الشم: اكتشاف هذه الحاسة المنسية

إنَّ قدرتنا على أن نرى ونسمع ونلمس ونشم تعطينا خمس طرائق لنستكشف بها العالم؛ ولكنَّنا مع هذا نعطي أهمية لحاسة أكثر من الأخرى. بالنسبة إلى معظمنا يأتي النظر في المقدمة، ومن ثم السمع، أمَّا الشم فيأتي في أسفل القائمة.



أهميّة حاسة الشّم:

ربما تفوق ممتلكاتنا هذه الحاسة الأساسية والمهمة؛ إذ سأل استطلاع 7000 شخص ما بين عمري 16 و30 ليختاروا فقط حاجتين ضروريتين من بين قائمة من الأشياء: أدوات التجميل، والسيارة، وجواز السفر، والهاتف، وحاسة الشم لديهم، وقد اختار النصف منهم أن يضحوا بحاسة الشم.

ربما كان ذلك لأنَّ الشم يؤدي دوراً ثانوياً في الحياة الحديثة، فعلى عكس أسلافنا، فإنَّ القليل منا سيكونون قادرين على تمييز ومعرفة الروائح الخفيفة الموجودة في العراء.

تقول "ويندي غاردنر" (Wendy Gardner)، اختصاصية العلاج بالروائح في المملكة المتحدة، إنَّ الشم يمكن أن يكون حاسة بدائية، فعلى سبيل المثال: يستفيد حديثو الولادة من الروائح ليرتبطوا بأمهاتهم؛ ولكنَّها تعتقد بأنَّنا فقدنا الكثير من المعلومات التي كان يجب أن تزودنا بها حاسة الشم.

لقد كنا نستعمل حاسة الشم في السابق في إيجاد الطعام، وفي معرفة طريقنا للمنزل، وفي تجنُّب الوحوش المفترسة - تخيل رائحة الأُسُود النتنة في حديقة الحيوانات - ومعرفة فيما إذا كان بشري آخر مصدر خطر؛ إذ يصدر الخوف روائح معينة، أو في التزاوج في سعينا إلى أن تنال جيناتنا المشتركة أفضل فرصة للبقاء، أمَّا الآن فإنَّ العطور والمستحضرات تغطي الروائح الطبيعية؛ لذا فإنَّ اختيار الرفيق الملائم أصبح أمراً خادعاً".

جميعنا نعجب بروائح معينة ونمقت أخرى، وبالنسبة إلى أسلافنا، فإنَّ هذه الحاسة كانت ضرورية من أجل البقاء، أمَّا الآن فإنَّ الشمَّ قد أصبح عديم الأهمية تقريباً. مثال عن ذلك هو استراتيجية تسويقية تدعى العلامة التجارية الشمية، فتماماً كما يعطينا شعارٌ ما مفهوماً بصرياً، فإنَّ الرائحة ترتبط بالمستهلكين من خلال حاسة الشم.

أظهر المستهلكون المطَّلِعون على رائحة المتاجر، ميلاً إلى إمضاء وقت أكثر في التسوق. ولكن في السنة الفائتة أُعيدَ ربط حاسة الشم بغريزة البقاء؛ وذلك من خلال دليل على أنَّ فقدان حاسة الشم هو إشارة على إصابتك بكوفيد-19، وبدأ العديد بمراقبة تلك الحاسة أكثر.

إقرأ أيضاً: نمِّ قدراتك العقلية من خلال حواسك الخمسة

فقدان حاسة الشم:

لا يُعَدُّ كوفيد-19 المرض الوحيد المؤدي إلى فقدان هذه الحاسة؛ إذ وجدت دراسة من عام 2017 من "مجلة جمعية الشيخوخة الأمريكية" (Journal of the American Geriatrics Society) أنَّ ضعف القدرة على الشم عند كبار السن ممن لديهم قدرات معرفية عادية يؤدي إلى عرضة أكبر إلى الإصابة بمرض الزهايمر لاحقاً، ويُطوِّر الباحثون الآن تشخيصاً معتمداً وغير مكلف لاختبار حاسة الشم؛ إذ إنَّ الرائحة الهدف هي زبدة الفول، كي يُكشَفَ مبكراً عن المرض.

ويرتبط فقدان حاسة الشم كذلك بمرض باركنسون والتصلب المتعدد؛ وهذا يشير إلى ارتباط فعلي بين قدرتنا على الشم والوظائف الدماغية، ولكن وبالنسبة إلى كوفيد-19، فإنَّ فقدان الشم يبدو كعرَضٍ ثانوي.

