الخوف من السؤال وكشف الجهل: القيد الخفي لريادة الأعمال
كم مرةً جلست في اجتماع أو ورشة عمل، وفهمت نصف ما يقال فقط، لكنك ابتسمت وأومأت وكأنك تدرك كل شيء؟ هذا الصمت ليس حكمة، إنّه قبر بطيء لأفكارك ومشروعك. الخوف من أن يُنظريار إليك كهاوٍ، يدفعك إلى التظاهر بالفهم. والنتيجة: تفقد الفرصة الأهم التي كان يمكن أن تغيّر مسارك—فرصة السؤال.
المفارقة الصادمة: الناس قد يسخرون ممن يسأل (ربما لأنّه يعترف بأنّه لا يعرف)، وقد يسخرون ممن يكرر نفس الأخطاء؛ لأنّه لم يسأل! (ربما لأنّه لم يحاول أن يعرف).
يبدو جليّاً أن هناك ثقافة غريبة تكرَّست لدينا تتلخص بأفضلية التظاهر بالمعرفة على الاعتراف بنقصها، أو على السؤال خوفاً من وصمة الجهل الجاهزة دائماً للإطلاق على من يعترف بعدم المعرفة، وليس أدل على ذلك من كم الإجابات الخاطئة والمستهجنة أحياناً التي يطالعنا بها الإعلام في مقابل ندرة ما نسمعه من أناس يقولون بثقة وشجاعة كلمة "لا أعلم".
الصمت بدافع الخوف لا يحميك، بل يعريك ببطء أمام السوق.
إذا سألت فسأبدو جاهلاً.. وسيفقد الناس احترامهم لي
يشكّل هذا المعتقد قيداً نفسيّاً خطيراً لدى رائد الأعمال؛ إذ يدفعه إلى التجوّل خلف قناع المعرفة بدلاً من طرح الأسئلة الضرورية. لكن الواقع يثبت العكس: التظاهر بالفهم لا يخفي الجهل، بل يُكشف ببطء عندما تبدأ الأخطاء بالتراكم، وتتجلّى في النتائج المتدهورة.
في دراسة تحليلية منشورة في "هارڤارد بيزنيس ريڤيو" (Harvard Business Review) تطرّقت فيها الباحثة "فرانسيسكا غينو" (Francesca Gino) إلى دور الفضول (curiosity) في بيئة الأعمال، ووجدت أنّ القدرة على طرح الأسئلة — التي تعكس الفضول — تحسّن تحسيناً ملموساً عمليات اتخاذ القرار. إضافةً إلى أنّها تقلل الانحيازات الإدراكية، مثل تأكيد المعتقدات (confirmation bias)، وهو ميلنا للبحث عن المعلومات التي تؤكد آراءنا المسبقة وتجاهل ما يخالفها. عندما تَطرح الأسئلة، فإنك تفتح عقلك للبيانات الجديدة التي قد تغير رأيك، وهذا يجعلك ترى الصورة كاملة.
كما يعزز الفضول التعاون ضمن الفريق؛ فعندما يشعر أفراد الفريق بالحرية في طرح الأسئلة، حتى لو كانت تبدو بسيطة، فإنّ ذلك يكسر الحواجز ويجعلهم يشاركون أفكارهم بصراحة أكبر، ويؤدي إلى نقاشات أعمق وأكثر ثراءً. وهذا بدوره ينعكس على المقاومة التنظيمية، لأن الفرق التي تتعلم وتتطور من أخطائها تكون أكثر قدرة على مواجهة التحديات بمرونة. هذا المناخ الإيجابي يشجع على الابتكار؛ لأنّ الأفكار الجديدة لا تُولد في بيئة تفرض على الأفراد الصمت، بل في بيئة تحتفي بالفضول وتشجع على التجريب.
باختصار، الاعتقاد بأنّ "السؤال يجعلك تبدو جاهلاً" هو قناع يُستخدم لحماية الذات، لكنّه يقود، في النهاية، إلى نتائج عكسية تتمثّل بـ: قرار ضعيف، ومسار غير مدروس، وفجوة معرفية تتسع. بينما يمثّل كل من الفضول الحقيقي والقدرة على الاعتراف بعدم المعرفة، الخطوة الأولى نحو المعرفة، وهما علامة القوة الحقيقية لقيادة مستنيرة وقادرة على التعلم.
