الحياة ليست معادلة صفرية
هل يعني النجاح أن يخسر أحد ليكسب الآخر، أم يمكن تحقيق النجاح المشترك الذي يكسب فيه الجميع معاً؟
هذا ما يطلق عليه "العقلية الصفرية" أو ما يعرف بـ "إما أنا أو غيري"، والتي تمثل العدسة التي يرى بها كثيرون العالم؛ إذ يُنظر إلى النجاح كمورد محدود لا يمكن للجميع أن يحصل عليه في الوقت ذاته، وهي طريقة تفكير شائعة في بيئات العمل تزرع صراعاً دائماً، وتحدّ من التعاون والابتكار، وتؤثر سلباً في الأداء الفردي والجماعي.
يحوّل هذا التفكير الحياة إلى ساحة معركة مستمرة؛ إذ يُحسب كل نجاح على حساب آخر، وتصبح العلاقة مع الآخرين قائمة على المقارنة والتنافس المستمر. في مشهد واقعي يتحدث موظف في اجتماع قائلاً: "لو أخذ زميلي هذا المشروع، فلن يبقى لي شيء."
لذا، يبقى السؤال: ما هو الثمن الحقيقي لهذه الحرب الوهمية؟
يسلّط هذا المقال الضوء على طرائق تحويل العقلية الصفرية إلى فرص للتعاون والنمو، مستنداً إلى أمثلة عالمية وعربية ودراسات علمية تثبت أنّ القوة الحقيقية تتضاعف عندما ينجح الجميع معاً.
تداعيات القناعة: "إما أنا أو غيري"
غالباً ما تعمل هذه القناعات في الخفاء، متسللةً إلى حياتنا اليومية بصورة تصعب ملاحظتها، لكنّها تترك تدريجياً أثراً سلبياً عميقاً في طريقة التفكير والتصرفات واتخاذ القرارات على مختلف المستويات ومنها:
1. على مستوى الفرد
- التوتر والقلق المستمر: يعيش الفرد في ضغط نفسي دائم، تُستهلك طاقته الذهنية في مراقبة نجاحات الآخرين ومحاولة منافستهم باستمرار، ما يقلل من التركيز على تطوير مهاراته وقدراته الشخصية.
- الانشغال بإطفاء نور الآخرين: ينشغل بمحاولة التقليل من إنجازات الآخرين، بدل استثمار طاقته في بناء إمكاناته وتحقيق أهدافه الخاصة، مما يؤدي إلى شعور دائم بالنقص وعدم الرضا.
2. على مستوى العلاقات
- انعدام الثقة: تصبح العلاقات بين الأفراد هشّة؛ إذ يُنظر لكل طرف على أنّه منافس محتمل يسعى لأخذ نصيبه على حساب الآخرين.
- غياب التعاون: يحل التكتيك والمناورة محل الصراحة والعمل الجماعي، وتضعف الروابط المهنية والاجتماعية، ما يجعل الشراكات قصيرة الأمد وغير فعّالة.
3. على مستوى المؤسسة
- تحول بيئة العمل إلى ساحة صراع خفية: تتشكل "جزر" منعزلة داخل المؤسسة؛ إذ يسعى كل قسم أو فريق لتحقيق مصالحه الفردية على حساب الأهداف المؤسسية.
- موت الابتكار والإبداع: الأفكار العظيمة نادراً ما تولد في عزلة؛ إذ يتغذى الابتكار على النقاش المفتوح والعصف الذهني الجماعي، وهذه العقلية تمنع ذلك.
- فقدان القوة التآزرية: تفقد المؤسسة أهم أصولها، وهو القدرة على العمل الجماعي والتكامل بين فرقها، مما يقلل من الإنتاجية ويعوق تحقيق أهدافها الاستراتيجية.
شاهد بالفيديو: 7 نصائح لتحسين التعاون بين أعضاء فريق العمل
الرؤية التي غيرت المعادلة: قوتي تنمو عندما نربح معاً
"التعاون ليس موقفاً فحسب، بل هو الطريق إلى تحقيق إنجازات لا يمكن أن يحققها أي فرد بمفرده." ستيفن كوفي.
لا تعني هذه الرؤية التنازل عن حقوقك أو التخلي عن طموحك، بل تعكس إدراكاً عميقاً بأنّ النجاح ليس مورداً محدوداً، بل طاقة تتضاعف عندما يتم مشاركتها. أظهرت الدراسات أنّ التعاون المشترك يعزز الأداء الفردي والجماعي على حد سواء؛ فمثلاً، أظهرت دراسة من جامعة ستانفورد أنّ الموظفين في بيئة تعاونية أكثر إنتاجية بنسبة 50% مقارنة بزملائهم الذين يعملون فردياً.
كما أوضحت دراسة نشرتها "هارفارد بزنس ريفيو" أنّ الفرق التي توازن بين السلطة والتعاون تكون أكثر ابتكاراً بنسبة 60% وأكثر إنتاجيةً بنسبة 50%. تؤكد هذه النتائج أنّ القوة الحقيقية لا تكمن في التفوق على الآخرين، بل في تحويل طاقات الفريق المشتركة إلى بيئة عمل مزدهرة وناجحة.
الأدلة والأمثلة الداعمة
"تلتهم الثقافة التنظيمية الاستراتيجية على الإفطار، والثقافة القائمة على التعاون هي التي تبني المستقبل." بيتر دراكر.