ومع أنَّنا قد مررنا جميعاً بفقدان مؤقت للشم بسبب الاحتقان المصاحب للزكام أو الحساسيات، إلَّا أنَّ المصابين بكوفيد-19 نادراً ما يُبلغون عن احتقان أنفي؛ ووفقاً لفريق باحثين عالمي يديره علماء أعصاب في "كلية هارفارد الطبية" (Harvard Medical School)، فإنَّ قضية الشم في حالة كوفيد-19 معقدة، ولكن لا داعي للقلق بشأنها.

يشير الباحثون إلى نوع خلايا معينة في التجويف الأنفي العلوي تكون أكثر عرضة للعدوى "بسارس" (SARS-CoV-2)، وهو الفيروس الذي يسبب كوفيد-19، ولا تُعَدُّ الأعصاب الحسية التي تحدد وتنقل حاسة الشم إلى الدماغ من هذا النوع الضعيف للخلايا؛ ولكنَّها لا يمكن أن تعمل دون الخلايا الضعيفة.

ووفقاً لـ "سانديب روبرت داتا" (Sandeep Robert Datta)، وهو بروفيسور بيولوجيا الأعصاب في "كلية الطب بجامعة هارفارد"؛ هذا يعني أنَّ الضرر الذي يحدثه كوفيد-19 من جعل الجسم يفقد حاسة الشم هو ضرر طفيف.

يقول "داتا" في تصريح له: "أعتقد بأنَّه أمر جيد؛ لأنَّه وبمجرد زوال العدوى، فإنَّ الأعصاب لن تحتاج إلى أن تُستبدَل أو يُعَاد تشكيلها من العدم".

ولحسن الحظ فإنَّ حالة فقدان الشم هي العرَض الوحيد لهذه العدوى الشهيرة التي مر بها الكثير من الناس، وتعود حاسة الشم للأغلبية في غضون أسابيع، وعلى كل حال فقلة يفقدون تلك الحاسة على الأمد الطويل.

وبالنسبة إلى بعض الناس فإنَّ الشم يتشوه؛ إذ وجدت دراسة عالمية واسعة النطاق جرى فيها تتبُّع حالات الشم والتذوق مع أكثر من 4000 مصاب بكوفيد-19 أنَّ 6% من الناس قد أبلغوا عن شم روائح غير موجودة، وأبلغ 7% عن روائح مشوهة.

فقدان حاسة الشم

التشوه الشمي:

يمكن أن يجعل التشوه الشمي - ويُعرَف "بباروسميا" (parosmia) - رائحة الليمون كرائحة الملفوف العفِن، أو يجعل رائحة الشوكولا تبدو كرائحة الوقود.

عندما أصيبت "بيث رايدر" (Beth Reider)، وهي مقيمة في ولاية "فلوريدا" (Florida) وفي سن الـ 65 بكوفيد-19 في حزيران/ يونيو 2020، مرت بكل ما ذكرناه، ففي البداية اختفت حاسة الشم لديها، ومن ثم كانت تشم رائحة دخان لا وجود لها، وفي النهاية أصبحت رائحة الأشياء غريبة بالنسبة إليها، وأصبحت حاسة التذوق عندها مشوهة كذلك؛ ولكنَّها تقول إنَّ الروائح كانت تشكل إزعاجاً أكبر لها.

وبعد شهر عاد الشم إليها إلى الوضع الطبيعي ولكن ما زالت اثنتان من أطعمتها المفضلة ذوي رائحة كريهة؛ الفلفل والخس.

تقول "رايدر": "كانت أكثر رائحة تزعجني هي رائحة الخس الروماني؛ فكنت أكتفي ببعض الصلصة فوق سلطة الخضار، أمَّا الآن فعليَّ أن أغرقها بالصلصة كي تغطي تلك الرائحة".

إقرأ أيضاً: آخر الأسئلة المتداولة حول كورونا، وكل ما تحتاج إلى معرفته عن الفيروس

التدريب على الشم:

إن أُصبتَ باضطراب في حاسة الشم، فلا تقلق؛ وذلك لأنَّه يوجد ما يمكنك فعله كي تستطيع أن تقوِّمها. تقول "رايدر" إنَّها أحست بالراحة باستعمالها بعض العلاجات المنزلية من الطب الهندي البديل: قطرة أنفية من زيت الخروع الدافئ.