لا يحمي الخوف من طرح الأسئلة سمعتك، بل يعرّض مستقبل مشروعك للخطر. أما الجرأة على السؤال، فتُعد عنوان الشجاعة الحقيقية نحو الازدهار والتميّز.
السؤال شجاعة.. ومن يسأل يتعلم أسرع ممن يتظاهر
“إذا كان لديّ ساعة لحل مشكلة… فإني سأقضي أول 55 دقيقة في تحديد السؤال الصحيح” — ألبرت أينشتاين.
رغم المبالغة الظاهرية التي تنطوي عليها هذه العبارة لألبرت أينشتاين، إلا أنّه يمكن النظر إليها بعدّها تعبيراً مجازياً عن ضرورة وأهمية توجيه السؤال الصحيح عند مواجهة مشكلة ما، فالاعتراف بالجهل لا يعني الضعف - خصوصاً في مجال ريادة الأعمال - بل هو نقطة انطلاق نحو بناء معرفة عميقة وحقيقية؛ والسؤال ليس مجرد استعلام، بل هو وقود التطور والنمو.
بحسب بحث "فن طرح الأسئلة الذكية" (The Art of Asking Smarter Questions) الذي نشرته "هارفارد بيزنيس ريڤيو" (2024)، فيمكن لطرح أسئلة منتجة أن يُسرّع من وتيرة اتخاذ القرار؛ إذ يساعد على تقييم الموارد والقدرات المتاحة، ويسهم في توجيه التفكير الاستراتيجي بأفضل السبل.
وليس هذا فحسب؛ إذ أظهرت دراسة من جامعة هارفارد بعنوان: "قد يساعدك طرح الأسئلة في الحصول على وظيفة أفضل أو موعد ثانٍ" (Asking Questions Can Get You a Better Job or a Second Date)، أنّ الأشخاص الذين يطرحون أسئلة متابعة يُنظر إليهم على أنّهم أكثر ذكاءً عاطفياً ويتعلمون بالفعل أكثر من الآخرين الذين لا يسألون .
في سياق ريادة الأعمال، يُترجم هذا إلى السرعة في التعلم وفهم السوق والبناء السريع للخبرات. فبدلاً من إضاعة الوقت في التظاهر، يبني رائد الأعمال المعرفة من خلال فضوله الاستقصائي وجرأته في السؤال؛ فالقدرة على طرح السؤال المناسب تفتح المجال لتولّد ابتكاراً أعمق وتحدياً فعلياً للواقع القائم، وهو ما يُعد من السمات الجوهرية للمؤسسات الريادية الناجحة.
باختصار، لا يقلّل السؤال من قيمة رائد الأعمال، بل بالعكس، هو دليل على قوته الفكرية وشجاعته. رائد الأعمال الذي يسأل، لا يتعلم بسرعة فحسب، بل يبني ثقافة من الفهم العميق والابتكار الحقيقي، ويكون دوماً في موقع القيادة الحقيقية نحو التغيير.
شاهد بالفيديو: كيف تكتسب عقلية النمو بوصفك رائد أعمال؟
وصفة النجاح: كيف تحوّل السؤال إلى قوة؟
السؤال هو المفتاح الذي يتفاعل مع عقل رائد الأعمال ليكشف فجوات المعرفة ويبني عليها؛ بمحاولة ردمها من خلال الأسئلة المدروسة والشجاعة، بحيث يتحول الجهل إلى بوابة نحو فهم أعمق.
1. ميّز بين الجهل والاعتراف به
في ريادة الأعمال، الجهل الحقيقي ليس أن نجهل، بل أن نتجاهل أو ننكر الجهل. اعترف "وارن بافيت" علناً بعدم فهمه لطبيعة شركات التكنولوجيا لفترة طويلة، رغم ضخامة نفوذها؛ إذ صرح قائلاً بأنه "لم يكن يفهم نماذج أعمال "جوجل" و"أمازون" (Google) و(Amazon) على نحو كافٍ" مما منعه من الاستثمار مبكراً، لكنه اليوم بات يُدرك أن الاعتراف بحدود معرفتنا هو أساس التعلم والنمو.
الدرس: الاعتراف بالجهل ليس ضعفاً، بل بداية الحكمة؛ وهو خطوة تمكّن عقلية رائد الأعمال من التعلم المستمر وتطوير الثقة بالنفس.
