التوكيدات الإيجابية والسلبية وتأثيرها على العقل الباطن

في مقابلات العمل والمقابلات مع المشاهير يُسأل كثيرون: "أين ترى نفسك بعد خمسة أعوام؟"، وفي حوارات تمثيلية وحياتية كثيرة نسمع جملة: "حدث ما كنت خائفاً منه"، وفي مرات كثيرة نقرأ عبارات: "كل متوقع آتٍ"، و"تفاءل بما تهوى يكن" منسوبة لحكماء وفلاسفة مشهورين، فهل تملك الأفكار كل هذه القدرة على التحكم بحياتنا ومسار الأحداث فيها؟ وهل تستطيع نظرة الإنسان تجاه أمر ما أن تساهم في وقوعه أو أن تنفي احتمالات حدوثه؟



هذا ما سوف نوضحه اليوم في مقالنا عن التوكيدات الإيجابية والسلبية وتأثيرها في العقل الباطن؛ إذ سنعرِّف أولاً مفهوم التوكيدات، ونشرح نوعيها الإيجابية والسلبية، ثم سنتحدث عن آلية تأثيرها في العقل الباطن وكيفية لمس نتائجها في حياتنا الواقعية.

مفهوم التوكيدات:

قبل الدخول في موضوعنا "التوكيدات الإيجابية والسلبية وتأثيرها في العقل الباطن" لا بد لنا من شرح مفهوم التوكيدات أولاً؛ لذا فنحن نجيب عن السؤال الذي يدور في أذهانكم "ما هي التوكيدات؟" بالتعريف الآتي:

التوكيدات هي عبارات أو جمل متكررة من شأنها التأثير في طريقة نظر الإنسان إلى الأمور وتعامله معها، ومن ثمَّ التأثير في استجاباته وردود فعله ونظرته تجاهها، وقد لا تكون التوكيدات بمفهومها العام عبارات فقط؛ بل قد تكون صوراً أو عبارات مقروءة، وسنوضح ذلك بأمثلة واقعية:

مثال عن التوكيدات الإيجابيّة: 

ظهر فجأة عند صديقتي هوس بارتداء الساعات، لم تعرف مصدره ولم تدرك له سبباً، حتى إنَّها اشترت ساعة باهظة الثمن من ماركة شهيرة، وعندما حاولنا معاً اكتشاف السبب، تذكرت أنَّها معجبة جداً ببطلة المسلسل التلفزيوني الذي تتابعه، التي كانت ساعة اليد جزءاً من إكسسواراتها في كل مشهد، فارتبطت الساعة بالمظهر الجذاب الأنيق الذي تظهر به الممثلة وشخصيتها المحبوبة الرصينة في المجتمع.

انطلاقاً من شعور خفي لدى صديقتي برغبة الظهور بهذا المظهر برز اهتمامها بساعات اليد، ومن ثمَّ أدَّت ساعد اليد دور التوكيد على ارتباط الأناقة والرصانة بارتداء ساعة يد.

شاهد بالفيديو: قوانين العقل الباطن

مثال عن التوكيدات السلبيّة: 

هل لاحظتم في الفترة الأخيرة انتشار عمليات التجميل بين السيدات وحتى الرجال؟ وهل تساءلتم عن السبب؟ إنَّ التوكيدات هنا ساهمت مساهمةً كبيرة في انتشار هذه الظاهرة، وللأسف لم تكن توكيدات إيجابية؛ بل توكيدات سلبية وسوف نشرح ذلك.

في هذه الحقبة من الزمن يكترث الناس كثيراً للسينما والتلفزيون ومواقع التواصل الاجتماعي، والتي تجتاحها الآن صورة نمطية للجمال تحاول أن تعمم نفسها على الجميع؛ البلوغرز والممثلات والمؤثرات معظمهنَّ أصبحن متشاركات في الصفات الشكلية؛ عيون واسعة ملونة، وأنف صغير مرفوع، وشفاه ممتلئة، وقوام رشيق، وبشرة صافية وغير مجعدة، وغيرها من السمات الموجودة بشكل طبيعي عند قلة من الناس.

لكن بسبب عمليات التجميل التي تجريها هذه الفئة تشكلت صورة نمطية للجمال عند الناس؛ وهذا ما دفع بالبشر الطبيعيين إلى تقليد هذه النماذج التي سيطرت على عقول الناس، ونسفت في أذهانهم كل أثر للجمال في التنوع والاختلاف وأي شكل مغاير لهذه المعايير.

فأصبحت الفتاة الممتلئة لا تحب شكلها وترهق نفسها في الأنظمة الغذائية لأنَّ السمنة ليست من معايير الجمال، وكذلك الفتاة صاحبة الأنف الطبيعي التي فقدت ثقتها بنفسها نتيجة التوكيدات الصورية التي تراها كل يوم، والتي ينتج عنها تأثير في المعتقد المجتمعي، ومن ثمَّ تسمع الممتلئة عبارة: "أنقصي وزنك لتصبحي أجمل" وتسمع السمراء: "ضعي كريم تفتيح البشرة لتصبحي أجمل".

