الضياع النفسي: تعويل على الوسيلة مع نسيان المصدر

نحن نمضي في حياتنا في مسارات مختلفةٍ ومشاعر متباينة، فيُحدِّد بعضنا تماماً ما يريده من الحياة ويسعى إليه بهدوءٍ وثقةٍ واتزان؛ بينما يقضي بعضنا الآخر حياته متخبِّطاً بين خيارات الحياة، مختبراً مشاعر الضياع بكامل صورها القاسية، وطامحاً في الوصول إلى حالة السلام والرضا النفسي.



نختلف في نظرتنا إلى الأمور، فبينما يصبُّ بعضهم جلَّ تركيزه وطاقته ورغبته على قضيةٍ معينة، مُعوِّلاً عليها التعويل الكبير، ليجذبَ حالةً من الضياع النفسي إلى حياته؛ يَعي بعضهم الآخر أنَّ حياته عبارةٌ عن ترابطاتٍ بين مئات القضايا، فيسعى إلى العمل على جزئيةٍ معينة، ومن ثمَّ يسعى إلى ربطها مع جزئياتٍ أخرى، هكذا حتَّى تكتمل الصورة لديه.

هل أصبحت الحياة سريعة، والمعلومات هائلة، والتفاصيل مرعبةً إلى درجة أنَّنا قد نسينا الإجابة عن أسئلةٍ وجوديَّة، مثل:

  • لماذا نحن موجودون في الحياة؟ وما هي رسالتنا؟ وما القيمة التي نقدِّمها؟
  • هل أصبحنا تحت رحمة التيه والفوضى والتشتت؟
  • وهل أصبح الضياع النفسي أكثر المشاعر والحالات تمثيلاً لنا؟

سنحاول من خلال هذا المقال الكشف عن خفايا إحساس الضياع النفسي، باحثين في جذوره، ساعين إلى معالجته، لنصل إلى محاكاة حالة السلام والأمان والتوازن.

ماذا لو أنَّ محاولة إرضاء الآخرين سببٌ لضياعك؟

يُمضِي الكثير من الأشخاص حياته في محاولةٍ لإرضاء الآخرين، فتجدهم تابعين لآراء آبائهم دون مناقشةٍ أو حوار، أو مُتبنِّين لأفكار الموروث المجتمعي دون بحثٍ في مدى صحتها أو منطقيَّتها.

هكذا حتَّى يبتعدوا عن شغفهم الأساسي؛ لأنّهم لم يعتادوا الحوار الصادق العميق مع ذواتهم، حيث قضوا معظم حياتهم في الإنصات إلى صوت المجتمع والأهل، ولم يعيروا انتباهاً إلى أهمِّ وأصفى وأوعى صوتٍ على الإطلاق، وهو: صوت ذاتهم الحقيقية؛ الأمر الذي يجعلهم في حالةٍ من الضياع والتشتت المستمرَّين، إذ لن يعرف أحدٌ السلام والأمان إن أبطلَ صوت قلبه وجعل من الآخر قائداً له.

شاهد بالفيديو: 8 أشياء يجب أن تقوم بها حتى تعيش شغف الحياة

هل ضاعَ هدفك منك جرَّاء تمسُّكك بزاويةٍ واحدة؟

يعيش الناس الحياة إمَّا بصورةٍ عشوائية، أو بصورةٍ منظَّمةٍ هادفة؛ فبينما يكون لدى بعضهم هدفٌ محدَّد، بحيث يكون سعيهم في الحياة في سبيل خدمة هذا الهدف؛ يكون لدى بعضهم الآخر ضبابيةٌ في الأهداف، أو يكون لديهم هدفٌ كبيرٌ لكنَّهم يجدون صعوبةً في الربط بين جزئيات حياتهم لتحقيق هذا الهدف؛ وذلك لأنَّ طريقة تفكيرهم "مُحدَّدة" وليست "شاملة".

على سبيل المثال: يطمح شخصٌ ما في أن يكون مدرِّباً مُحفِّزاً في تطوير الذات، ولكنَّ طريقة تفكيره "محدَّدة"، فتجده يُركِّز على جزئيةٍ معينةٍ ويصرف عليها الجهد والوقت والطاقة، ولا يستطيع الخروج منها، حتَّى وإن لم تؤدِّ إلى النتيجة المرجوَّة؛ مثلاً: أن يفكِّر بأنَّ عليه الالتحاق بالكثير من الدورات التدريبية الاحترافية، والسفر إلى الكثير من البلدان من أجل التدرُّب على الأمر بصورةٍ مُعمَّقة، إلَّا أنَّه لا يملك القدرة على ذلك، فيستكين ويتنازل عن هدفه.

