الحزم فضيلة يمكن لأي شخص تطويرها مع الممارسة

عندما كنتُ طالبة في السنة الأولى، عملت في وقت متأخر من إحدى الأمسيات على مشروع اقترب موعد تسليمه، وبينما كنت جالسة إلى مكتبي سألني أحد الزملاء من السنة الأخيرة إن كنتُ أملك بعض الوقت؟ فقلت له: "بالتأكيد"، فشارَكَني خططه لبحثٍ يعمل عليه وطلب رأيي فأجبته، ومن ثم طرح عليَّ سؤالاً فأجبته، واستمر الأمر مراراً وتكراراً وبدأ الظلام بالحلول خارجاً ولم أُعدِّل أي تعديل على مستند "وورد" (Word) الذي أنشأتُه على جهاز الحاسوب الخاص بي.



ملاحظة: هذا المقال مأخوذ عن المدونة "ريبيكا روتش" (Rebecca Roache)، والتي تُحدِّثُنا فيه عن تجربتها في تطوير الحزم.

كنت أتساءل كيف يمكنني التخلُّص من هذه المحادثة، ومن ثم جاءت فرصتي عندما توقف عن الكلام ثم قال: "أنا آسف، هل ألهيك عن شيء ما؟" فكرت في أن أقول له: نعم، أريد أن نتوقف عن الكلام الآن، ولكن ما نطقت به كان: "لا، لا على الإطلاق".

غادرت المكتب بعد مضي أكثر من ساعة، وعدم إحراز أي تقدم في عملي الخاص، وكنت أشعر بالانزعاج من نفسي، فبالتأكيد يجب أن أكون قادرة على التهرب بلباقة من مثل هذا النوع من المواقف، ومن ثم فكرت في كل الناس الذين أعرفهم - الأصدقاء والزملاء - الذين كانوا سيحسنون استثمار وقتهم.

قال أحد الزملاء بشكل مفاجئ وهو محرج: "أحتاج إلى العودة إلى العمل"، كما لو أنَّه يحاول الانسحاب بسرعة ووافقه أحد الأصدقاء الرأي بشكل لبق؛ إذ قال بطريقة ودودة ولكن لا تخلو من الصرامة: "هذا يبدو رائعاً، حظاً سعيداً"؛ وهذا ساعد على إنجاز الأمور بسرعة؛ ولكنَّني لم أتخيل نفسي أقول تلك الأشياء، فلَم أكن من ذلك النوع من الأشخاص، والجميع يعرف ذلك.

ينتج عن البحث على موقع "غوغل" (Google) عن "كيفية أن تكون أكثر حزما" ظهور أكثر من 22 مليون نتيجة؛ إذ تواجه النساء مشكلات في الحزم أكثر من الرجال: فقد وجدت دراسة أجراها برنامج "بوابة العمل بين الجنسين" (the Gender Action Portal) في جامعة "هارفارد" (Harvard) أنَّ النساء يتنازلن في مفاوضات الرواتب في وقت أبكر من الرجال ويتوقعن نتائج أفضل، وتثبطهن تصورات الآخرين للحزم كسمة غير أنثوية.

أنا أكثر حزماً مما كنت عليه وخصوصاً عند الضرورة؛ فأنا أم عزباء وأعمل في وظيفة بدوام كامل، وتُعَدُّ تلبية المطالب مسألة حياة؛ ولكنَّني تغيرت بطريقة أخرى أيضاً؛ إذ أتقنت الفلسفة في الميتافيزيقا، إلَّا أنَّني لم أعد أملك الكثير من الوقت للفلسفة التي ليست ذات صلة مباشرة بالقضايا التي يواجهها الناس العاديون كل يوم، ولقد أثر ذلك في نوع البحث الذي أقوم به، وكما غير اهتماماتي بعيداً عن مجال بحثي أيضاً.

بعد أن أدركت أنَّ التحليل الفلسفي يمكن أن يساعد الناس على التفكير في مشكلاتهم، بدأت التدريب؛ إذ تتضمن إحدى الاستراتيجيات التي غالباً ما أستعملها تطبيقاً لفلسفة "أرسطو" (Aristotle) بهدف مساعدة الناس على أن يصبحوا أكثر حزماً.