إنَّ تأثير هذه المواقف والعبارات في الإنسان بالغ وكبير ولو لم يلحظ ذلك، وإنَّ تكرار سماع هذه التعليقات من المحيط يكون كنقطة الماء في الصخر، تحفر مجراها ببطء وتكرار وبشكل تراكمي؛ وهذا ما يسبب فقدان الأشخاص لثقتهم بأنفسهم ودخولهم في دوامة ضعف تقدير الذات.

إنَّ أهمية التوكيدات تكمن في زرع معتقدات جديدة لدى الأشخاص أو تغيير معتقدات خاطئة متأصلة في أذهانهم، وبحسب النتيجة التي يفضي إليها كل نوع من أنواع التوكيدات، يمكن تصنيف التوكيدات في قسمين؛ توكيدات إيجابية من شأنها أن تحسن من الإنسان وتطور ذاته، وتوكيدات سلبية لها تأثير معاكس للأولى، وتؤثر سلباً في الإنسان وتساهم في إحباطه وتقوقعه، وسنناقش كل واحدة منها بالتفصيل.

إقرأ أيضاً: كيف تزيل العوائق العقلية باستخدام عقلك الباطن؟

ما هي التوكيدات الإيجابية؟

التوكيدات الإيجابية هي مجموعة العبارات والجمل الإيجابية التي تعزز قيمة ما إيجابية عند الإنسان، والتي يقوم بتكرارها على مسامع نفسه أو كتابتها أو تخيلها من أجل تعزيز احترامه لذاته، والتأكيد على قيمته، أو استبدالها بمعتقد ما خاطئ أو سلبي غُرس فيه من قبل.

من شروط التوكيدات الإيجابية أن تكون:

  • بالزمن الحاضر وليست بالزمن الماضي أو المستقبل، مثل: "أنا أحب المال وأجنيه بسهولة ويسر".
  • مختصرة ومحددة: "أنا أقترب من هدفي بالحصول على مرسيدس سوداء".
  • لا تحتوي على نفي: "أريد أن أنجح" وليس: "لا أريد أن أفشل".
  • مدعَّمة بالخيالات والتصورات التي تعززها مثل "أن يتخيل الإنسان نفسه يغلق باب المرسيدس السوداء ويدير مفتاحها ويشغل الموسيقى" كأنَّه يقوم بفعل معتاد عليه.
  • مكرَّرة باستمرار ولمدة لا تقل عن 21 يوماً حتى يعتاد العقل الباطن على وجودها.

التوكيدات الإيجابية قادرة على أن تحل محل توكيدات سلبية موجودة سابقاً عن طريق تكرارها بإصرار وإيمان بحصولها، ويمكن كثيراً أن تحل عبارات: "أنا سمراء وجميلة" محل: "ليتني كنت بيضاء وجميلة"، وجملة: "أنا أستحق الحب" مكان جملة: "لن يحبني زوجي بعد الولادة وتغير شكل جسدي"؛ إنَّها معتقدات ما إن استُبدلت حتى تغيرت نظرة حاملها إلى نفسه تغيراً جذرياً، وانعكس هذا بوضوح على تصرفاته وأقواله.

إقرأ أيضاً: 5 حقائق عجيبة عن القوى الخفية للعقل الباطن

ما هي التوكيدات السلبية؟

التوكيدات السلبية هي عكس التوكيدات الإيجابية، وتعني العبارات التي يكررها الإنسان على مسامع نفسه بوعي أو دون وعي، وتكون سبباً في لجمه وكبح جماحه والتقليل من شأنه، ومن المؤسف أنَّ تكرارها من قِبل الإنسان يكون نابعاً من ضعف ثقته بنفسه، وسوء التربية التي تلقاها في مرحلة طفولته ومراهقته، وسنذكر هذا المثال:

ألح الطفل ذو الأعوام الثلاثة على أمه ليساعدها على نقل صحون الطعام إلى المائدة، فاستجابت لكثرة إلحاحه وأعطته وعاء الملح الزجاجي، فتعثَّر الطفل وهو يحمله فوقع منه وانكسر وانتشر الملح في كل أنحاء الغرفة، فصرخت الأم: "حتى وعاء الملح الصغير الخفيف لم تستطع حمله، أنت لا تستطيع فعل شيء".

فينسى الطفل الموقف ويندفع للمساعدة في موقف آخر وعن أي فشل جديد "لم تستطع فعل هذا، أنت لا تصلح لشيء" تتكرر هذه التوكيدات السلبية مرات كثيرة على مسمع الصغير، فتتأصل في عقله اللاواعي، ويكبر منطوياً مهزوز الثقة بنفسه، وكلما فشل في شيء مهما كان صغيراً، كرر التوكيدات السلبية عينها على مسمع نفسه "أنا لا أصلح لشيء" واستسلم.