بالمقابل، لو كان أكثر مرونة، وكان تفكيره أكثر "شمولية"؛ لعَرَفَ أنَّ تحقيق أيِّ هدفٍ عبارةٌ عن ترابطاتٍ بين جزئيَّات الحياة؛ فإن كان لا يستطيع الالتحاق حالياً بالدورات والسفر، لكنَّه يستطيع البحث في جزئياتٍ أخرى وربطها مع هدفه، مثل: أن يُوظِّف مهارة الكتابة لديه من أجل الكتابة في قضايا تطوير الذَّات، وأن يُساعِد الناس من حوله أكثر على تجاوز مشكلاتهم ليحقِّق بذلك رغبته في التواصل وتقديم النفع للآخرين، ومن ثمَّ يبدأ تركيب وتجميع الجزئيات المتشابهة مع بعضها، والتي تصبُّ في تحقيق الهدف - فسيظهر في حياته مفاجآت، وسيعيش التدفُّق من أوسع أبوابه، وسيجد ما كان يبحث عنه في الطريق من دوراتٍ احترافيةٍ وسفر؛ لأنَّه سعى وتحرَّك، فاستحقَّ التدفق في حياته.

إقرأ أيضاً: هل أنت متمسكٌ بعلاقاتٍ تُعيقُ تقدُّمَك؟

هل تحتاج علاقتك مع اللَّه إلى إعادة نظر؟

إلى أي مدى أخذتنا الحياة بتحدِّياتها وأحداثها وتقلُّباتها وسرعتها، حتَّى أصبحنا أشخاصاً عمليين لدرجة مبالغ فيها، وافتقرت علاقاتنا إلى الروحانية والصدق؟ ابتعدنا عن اللَّه في وسط كلِّ هذا التسارع العملي المُخِيف للحياة، وكانت النتيجة: ضياعنا النفسي.

لعلَّنا اليوم في أمسِّ الحاجة إلى العودة بنيَّةٍ حقيقيةٍ إلى اللّه، إلى السبب الأساسي لوجودنا، وإلى قيمنا، ورسالتنا في الحياة.

تأتي حالة الضياع من ضعف الاتصال باللَّه، ففي اللحظة التي يُدرِك فيها الإنسان أنَّ اللَّه هو الخير المطلق، وأنَّ منطلق كلِّ شيءٍ يقوم به الإنسان في الحياة هو السعي إلى تمكين دوره ورسالته على الأرض، لكي ينجح في اختبار الحياة بأعلى الدرجات؛ سينال قيمة السلام والثبات والاطمئنان.

هل تسأل نفسك أسئلةً تُقلِّل من ضياعك؟

ماذا لو أنَّ ضياعك يأتي من قلَّة أسئلتك لنفسك، ومن ضعف مراقبتك لأفعالك؟ هل جرَّبت يوماً أن تُجرِي حديثاً صادقاً مع ذاتك بخصوص تفاصيل يومك، وعن القيمة التي حقَّقتها خلال يومك، وعن السلوكات التي كانت إضافةً حقيقيةً إلى هدفك ورسالتك في الحياة؟ هل سألت نفسك عن العلاقة بين الجزئية التي تقوم بها والجزئيَّات التي قبلها، وكيف تخدم الصورة الكاملة لحياتك؟

تُضيف منهجية التفكير هذه إلى حياتك توازناً وقيمةً وسعادة، ولا يعني هذا أن تتحوَّل الحياة إلى شيءٍ جامدٍ وجدِّي، بل إنَّ الرفاهية ولحظات الراحة أمرٌ هامٌّ جداً، لكي تعرف الدَّاعي لها، ومتى تلجأ إليها، بحيث تكون مدروسةً وتخدم هدفاً معيَّناً.