لقد كان "أرسطو" مهتماً بكيفية عيش حياة جيدة، ويحتاج عيش حياة جيدة إلى التمتع بشخصيةً فاضلة؛ إذ إنَّ الفضائل سمات الشخصية التي توجد في منتصف طيف رذيلتين؛ لذا اللباقة فضيلة نجدها على طيف بين رذائل عدم الأمانة والصراحة الفظة، كما تكمن الشجاعة بين التهور والجبن، ويكمن الود بين المجاملة والفظاظة، وإنَّ الاعتقاد بأنَّ الفضيلة تكمن في الاعتدال ليس مقتصراً على "أرسطو"؛ بل نجده أيضا في عديد من الأديان.

يتمتع الاعتدال بجاذبية بديهية، فالأطفال سريعون في إدراك أنَّ قول الأكاذيب سوف يوقعهم في المشكلات، ولا يتحلون بالشجاعة الكافية للتحدث بصراحة عن مدى سوء جليساتهم، ومع ذلك عندما يتعلق الأمر بالصفات التي نشعر بالقلق إزاءها عادةً ما يغيب الاعتدال عن البال، ويؤدي القلق إلى التفكير المفرط أو عدم التفكير مطلقاً بالحزم؛ ونتمنى أن نتمكن من الدفاع عن أنفسنا؛ ولكنَّنا نخشى أن نبدو متعجرفين إذا فعلنا ذلك؛ لذلك تتقلص خياراتنا إلى خيار بين "النجاح" و"الغطرسة"، بينما ما نزال متفهمين للغاية.

إنَّ فرط التفكير أو عدمه - والذي يسميه علماء النفس "التقسيم" (splitting) - هو أحد أعراض اضطرابات شخصية معينة؛ إذ إنَّها ذكريات متبقية من طفولتنا عند رؤيتنا للعالم لأوَّل مرَّة عندما كان الناس إمَّا "أخياراً" أو "أشراراً"، وفي نهاية المطاف نتعلم أن نرى الفروقات الدقيقة بين النقيضين؛ ولكنَّنا جميعاً ننزلق إلى التفكير المفرط أو عدم التفكير في بعض الأحيان؛ إذ إنَّ تذكير أنفسنا بأنَّ الحزم مثل الصدق، موجود على طيف وأنَّ الفضيلة تكمن في الاعتدال؛ هي إحدى الوسائل التي يمكن أن يساعدنا بها اتباع نهج "أرسطو" على أن نكون حازمين بشكل مناسب.

شاهد بالفديو: كيف تستطيع أن تكون حازماً دون وقاحة

اتِّباع الحزم غير مريح للأشخاص الذين لم يعتادوا على ذلك، فكيف يمكن للمعتدلين منا التصرف بحزم دون الشعور بالإحراج؟ في هذه الحالة يمكن أن يقدم "أرسطو" لهم العون، فالفضيلةُ تحتاج إلى تعلُّم، ونحن لا نولَد متناغمين بالفطرة مع التوازن الصحيح بين عدم الأمانة والصراحة الفظة والجبن والتهور والمجاملة والفظاظة، وهلم جراً.

نحن بحاجة إلى تطوير العادات الإيجابية، ويتم ذلك بواسطة الممارسة، وشدَّد "أرسطو" على أهمية المجتمع المحلي والتعليم والاقتداء بالآخرين في هذه العملية؛ وذلك من خلال إحاطة أنفسنا بأشخاص فاضلين والسير على خطاهم واتباع نصائحهم وإرشاداتهم؛ وبذلك نتعلم أن نكون فاضلين، وهذه نقطة معروفة فأجيال الآباء والمعلمون يشعرون بالقلق إزاء وجود قدوة إيجابية للأطفال؛ إذ ادعى رجل الأعمال الأمريكي والمتحدث التحفيزي "جيم رون" (Jim Rohn) أنَّنا نتاج الأشخاص الخمسة الذين نقضي معهم معظم وقتنا.

تذكَّر أنَّ الشخص الذي تقتدي به حازم وليس متغطرساً؛ ولهذا السبب هو قدوتك. بما أنَّ الحزم صفة مكتسبة، فمن الطبيعي أن يكون محرجاً في البداية، تماماً كما نشق طريقنا من خلال الجمل عند تعلُّم لغة جديدة، والتصرف بحزم غير مريح للمبتدئين، فالممارسةُ تجعل الحزم أسهل تماماً كما أنَّها تحسن الطلاقة اللغوية.

