السعي وراء السعادة: إثبات الذات وخطأ هرم ماسلو للاحتياجات

إنَّ أساس الحياة هو تحديد الأشياء الهامة حقاً فيها، فقد يكون المال هو الأهم لبعض الأشخاص، في حين قد تكون العائلة لغيرهم، قد يكون ما يهمُّ الطفل شيءٌ ملموس مثل طبق شهي، في حين قد يكون ما يهمُّ امرأةً مسنة طرح أفكارٍ تجعل ذكراها خالدةً بعد الوفاة



فأكثر ما يقدِّره الناس هو الأمور التي تمنحهم السعادة أو - بعبارةٍ أدق - ما يعتقدون أنَّه سيجلب لهم السعادة، كتقدير اللحظة الحالية دون التضحية بالمستقبل.

لنبدأ بالتعمق في السؤال القديم قِدَم الأزل: هل يمكن للمال شراء السعادة؟ وجد عالِما النفس دانيال كانيمان (Daniel Kahneman) وأنغوس ديتون (Angus Deaton) أنَّ المال لا يشتري السعادة إلَّا حينما تبلغ حصيلة الأموال التي يمتلكها المرء 75000 دولار، ولا يكون لأيِّ زيادة على المبلغ أيُّ أثر حقيقي، قد يختلف المبلغ بالنسبة إليك؛ لكنَّنا نقصد هنا أساسيات الحياة وما يسد رمقنا ويمنحنا الأمان والسعادة. 

يقولون "الصحة ثروة"، والأغنياء يؤكِّدون هذه المقولة وهم محِقُّون، فللعثور على السعادة، علينا أن نبحث في الحياة عن أمورٍ لا تقتصر على المال، فقد تكون السعادة بالنسبة إلى بعض الأشخاص أولى خيوط الشمس التي توقظهم والنهوض مفعمين بالنشاط وبدء يومهم باتخاذ قرارات مدروسة لتحسين أنفسهم، وهؤلاء بمجرد استيقاظهم يبدؤون معركتهم الشاقة، فحياتهم مكرَّسة لتحسين ذواتهم والسعي الحثيث إلى إثباتها، لكن من بين جميع القمم التي عليهم تسلُّقها لبلوغ النجاح، هرم ماسلو (Maslow) للاحتياجات وهو أصعبها. 

هرم ماسلو (Maslow) هو تسلسل هرمي للاحتياجات الأساسية التي يجب على البشر تحقيقها في سعيهم إلى إثبات الذات، أنشأه عام 1943 عالم النفس أبراهام ماسلو (Abraham Maslow) صاحب نظرية "التحفيز البشري" (Theory of Human Motivation)، يقول ماسلو (Maslow): "ما يستطيع الرجل أن يكونه يجب عليه أن يكونه، فهذا ما نسمِّيه تحقيق الذات؛ أي الميل لتحقيق كل ما هو ممكن".

الاحتياجات الأساسية بالنسبة إلى ماسلو (Maslow) هي: احتياجاتٌ جسدية والحاجة إلى الأمان والحب والتقدير وإثبات الذات.

ترتبط السعادة بالنسبة إلى بعض الأشخاص بالرحلة التي يخوضونها لتحقيق هدفهم المنشود بقدر ما ترتبط بالهدف نفسه، وفي الواقع لا يستمر هؤلاء كثيراً في القمة أو لا يريدون صعود القمة أساساً، فبينما يفضِّلون قضاء حياتهم في الصعود ويعانون الصعاب في رحلتهم، ينصحون غيرهم بأهمية النزول أيضاً؛ وهذا يعني التخلِّي عن الطعام والماء والمأوى لأيام عدة في كل مرة، وهذا أمر بالغ الأهمية، فهل يتناسب هذا مع التسلسل الهرمي لماسلو (Maslow)؟ بصراحة لا، فماسلو (Maslow) ارتكب خطأين فادحين.

شاهد بالفيديو: 20 قيمة في الحياة تقودك إلى السعادة والنجاح

أولاً: تفترض نظرية التحفيز البشري أنَّ البشر يشعرون بالرضا عندما يحققون أقصى إنجازاتهم أي يبلغون القمة، لكن تُناقِض هذه الفكرة نفسها: كلما اقتربنا من تحقيق الذات، ازدادت المهارات التي نكتسبها، وكلما ارتفع سقف طموحاتنا، ابتعدنا عن إثبات الذات؛ بعبارة أخرى، كلما حصلنا على نتائج أفضل، عظمت إمكاناتنا، لذا فإنَّ فكرة تحقيق إمكاناتنا لن تكون ممكنة.