هل تُحوِّل الوسيلة إلى مصدر، فتضيِّع أكثر؟

  • يُعوِّل الكثير من الناس على أشياء أو أشخاص، بحيث يعتمدون عليهم اعتماداً كاملاً، وتصبح الحياة غير قابلةٍ للعيش من دونهم؛ لأنَّهم باتوا بالنسبة إليهم مصدر الأمان والسكينة. لذلك تجدهم يضيعون تماماً عند غياب الشخص المُعوَّل عليه أو الشيء المُعوَّل عليه، غير مُدرِكين الفارق الشَّاسع بين المصدر والوسيلة.
  • إنَّ اللَّه مصدر كلِّ شيءٍ في الكون، فهو مصدر الأمان والحبِّ والاحترام والخير والرزق والحنان، ويمدِّنا بالأدوات والوسائل التي تجعلنا نعيش الاستمتاع والحبَّ في حياتنا، مثل: الزوج، والعمل، والصحَّة، والأولاد. يضيع الإنسان ويضطرب في اللحظة التي يحوِّل فيها الوسيلة إلى مصدر.
  • تضطرب الفتاة التي تجعل من الزواج هاجساً في حياتها، ومصدراً للأمان والحبِّ والسعادة؛ ولن تبلغ السعادة والسرور، وستشعر بالضياع التام في حال عدم زواجها. فهي حوَّلت الزَّواج من وسيلةٍ إيجابيةٍ للاستقرار في حياة الإنسان، وإضافةٍ جميلة إلى مسار حياته، وتجربةٍ قد يختبرها أو لا يختبرها؛ إلى هدفٍ عظيمٍ ومصدر أمانٍ وسعادة؛ ممَّا جعل التوازن يختل.
  • يُصاب الإنسان الذي يعتمد على المال كأساسٍ للحياة ومصدرٍ للأمان والسكينة والسعادة؛ بالضياع في حال افتقاده للمال، ويعيش بعدها حالة انتظارٍ قاتلةٍ حتَّى يعود إليه. فعوضاً عن ذلك، على الإنسان أن يَعِي أنَّ اللَّه هو الرزَّاق، فيهدأ ويطمئن مهما كانت حالته المادية الحالية، ومن ثمَّ يسعى بجدٍّ ويُقدِّم قيمةً نافعةً للآخرين وبنيَّةٍ صادقة، ويعمل على استدعاء أفكارٍ جديدةٍ باستمرار، تُثرِي من حياته وحياة عائلته، وعندها سيكون المال نتيجةً حتميةً في حياته، وليس هدفاً ومصدراً وهاجساً.
  • يجذب مَن يرى أنَّ حياته متوقِّفةٌ على حصوله على فرصة عمل، وأنَّها ستكون السبب في سعادته؛ إلى حياته وظائف ليست ذات جودةٍ عالية. فعليه أن يَعِي أنَّه غنيٌّ لأنَّ اللَّه غني، وأنَّ الوظيفة هي وسيلةٌ من وسائل الوصول إلى التقدير الذاتي والرزق، وليست المصدر الأساسي لهما؛ ومن ثمَّ عليه أن يُنمِّي من مهاراته وقدراته، ويتأكَّد من الداخل بهدوءٍ واستقرارٍ أنَّ الوظيفة هي محصلةٌ حتميةٌ ستأتي إليه لا محالة، حتَّى إن تأخَّرت.
  • لكي تعلم حجم اعتمادك على الأشياء أو الأشخاص، اسأل نفسك السؤال التالي: "ماذا سأشعر إن فقدتُ هذا الشخص أو هذا الشيء؟" فإن شعرتَ أنَّك ستنهار ويختلُّ توازنك، فهذا دليل على أنَّك تسلك مساراً خاطئاً، وأنَّ عليك توجيه سلوكك باتجاه المصدر الحقيقي للأمور (اللَّه)؛ أما إذا شعرت بالحزن الفطري الطبيعي، ومن ثمَّ عدتَ إلى توازنك وتماسكك، فهذا دليلٌ على مسارك الصحيح.
  • لا يَعِي الشخص الاعتمادي قيمة نفسه وقدراته، فتجده دائم التعويل على أحداثٍ خارجية، وكثير الخوف على الأشياء التي يمتلكها، ودائم الشكوى، ودائم الانتظار من أجل تغيير الأمور؛ فهو لا يعترف أنَّ التّغيير يبدأ من الداخل إلى الخارج. بالإضافة إلى كونه محدود التفكير، ولا يمتلك تدفُّقاً في الأفكار؛ لأنَّه جامدٌ وغير مرنٍ وينظر إلى الأمور من زاويةٍ واحدة.

الخلاصة:

ابقَ هادئاً مطمئناً، واعلم أنَّ اللَّه غني، وأنَّه إلى جانبك دوماً، وأنَّ لديك في كلِّ لحظةٍ الكثير من الخيارات، وتملك كلَّ القدرة والحريَّة على الاختيار فيما بينها؛ لذلك حدِّد ما تريد، وما هي رسالتك في الحياة، وانطلق واثقاً باللّه وبنفسك، وسيختفي الضياع بعد ذلك من حياتك إلى غير رجعة.

 

المصادر: 1، 2، 3




مقالات مرتبطة