ولكن كيف نمارس الحزم؟ لا يوجد تطبيق على الإنترنت لتعليمك الحزم، وما من معجم للمشورة، وما من قواعد لغوية لتدلنا على ما هو مسموح، فهنا يأتي دور الاقتداء؛ إذ إنَّ الأشخاص غير الحازمين عادةً ما يعرفون الكثير من الأشخاص الحازمين، ففي الواقع في كثير من الأحيان يبدو أنَّه كلَّما زاد شعورنا بالإحباط بسبب افتقارنا إلى الحزم، أصبحنا أكثر انشغالاً بأشخاص لن يستطيعوا تحمُّل ما تحملناه.

في الوقت الذي ننشغل فيه بتعذيب أنفسنا بتلك المقارنات السلبية مع الأشخاص الحازمين، فإنَّ إدراكنا لمهارة الحزم التي يمتلكها الأشخاص الآخرون هو ما قد يساعدنا على التخلص من الروتين، ذلك الزميل أو الصديق الذي كان سيرفض العمل الإضافي الذي أخذته للتو، كيف كان سيفعل ذلك بالضبط؟ وماذا كان سيقول؟ وما هي لغة الجسد التي كان سيستعملها؟ بمجرد أن تكتشف ذلك قم بالأمر بنفسك؛ إذ إنَّ التركيز في قدوتك هو وسيلة فعالة للهروب من التفكير المفرط أو عدم التفكير، عندما تجد نفسك تفكر.

إن دافعت عن نفسي، فسوف أبدو متغطرساً، تذكر أنَّ قدوتك ليست متغطرسة؛ لهذا السبب هي قدوتك، ولكن ماذا لو لم تكن من هذا النوع من الأشخاص؟ وماذا لو كان الجميع يعرف أنَّك تلبي؛ ولهذا السبب يأتون إليك بطلباتهم؟

لحسن الحظ لا شيء من هذا يهم، فأنت لست مقيداً بسلوكك السابق أو بتصورات الآخرين عنك، تذكر أنَّ الفضائل صفات مكتسبة، وأنت تتعلمها من خلال ممارستها، وبمجرد أن تتصرف بحزم، سيتملكك شعور واضح بأنَّك شخص حازم، وبطبيعة الحال عندما نقول أشياء مثل: "إنَّه شخص حازم"؛ ما نعنيه هو أنَّه يتصرف بحزم في كثير من الأحيان وبسهولة؛ ولكنَّ هذا يعني فقط أنَّه طور عادة الحزم، ويُعَدُّ هذا أمراً يمكنك أنت أيضاً القيام به؛ وذلك من خلال الممارسة عبر أداء فعل حازم في كل مرة.

توجد استراتيجيات يمكننا استعمالها لزيادة حزمنا، وفي كثير من الأحيان، عندما يطلب منا شخص ما أمراً في أثناء إجراء محادثة وجهاً لوجه، فنشعر بصعوبة الموقف؛ فإمَّا أن نقول "لا" الآن، أو سيُحكَم علينا بعبء آخر غير سار فيما بعد؛ ولكنَّ هذا مثال آخر على التفكير المفرط أو عدم التفكير.

إقرأ أيضاً: 9 خطوات لتكون حازماً في اتخاذ القرارات

لن يشعر قدوتك بصعوبة هذا الموقف، أليس كذلك؟ فهو يدرك أنَّه في حال طلب منه شخص أمراً ما، فيحق له قضاء بعض الوقت في التفكير في الأمر، وربما كان ليقول: "دعني آخذ وقتي في التفكير في الأمر"، أو: "اسألني مرة أخرى في غضون أسبوع"، وهذا لا يمنحك الوقت فحسب؛ بل يتيح لك الرفض عن طريق البريد الإلكتروني بدلاً من رؤيته وجهاً لوجه، ولكن إذا كان الجواب مطلوباً على الفور، وجهاً لوجه ودون وقت للتفكير، فخُذ نفساً، وافعل ما كان سيفعله قدوتك، وقل: "لا أستطيع الالتزام بذلك الآن".

لا يمكنك إيقاف الناس عن المطالبة بوقتك وطاقتك، ولكن يمكنك تطوير المهارات اللازمة لحماية نفسك، ولا يُعَدُّ القيام بذلك عن الغطرسة أو الأنانية أو عدم التعاون أو أي من الأشياء الأخرى التي تقلقك. فكِّر في طيف أرسطو، أو فكر في قدوتك الحازمة وفي الشخصية التي تطورها في كل مرة تقول فيها "لا"، ثم استثمر ذلك الوقت الذي حافظت عليه لإنجاز المشاريع والمصالح التي تهتم بها.

المصدر




مقالات مرتبطة