2. ابنِ شبكة من "المعلّمين"
السؤال ليس فقط وسيلةً لاستكشاف المعرفة، بل لبناء شبكة معرفية حقيقية. مثلاً ، كان "بيل غيتس" يُجري ساعات من النقاش مع خبراء في شركة "آي بي أم" العالمية (IBM) في بداياته، ما ساعده على فهم الصناعة وتوسيع مايكروسوفت.
الدرس: لا تُنشئ الأسئلة المتواصلة والهادفة حولك شبكة معرفة أقوى من رأس المال وحده فقط، وإنما تُعزز عقلية التعلم المستمر وتؤدي لتنامي الثقة الذاتيّة.
3. اطرح السؤال مبكّراً.. قبل أن يصبح الخطأ مكلفاً
كل يوم يتردّد فيه رائد الأعمال في طرح سؤال بسيط، يكلفه سنوات من التصحيح والخسائر. في حالة شركة "سبيس إكس" (SpaceX)، واجهت الشركة إخفاقات متكررة في إطلاقاتها الأولى— الفشل الأول والثاني والثالث حتى كاد يقضي على المشروع. لكن إيلون ماسك استمر في التساؤل الدقيق مع المهندسين، مستفسراً عن كل تفصيل صغير، حتى تحقق النجاح الرابع الذي أدى إلى استمرارية الشركة ونجاحها في إطلاق صواريخ قابلة لإعادة الاستخدام .
مثال من العالم العربي
واجهت شركة "كريم" (Careem) تحديات تقنية وتشغيلية في بداياتها، لكن مؤسسيها اختاروا الإصغاء المباشر لأسئلة وملاحظات السائقين والركّاب منذ المراحل الأولى. بحسب مقابلة مع مدثر شيخة في هارفارد بزنس ريفيو العربية، فإنّ كثيراً من التعديلات على التطبيق ونموذج التشغيل جاءت نتيجة هذا الاستقصاء المبكر من الميدان، ما ساعد على تفادي أخطاء كبيرة لاحقاً وتطوير تجربة استخدام أكثر ملاءمة.
الدرس: يُجنّبك السؤال المبكر الخسارة التي تسببها الأخطاء المتراكمة، ويقدّم لك فرصة التعلم قبل الوقوع في فخ الأخطاء الفادحة، أو المؤثرة بعمق، أو التي يكون إصلاحها مرتفع التكلفة.
4. دوّن أسئلتك لتكشف نمط تفكيرك
السؤال الذي لا يُكتب غالباً يضيع. تدوين الأسئلة ليس مجرد ممارسة بسيطة، بل هو أداة استراتيجية تساعد رائد الأعمال على تتبع أنماط تفكيره وفهم الفجوات في معارفه. عندما تكتب أسئلتك، فإنك تحوّل ما هو عابر في ذهنك إلى دليل عملي يوضح لك أين تحتاج إلى البحث، وماذا عليك أن تتعلم لاحقاً.
كثير من رواد الأعمال يظنون أن الأفكار أو التساؤلات ستظل عالقة في الذاكرة، لكن التجربة تُثبت العكس: الذاكرة خادعة، بينما الورق (أو الملف الرقمي) يحتفظ بالأفكار كخارطة ذهنية يمكن الرجوع إليها وتطويرها.
توماس إديسون، على سبيل المثال، لم يصل إلى اختراع المصباح الكهربائي من المحاولة الأولى، بل احتاج إلى آلاف التجارب، وكان يعتمد على دفاتر مليئة بالأسئلة والملاحظات اليومية التي دوّنها بنفسه. لقد أرّخت مؤسسة "سميثسونيان" (Smithsonian) هذه الدفاتر كونها كنز معرفي يظهر كيف كان إديسون يدوّن أسئلةً، مثل: "ما المواد التي يمكن أن تصمد أكثر داخل الفتيلة؟"، ثم يحوّل السؤال إلى سلسلة من التجارب التي قادته في النهاية إلى الحل العملي (Smithsonian Institution, 2016).