تشير الأدلة إلى أنّ الفرق التي تتبنى عقلية التعاون المشترك تحقق نتائج أفضل على مختلف الأصعدة، ونذكر من أبرز هذه الأمثلة:
1. جوجل – مشروع أرسطو
أطلقت "جوجل"، في عام 2012، "مشروع أرسطو" لدراسة عوامل نجاح الفرق. أظهرت النتائج أنّ العامل الأهم لم يكن الذكاء الفردي، بل "الأمان النفسي" (Psychological Safety)، الذي يسمح للأعضاء بالتعبير عن أفكارهم دون خوف من الحكم عليهم. يشير هذا إلى أنّ بيئة التعاون تساهم مساهمةً كبيرةً في الأداء العالي للفرق.
2. دراسة علمية: "الميزة التعاونية" من هارفارد بزنس ريفيو
تشير "روزابيث موس كانتر" في مقالها "الميزة التعاونية: فن التحالفات" (Collaborative Advantage: The Art of Alliances)، إلى أنّ الشركات التي تبني ثقافات، تشجع على التعاون ومشاركة المعرفة تتفوق منهجياً على منافسيها. لا تسجل هذه الشركات أداءً مالياً أعلى فحسب، بل تتمتع بقدرة أكبر على الابتكار وحل المشكلات المعقدة.
نقاط المراجعة: لحظة صدق مع الذات
قبل أن نبدأ في معالجة المعتقدات السلبية، من الهامّ أن نواجه الحقيقة بصراحة: كيف ترى العالم من حولك؟ يساعدك التفكير العميق في هذه الأسئلة على اكتشاف أنماط سلوكك ومعتقداتك المخفية، ويشكل الخطوة الأولى نحو التغيير.
السؤال |
الهدف من السؤال |
هل تفرح بصدق لنجاح زملائك، أم تشعر بوخزة من القلق أو الغيرة وتعدّه تهديداً شخصياً لك؟ |
قياس مدى تأثرك بعقلية؛ "إما أن أربح أنا أو يربح غيري"، ومدى قدرتك على تبني الفرح بالنجاح الجماعي. |
هل تتردد أحياناً في مشاركة معلومة أو فكرة مفيدة خوفاً من أن يستفيد منها غيرك أكثر منك؟ |
استكشاف سلوك الاحتفاظ بالمعلومات ومدى ثقافتك في التعاون والمشاركة. |
هل تنظر إلى التعاون على أنّه تنازل أو خسارة لجزء من "حقك" في التألق والتقدير؟ |
تقييم مدى قدرتك على رؤية التعاون كفرصة للنمو المشترك وليس كخسارة شخصية. |
هل لديك في حياتك أمثلة حقيقية لنجاحات مذهلة لم تكن لتتحقق لولا وجود شريك أو فريق بجانبك؟ |
التعرف على تجاربك السابقة التي تثبت قوة العمل الجماعي وأثره في النجاح. |
إقرأ أيضاً: معنى النجاح وأهمية التعاون مع الآخرين في سبيل تحقيقه
خطوات عملية للانتقال من عقلية الندرة إلى عقلية الوفرة
"من الأفضل أن ترتبط بأشخاص أفضل منك، لأنك ستتجه في النهاية إلى الاتجاه الذي يسيرون فيه." وارن بافيت.
يتطلب التحرر من سجن المعادلة الصفرية تدريباً متعمداً للعقل. إليك 5 خطوات عملية لبدء هذه الرحلة:
الخطوة العملية |
الخلفية الاستشارية |
التنفيذ |
النتيجة المتوقعة |
|
النجاح ليس كمية ثابتة، بل مساحة تنمو بالتعاون. فكرة جديدة لا تنقص من قيمة الأفكار الأخرى. |
خصص 10 دقائق لتدوين 3 أمثلة حقيقية حولك لنجاحات تضاعفت بسبب التعاون. |
يبدأ عقلك في ملاحظة أنّ الكسب الجماعي يزيد من حجم "الكعكة" للجميع، بما في ذلك أنت. |
|
عقلية الندرة تخلق الخوف، بينما عقلية الوفرة تخلق الثقة والفرص. |
مارس يومياً عادة "مشاركة" صغيرة: مشاركة معلومة، أو تقديم دعم معنوي. |
برمجة العقل على أنّ العطاء والمشاركة يفتحان مساحات جديدة من الثقة والفرص. |
|
لا أحد يصل إلى القمة بمفرده. |
اختر زميلاً واحداً واعمل معه على هدف صغير مشترك هذا الأسبوع. |
تكسر حاجز المنافسة الوهمي، ويبدأ بناء جسر من الثقة، محوّلاً الخصم المحتمل إلى حليف. |
|
علاقاتك المهنية هي أكثر عملة قيمةً؛ "ماذا يمكن أن أقدم؟". |
انضم إلى مجتمع مهني أو مجموعة تعلم وشارك بخبرتك. |
بناء شبكة ثقة حقيقية تفتح أبواباً وفرصاً أوسع من قدراتك الفردية. |
|
للنجاح الفردي سقف محدود، بينما يكون تأثير نجاح المجموعة مضاعفاً. |
ضع مؤشرات أداء تشاركية بجانب أهدافك الفردية، مثل عدد الأشخاص الذين ساعدتهم |
إعادة تعريف معنى النجاح ليصبح مرتبطاً بالأثر الذي تتركه في من حولك، ما يمنح شعوراً أعمق بالإنجاز والرضا. |
في الختام، الحياة ليست ساحة صراع على فتات محدود، بل فضاء رحب لبناء جسور وفرص مشتركة، والقوة الحقيقية تتجلى حين نتجاوز عقلية أنا أو الآخر، وندرك أنّ النجاح لا يتحقق فردياً بل جماعياً. وعندما نصعد معاً، يتحول كل إنجاز إلى طاقة مضاعفة، وكل خطوة إلى نجاح مشترك يعود بالنفع على الجميع.