ويقترح باحثون من "جامعة شرق أنغليا في المملكة المتحدة" (University of East Anglia) طريقةً بديلةً؛ إذ أُجريَت الدراسة قبل شهور من الجائحة؛ ولكنَّها تقترح أنَّ اختلال الرائحة التي يتسبب بها المرض يمكن أن يتحسن بممارسة تمرينات الشم.

يشرح البروفيسور "كارل فيلبوت" (Carl Philpott) من مدرسة "طب نوريتش" (UEA) بأنَّ تمرينات الشم تتضمن على الأقل أربع روائح مختلفة مرتين في اليوم بشكل يومي لشهور عدَّة، ويقول إنَّه علاج خفيف وخالٍ من الآثار الجانبية لكثير من حالات فقدان الشم.

يقول "فيلبوت" في تصريح له: "إنَّها تهدف إلى المساعدة على التعافي بناءً على المرونة العصبية؛ أي قدرة الدماغ على إدراك ذاته ليعوض التغيير أو الإصابة".

في تلك الدراسة، أُعطيَ المشاركون المصابون بخلل في الشم بعد الإصابة الفيروسية أدوات تدريب على الشم، وكانت عبارةً عن مجموعة من الروائح التي تتضمن: زهرة الأوكاليبتوس، والليمون، والورد، والقرفة، والشوكولاتة، والقهوة، واللافندر، والعسل، والفريز، والزعتر الأخضر. وبعد أشهر عدَّة من التدريب، أظهر المشاركون تعافياً ملموساً في وظيفة الشم.

يقول "فيلبوت": "وجدنا أيضاً أنَّ المتقدمين في السن - بشكل خاص - كانوا أكثر قابلية لتحسن الشم لديهم، وكان أكبر تحسن قد حصل لمَن فقدوا أكبر قدرٍ من وظيفة الشم في المقام الأول".

شاهد بالفيديو:أكثر 9 أمور غامضة حول فيروس كورونا.

حاسة مميزة:

لا يجب أن تنتظر لكي تفقد حاسة الشم لتشعرَ بقيمتها، ولكن يمكن أن تساعد معرفة نوعية المعلومات التي يمكن نيلها بتلك الحاسة.

ومع أنَّه من المعروف أنَّ امتلاك الكلاب والفيلة قدرات شمية عالية، فإنَّ القدرة البشرية على الشم ما تزال هائلة؛ إذ وجدت دراسة نُشِرَت في مجلة "ساينس" (Science) بأنَّه يمكن أن يميز البشر 1 تريليون نوعاً من الروائح المختلفة.

تضفي الروائح لوناً إلى حاسة التذوق لدينا، ويمكن أن يستقبل اللسان بالطبع النكهات بنفسه، ولكن إن سبق وتناولت الطعام خلال عدوى أنفية، فستدرك أهمية الشم خلال تناول الطعام.

والميزة الأكثر أهميةً للشم هي مدى تأثيرها في مشاعرنا، استنشِق رائحة قلم تلوين وسوف تسترجع ذكريات الطفولة على الفور أو استنشق عبق نوع معيَّن من منظف الغسيل ولا بد أن تحفز ذكرى معينة حتى لو كانت منذ أكثر من 20 سنة.

لاحظ الناس منذ القدم بأنَّ الروائح مرتبطة بالذكريات، ويقول علماء الأعصاب إنَّ السبب يعود إلى أنَّ الأعضاء الشمية لديها اتصال مباشر مع الجهاز الحوفي، وهو الجزء من الدماغ يدير العواطف والذاكرة؛ إذ تُعَدُّ حاسة الشم مميزة لأنَّه يجب على باقي الحواس جميعاً أن يتلقاها المهاد قبل أن تُرسَل المحفزات إلى أجزاء أخرى من الدماغ من أجل استيعابها أكثر.

تقترح هذه الآليات بأنَّ الرائحة ليست مجرد متعة أو إزعاج، ربما لم نعد نستطيع استعمالها لإيجاد الطعام أو تجنب المفترسين، ولكن كما تقول "غاردنر" ما زلنا نعتمد على هذه الحاسة للشفاء والبقاء بأمان.

على سبيل المثال: ظهر بأنَّ رائحة الطبيعة تقلل من التوتر النفسي، تخيَّل رائحة الصنوبر المنعشة، أو رائحة اللافندر المهدئة أو عبق المطر، وفيما يتعلق بالبقاء فالقدرة على شم وتمييز المواد السامة، سواءً كانت روائح العفن أم تسرب الغاز أم الطعام الفاسد، يمكن أن تحمي سائر الجسد من الضرر.

المصدر.




مقالات مرتبطة