلفة.

إقرأ أيضاً: كيف تتغلب على التشتت الذهني الذي تسببه وسائل التواصل الاجتماعي؟

عدم التفاعل في بيئة العمل مكلف:

في خضم أزمة المشتتات هذه، نشهد أيضاً اتجاهاً متعلقاً بزيادة مستويات عدم تفاعل الموظفين في مكان العمل. فضع في حسبانك فقط بعض النتائج من البحث عن تفاعل الموظفين:

  • وجدت دراسة بريطانية أنَّ الشركات ذات نسب التفاعل المنخفض تحصل على دخل تشغيلي أقل بنسبة 32.7% من الشركات التي تمتلك موظفين أكثر تفاعلاً. وبالمثل، فإنَّ الشركات التي تمتلك قوة عاملة ذات تفاعل عالٍ تشهد نمواً بنسبة 19.2%.
  • البحث الذي أجراه "مجلس قيادة الشركات" (Corporate Leadership Council) يشير إلى أنَّ زيادة مستويات التفاعل تؤدي إلى تحسن بنسبة 57% في الجهد التقديري للموظف، الذي يمكن أن يؤدي بعد ذلك إلى تحسن بنسبة 20% في الأداء العام.
  • أفادت شركة الأبحاث التسويقية "غالوب" (Gallup) أنَّ وحدات الأعمال في الربع الأول من الاستطلاعات عن معدل دوران القوى العاملة كان أقل بنسبة 65%. يمكن أن يمثل ذلك توفيراً كبيراً، بالنظر إلى التكلفة العالية لاستبدال العمال.

النقطة الهامة هنا هي أنَّنا نعيش في وقت أصبح فيه تعزيز تفاعل الموظفين أكثر أهمية من أي وقت مضى؛ إذ أدى ظهور مشتتات التكنولوجيا إلى تعظيم التحدي المتمثل في الحفاظ على مستوى تفاعل الموظفين وكذلك تكلفة عدم تفاعلهم.

شاهد بالفيديو: 5 طرق لبثّ روح الإبداع لدى الموظفين

العائد الاستثماري للتدريب على المرونة في العمل:

في جوهرها، تُعَدُّ أزمة المشتتات هذه تحدياً داخلياً، تحدٍّ لا يمكن مواجهته بفاعلية إلا من خلال منح موظفينا الأدوات اللازمة للتحول إلى عقلية جديدة ومنتجة ومرنة. والمرونة، بعد كل شيء، هي قدرتنا على الحفاظ على توازننا وحضورنا وتركيزنا في خضم التجربة الحتمية للتوتر والتشتت وعدم اليقين.

إنَّها القوة التي يجب أن نطوِّرها للبقاء مركزين في خضم العمل مع كمٍّ هائل من المعلومات؛ إذ تُلقي مجموعة متزايدة من الأبحاث الضوء على الفوائد العميقة لوجود موظفين مرنين. إليك عدداً قليلاً من الفوائد التي حدَّدها مجلس الرؤساء التنفيذيين لـ "جمعية القلب الأمريكية" (American Heart Association):

1. زيادة عتبة تحمُّل الإجهاد في مكان العمل:

يتمتع الموظفون المرنون بقدرة كبرى على التعامل مع ضغوطات مكان العمل، وقدرة على تطوير عوامل وقائية ضد الآثار السلبية للإجهاد.

2. تحسين الكفاءة العقلية والعاطفية:

يقل احتمال استسلام الموظفين المرنين لعدد لا يُحصى من مخاوف الصحة العقلية والعاطفية التي تنشأ عن ضغوطات مكان العمل. وتشمل هذه الحالات عدم التفاعل في بيئة العمل والقلق والاكتئاب وحتى الانتحار.

3. زيادة التفاعل والرضى الوظيفي:

لا توفر المرونة حاجزاً ضد الآثار السلبية للتوتر فقط؛ إذ يشير البحث إلى أنَّه يعزز أيضاً مستويات عالية من التفاعل والسعادة في العمل. وبالإضافة إلى ذلك، ترتبط المرونة بمستويات عالية من احترام الذات، وشعور كبير بالسيطرة على أحداث الحياة، وشعور عالٍ بالمعنى والهدف.