شاهد بالفيديو: 8 طرق لتدريب العقل على التحلي بمزيدٍ من الإيجابية

كيف تؤثر التوكيدات في العقل الباطن؟

لقد كان مؤسس علم التحليل النفسي الشهير "سيغموند فرويد" محقاً عندما شبه العقل البشري بالجبل الجليدي؛ الجزء الظاهر منه هو العقل الواعي الذي يشبه قبطان السفينة ويتولى إعطاءها أوامر التوجه والذهاب، والجزء المخفي منه هو العقل اللاواعي الذي يكون بمنزلة طاقم السفينة غير الظاهر، والمسؤول فعلياً عن تنفيذ أوامر العقل الواعي.

هذا التشبيه يشرح كثيراً العلاقة بين التوكيدات واستجابة العقل الباطن لها، وسوف نوضح ذلك بمثال؛ عندما يقوم شخص ما بمحاولة غرس معتقد جديد لديه في عقله، مثل: "أنا أحب جسدي وأحافظ على صحته وأغذيه بشكل صحي"، هذه الجمل التي تُعَدُّ بمنزلة توكيدات إيجابية يحرص الجزء الواعي من العقل على ترديدها.

بتكرار هذه العبارة يومياً أو في كل لحظة يجلس فيها الإنسان إلى مائدة الطعام، سينغرس في العقل اللاواعي أهمية التركيز على الأطعمة الصحية انطلاقاً من حب الجسد؛ وهذا يدفعه في بادئ الأمر إلى التحكم بكميات الطعام غير الصحي التي يتناولها، ومن ثم يقوم بتجنبها، وبعد ذلك يعتاد على تناول الأغذية الصحية دائماً.

إنَّ تأثير التوكيدات الإيجابية منها أو السلبية في العقل الباطن يكون على محور "فكرة، وشعور، وسلوك"، والذي يؤثر تأثيراً كبيراً في الإنسان، فعندما يقوم الجزء الواعي من العقل بطرح فكرة معينة أو جديدة على الإنسان، يكون رد فعل عقله اللاواعي الأول هو رفض هذا الجديد والشعور بالقلق حيال هذه الأفكار الغريبة، لكن بالاستمرار والمثابرة سوف يعتاد عليها ويتقبلها، ومن ثمَّ سوف تؤثر في سلوكاته وتصرفاته فيما بعد، وسوف نوضح هذا بمثال:

في واحدة من الصفوف الدراسية طرح المعلم مسألة ما وسأل التلاميذ عن رأيهم في كيفية حلها، فاندفع الطلاب المميزون في الصف لتقديم آرائهم، ولكنَّ المعلم لم يسمع الإجابة التي ينتظرها، فراح يسأل الطلاب فرداً فرداً ليرى ما في جعبة كل واحد منهم حتى وصل الدور إلى وسيم الذي أجاب باقتضاب بدافع الخجل من زملائه وعدم الثقة بسداد رأيه خاصة بعد فشل رفاقه المتفوقين، فتمتم بضع كلمات مختلفة لفتت انتباه المعلم، ولما طلب منه الاستفاضة في رأيه أُعجب به كثيراً وقال: "أنت بارع جداً في تحليل المسائل يا وسيم".

تتالت المواقف المشابهة لهذا الموقف في مرات عديدة، وأصبح التلميذ الخجول يسمع عبارة المديح: "أنت بارع جداً في تحليل المسائل" من أستاذه في كل حصة، فازدادت ثقة الطالب بنفسه وتبنَّى هذا المعتقد في حياته القادمة، وأصبح بارعاً في تحليل المسائل الرياضية والحياتية.

في هذا المثال لعبت كلمات المعلم دور التوكيدات الإيجابية التي غرست فكرة البراعة في التحليل في ذهن إنسان، وتحولت إلى شعور بالثقة والتقدير للذات عززته المواقف، وتترجمت على شكل سلوك اتخذه هذا الفرد في حياته، فاختار مهنة تحليل البيانات بوصفها عملاً له انطلاقاً من معتقد متأصل في نفسه ببراعته في تحليل المعطيات.

هذا المثال يشرح بوضوح كيف تؤثر التوكيدات في العقل الباطن، والفرق الوحيد هو أنَّ الإنسان يكون معلم نفسه.

في الختام:

إنَّ التوكيدات الإيجابية والسلبية هي مجموعة الجمل والعبارات التي تبرمج العقل الباطن، وتحدد الطريقة التي يتقبل فيها الوقائع والأحداث، ويستجيب بها لما يحدث من مواقف وتغيرات؛ إنَّها جهاز التحكم بمشاعرنا وأفكارنا وسلوكاتنا؛ لذا يجب أن نعي تماماً كيف نخاطب أنفسنا وكيف نخاطب الآخرين.

المصادر: 1، 2، 3




مقالات مرتبطة