ثانياً: إذا قبلنا بمفهوم وجود قمة، فلن يضمن صعود القمة السعادة لمن وصلها، فالقمة ليست ما نتخيَّله، اسأل أيَّ شخص بلغها، ستجد صعوبة وستشعر بالوحدة ببقائك أعلاها.

تُعدُّ قصيدة "ريتشارد كوري" (Richard Cory) للشاعر الأمريكي إدوين أرلينغتون روبنسون (Edwin Arlington Robinson) خير مثال؛ حيث تروي القصيدة حكاية ريتشارد كوري (Richard Cory) الذي كان محط إعجاب سكان المدينة، وكانوا يرونه ويرون ثروته مثالهم الأعلى، وكان من الممكن أن يكون خير مثال لهرم ماسلو (Maslow) لولا نهاية القصيدة: "عاد ريتشارد كوري إلى منزله في ليلة صيف هادئة وأطلق النار على رأسه".

إقرأ أيضاً: كيف تحصل على السعادة والسلام الداخلي

العبرة من هذه القصيدة أنَّك قد تمتلك كل شيء في الحياة؛ لكنَّ الشعور بالفراغ وعدم الاكتفاء لن يفارقك، وفي الواقع، من المرجَّح أن تشعر بالعزلة إذا ظننت أنَّ لديك كل ما تشتهي.

لا ينبغي عدُّ التسلسل الهرمي مساراً يقودك للأعلى دوماً؛ بل علينا تخيُّل العديد من التسلسلات الهرمية مصفوفة بجانب بعضها ودون قمم، تخيَّلها كسُلَّم صاعد يؤدي إلى سُلَّم نازل وهكذا، يحتوي هذا المسار على كل من الوديان والقمم، فعندما نصل القمة، يجب أن نخطط للهبوط، كما لا بدَّ لنا من التحلي بالتواضع لتذكُّر الوضع على القمة.

تتمثَّل متعة الصعاب والسباقات التي خضتها في تخليصك من تقديرك وحبِّك وانتمائك وأمانك وجميع احتياجاتك الجسدية، فعند إكمال هذه التحديات التي تتطلَّب مجهوداً ذهنياً وجسدياً، ستدفع نفسك دون شفقة إلى أسفل التسلسل الهرمي، ولن يبقى لديك شيء سوى دافع العودة إلى القمة.

يجب على الذين يصلون القمة أن يبذلوا جهداً للتخلي عن كل شيء، ولا نقصد بذلك أن تبيع منزلك أو تستقيل من عملك أو تنفصل عن شريكك لتصبح سعيداً؛ بل على سبيل المثال: أن تصوم عن الطعام ليوم واحد، أو تقوم بمبادرات تطوعيَّة لخدمة مجتمعك لمساعدة مَن هم أقل حظاً.

في فيلم "السعي إلى تحقيق السعادة" (In the Pursuit of Happiness)، يتأمَّل بطل الحكاية ذو الحظ السيئ كريستوفر غاردنر (Christopher Gardner) في معنى السعادة قائلاً: "بدأت أفكر في الرئيس الأمريكي السابق توماس جيفرسون (Thomas Jefferson) في يوم إعلان الاستقلال عندما تحدَّث عن حقِّنا في الحياة والحرية والسعي وراء السعادة؛ كيف علِم أنَّ علينا السعي إلى تحقيق غاياتنا؟ ربما تكون السعادة أمراً نقضي عمرنا في البحث عنه دون أن نظفر به؛ لكن كيف علِم هذه الحقيقة؟".

إقرأ أيضاً: كيف تجذب الأفكار السعيدة وتدرب دماغك على السعادة؟

ربما مشوار البحث عن السعادة فيه سعادة، فقد تستيقظ كل صباح عند بزوغ الفجر بحثاً عن شيء لن تجده أبداً وهو إمكاناتك؛ حيث تكون دوماً توَّاقاً للمزيد، وكلما سعيت إلى الوصول إلى القمة تجد أنَّها أعلى مما ظننته وأنَّ الوصول إليها شاق.

إنَّ السعي إلى إثبات الذات مَهمَّة شاقة تتطلب حياةً متفانية؛ لذا آمن أنَّك كلما وصلت إلى قمة ستجد قمة أعلى منها، وآمن أنَّك لن تصل إليها إلا بالعمل الدؤوب، فمن الخطر الإعجاب بالمنظر من الأعلى لفترة طويلة، وفي نهاية المطاف، ما قيمة المنظر دون الرحلة؟

 

المصدر




مقالات مرتبطة