يكشف تدوين الأسئلة أيضاً أنماطاً خفيةً في طريقة تفكيرك. قد تكتشف أنّك تعود لتطرح نفس النوع من الأسئلة حول موضوع محدد — كالسوق المستهدف أو استراتيجيات التسويق — وهذا مؤشر واضح على فجوة معرفية تستحق التركيز عليها. كذلك، يساعد التدوين في ترتيب الأولويات؛ إذ يمكن تصنيف الأسئلة بين ما هو ملحّ ويحتاج إلى إجابة عاجلة، وبين ما يمكن تأجيله لمراحل لاحقة.
الدرس: أسئلتك اليوم هي بذور إنجازاتك واختراعاتك غداً. التدوين ليس مجرد حفظ للأفكار، بل ممارسة للتعلّم المستمر، تمنحك القدرة على إعادة النظر وتوسيع وتحسين نطاق تفكيرك بمرور الوقت.
شاهد بالفيديو: 10 أسئلة من شأنها تحسين نتائجك في أي مجال
5. اجعل ثقافة السؤال جزءاً من فريقك
في بيئة العمل، إذا كان الموظفون يخشون طرح الأسئلة خوفاً من السخرية أو فقدان مكانتهم، فإنّ الابتكار يتوقف قبل أن يبدأ. رائد الأعمال الناجح لا يكتفي بطرح الأسئلة بنفسه، بل يزرع ثقافة السؤال في فريقه، فعندما يرى الفريق أن القائد يسأل علناً ويعترف بعدم معرفته أحياناً، يصبح السؤال ممارسة طبيعية وليست عيباً.
تُعد شركة "جوجل" (Google) نموذجاً واضحاً في هذا السياق؛ إذ في تقرير نشرته مجلة مكنزي كوارترلي McKinsey Quarterly (2017) حول ثقافة الابتكار، تم الإشارة إليها بأنّها قد حافظت على بيئة تُسمى (psychological safety)، أي "الأمان النفسي"؛ إذ يمكن للموظفين أن يسألوا دون خوف من حكم الآخرين. هذا المبدأ الذي يقول: "لا يوجد سؤال غبي" لم يكن مجرد شعار، بل ممارسة يومية داخل فرق العمل، ما ساعد على إطلاق منتجات ابتكارية، مثل "جيميل" (Gmail) و"خرائط جوجل" (Google Maps)، التي وُلدت أصلاً من نقاشات وأسئلة بسيطة طرحها مهندسون صغار داخل الشركة.
يعني غياب ثقافة السؤال أنّ وهم الثقة الزائفة ينمو بدل أن يتلاشى، وأنّ الأخطاء تتكرر بصمت، والأفكار تموت في مهدها. أما وجودها، فيفتح الباب أمام المشاركة الجماعية وتوليد أفكار لم يكن من الممكن أن تأتي من شخص واحد فقط، أو من بيئة فردية ضعيفة الفاعلية والكفاءة.
الدرس: الشركة التي لا تسأل… لا تبتكر. وكرائد أعمال، إن لم تُعطِ موظفيك الشجاعة لطرح الأسئلة، فأنت تضيّع على نفسك مزايا شراكة المصير التي تُعد أحد أهم الموارد الاستراتيجية: العقول التي تفكّر معك، لا لأجلك فقط.
في الختام: الخوف من طرح الأسئلة ليس حذراً.. بل قيد يسرق منك فرص التعلّم ويمنعك من النمو
في ريادة الأعمال، الجرأة على الاعتراف بعدم المعرفة، وطرح السؤال في اللحظة المناسبة، هما الفارق بين من يتوقف عند حدود التظاهر، ومن يكسر هذه الحدود ليبني معرفة حقيقية.
تذكّر أنّ السوق لا يرحم، وأنّ الصمت لا يحميك، بل يعرّيك ببطء أمام المنافسة. فوحده السؤال هو البوابة التي تفتح لك طرقاً لم تكن تراها، وتضعك في مسار أسرع نحو التعلّم المستمر والابتكار.
إقرأ أيضاً: 5 خرافات متداولة حول ريادة الأعمال
لا يكون رائد الأعمال الحقيقي مَن يتظاهر بأنّه يعرف كل شيء، بل مَن يملك الشجاعة والحنكة ليقول بطرائق ذكية وغير مباشرة تٌجَنِّبُه الحرج وسوء الفهم: "لا أعلم.. علّمني". فهناك، في لحظة الاعتراف والسؤال، تبدأ قصتك مع النمو والقيادة والتواضع.
الصمت خوف… والسؤال قوة.