إقرأ أيضاً: 4 قواعد لتوفير المرونة في العمل دون فقدان المساءلة

التدريب على المرونة:

ما يزال هناك سؤال هام أساسي واحد: ما هي أفضل طريقة لتحقيق المرونة في مكان العمل؟ للإجابة عن هذا السؤال إليك ثلاث استراتيجيات أساسية:

1. تكوين العادات:

إنَّه لخطأ كبير ترتكبه شركات عدة؛ ألا وهو التفكير في أنَّ التغييرات يمكن أن تحدث بين عشية وضحاها من خلال حل واحد لمرة واحدة. وقد عانينا جميعاً من هذه المشكلة بأنفسنا؛ إذ تذهب إلى ورشة عمل رائعة خارج الموقع وتشعر بالإلهام لإجراء تغييرات في حياتك. ولكن في غياب الدعم والمساءلة المستمرة، وبعد نحو أسبوع، ستعود إلى عاداتك السابقة.

فما نعرفه من العلم الحديث في هذا المجال هو أنَّ العادات لا تتغير بين عشية وضحاها؛ بل يتطلب الأمر مشاركة يومية ومساءلة لتغيير الأنماط العميقة التي تسبب إدماننا على التشتت؛ ونتيجة لذلك، فإنَّ الحلول الفعالة جداً ستشمل المساءلة مع مرور الوقت، والعادات التي يسهل تطويرها، وبعض أشكال الدعم الإنساني.

2. كفاءة الوقت:

ندرة الوقت هي جزء لا مفر منه من العمل الحديث. وبالنظر إلى هذه القيود، يجب أن تجد حلول المرونة الفعالة طريقة لتحقيق أقصى فائدة مع تقليل الالتزام بالوقت؛ إذ إنَّ مطالبة موظفيك بأخذ إجازة طويلة لمدة أسبوع أو ممارسة تمرينات التأمل لفترات طويلة من الوقت ليست بداية قوية في عالم الأعمال الحديث.

وبدلاً من ذلك، الحل الفعَّال جداً هو التركيز على استراتيجيات تكوين العادات، التي تعزز التفاعل والنشاط في الحياة اليومية.

3. إنشاء طقوس على مستوى الشركة:

يتطلب التغلب على ثقافة التشتت الحالية حلاً ثقافياً. فإنَّ بناء طقوس التركيز على مستوى الشركة يعزز التركيز والنشاط خلال العمل؛ وبمعنى آخر، هو المفتاح لإحداث تغيير دائم عبر المؤسسة بأكملها.

ضع في حسبانك، على سبيل المثال، أحد الطقوس القوية على مستوى الشركة، هو فترة توقُّف مدتها 60 ثانية في بداية الاجتماع، التي تمنح الأشخاص الفرصة للقيام بكل ما يحتاجون إليه ليكونوا حاضرين حضوراً كاملاً مثل: أخذ أنفاس عميقة، أو في حال كان أحد المشاركين يحتاج إلى إرسال رسالة لأحدهم، أو أن يتنشط ويتمدد. توفر هذه الطقوس القوية تعزيزاً ثقافياً للقضاء على المشتتات والتفاعل تفاعلاً كاملاً مع المهمة التي تقوم بها.

لا يوجد حل واحد للأزمة الحالية المتمثلة في التشتت في مكان العمل. ومع ذلك، يشير البحث إلى أنَّ أفضل علاج هو استثمار سهل في الحلول التي تشجع المرونة، مثل الحلول القائمة على المزايا، واستثمار الوقت بكفاءة، وتعزيز التركيز من خلال ممارسة اليقظة الذهنية.

فمن خلال منح الموظفين الأدوات اللازمة للتغلب على مشكلة التشتت بمهارة، يزداد احتمال ترويجهم للعلامة التجارية للشركة، كما يزداد شعورهم بالالتزام ومساعدتهم على إيجاد إحساس أكبر بالمعنى والإنجاز في عملهم.

لذا فقط تخيَّل احتمالات التحول من ثقافة التشتت في مكان العمل المنتشرة في كل مكان الآن إلى ثقافة التركيز العميق والتفاعل الكامل. وتخيَّل الميزة التنافسية التي ستكسبها شركتك وكيف يمكن أن تغير تجربة العمل وكيف يمكن أن تدفع النمو والابتكار. فهذا هو تأثير التدريب في المرونة في مكان العمل.

المصدر.




مقالات مرتبطة