التعلُّق: جحيم مستتر خلف قناع الحب

لطالما خضنا الحياة راسمين صورةً معيَّنةً عن الحبّ، صورةٌ مُستقاة من الكتب والروايات ووسائل الإعلام المرئية والمسموعة، إلى أن تبنَّينا قناعة أنَّ "الحبَّ عذاب"، وأنَّ الألم نتيجةٌ طبيعيَّةٌ له؛ فالذي يحبُّ مُقدَّرٌ له عيش الضِّيق النفسي والمشاعر السلبيَّة التي تصاحبه من غيرةٍ مجنونة، واستحواذٍ مرضيٍّ وتعلُّقٍ شديد.



والسؤال هنا: "هل فعلاً حالة الحبِّ مؤلمة؟ أم أنَّ هناك حالةً أخرى دخيلةً صُدِّرَت لنا من غير وعيٍ على أنَّها "حالة حب"، لكنَّها في الحقيقة أبعد ما تكون عن الحب؟"، "هل تكون حالات القلق، والاضطراب، وقلَّة النَّوم، ومشاعر التخبُّط، وانعدام التوازن، وفقدان السيطرة على المشاعر؛ بالفعل مترافقةً مع حالة الحب؟ أم أنَّ الموضوع مختلفٌ تماماً عن ذلك؟"، "وكيف لي أن أُحدِّد أنَّ الذي أعيشه حبَّاً أم تعلُّقاً؟"، "وماذا عن الذين لا يعيشون حبَّاً، هل بالفعل هم أنصاف بشرٍ بحاجةٍ إلى الحب حتَّى يكتملوا؟"، "ما هو القانون الذي يحكم حالة الحب ويحميها من العشوائيَّة والتشوه؟".

أسئلةٌ كثيرةٌ تقودنا إلى البحث من خلال هذا المقال عن الجذر الأساسيِّ للحب، وكيف تحوَّل من حالةٍ باعثةٍ على الأمان والراحة النفسية والثقة والحرية والسكينة، إلى حالةٍ من القلق والعذاب والألم والغيرة المرضية والتعلُّق العنيف.

هل الحبُّ هامٌّ في حياتنا؟

الإنسان عبارةٌ عن نفسٍ وجسد، وعليه أن يسعى إلى إشباع كلا الجانبين، فكما يجتهد الإنسان في حصوله على الغذاء الصحي لجسده، عليه أيضاً تعزيز الجانب النفسي لديه؛ لأنَّ 98% من الأحداث الحاصلة في حياة الإنسان أساسها السعي النفسي؛ لكن كيف يكون السعي النفسي في اتجاهه الصحيح؟  

يبدأ السعي النفسي الصحيح مع تفعيل أعظم قوةٍ في الكون، وهي: "قوة الحب"، تلك القوة المُحفِّزة على تحقيق الإنجازات والأهداف والأحلام، فلا يُنصِت العقل الباطن إلينا وإلى رغباتنا دون وجود مشاعر حبٍّ قويَّة؛ لأنَّه يُدَار بالمشاعر.

لكن، كيف أصل إلى هذه القوة العظمى؟ يتمثَّل الجذر الأساسي لتفعيل طاقة الحبِّ العُظمى بحبِّ "الخالق"؛ فإذا تأمَّلتَ دماغنا وجهازنا العصبي وكيفية التنسيق المدهش بين مليارات الخلايا العصبية، فستُصاب بالذُّهول والانبهار؛ وإذا تمعَّنت في خلق الكون والشمس والقمر والكواكب، فستوقِن بالتأكيد بوجود هذه القوَّة العظمى. إذاً، فالحب الأسمى والأرقى، والأساس الذي يتفرَّع عنه أيُّ حبٍّ آخر متوازن؛ هو حب اللَّه.

للأسف، نعيش اليوم في مجتمعٍ فاقدٍ لحالة الحبِّ الأسمى، فيتعامل بعض الأشخاص مع "اللَّه" على أنَّه غير موجود، فيبدؤون رحلة البحث عن مصدرٍ آخر لكي يشحنوا طاقاتهم منه، حيث تعدُّ الحاجة إلى وجود مصدر أمانٍ في الحياة من أساسيات سيكولوجية الإنسان وفطرته؛ في حين يعاني بعضهم الآخر من اعترافٍ جبانٍ بوجود اللَّه، فتجدهم موقنين بوجوده لكنَّهم في حالة خوفٍ مَرضيٍّ منه، حيث يتصوَّرن أنَّه شديد العذاب وصعب الإرضاء، وتتلبَّسهم حالة نفورٍ منه لا يجرؤون على الاعتراف بها، وللأسف لن يصلوا مطلقاً إلى حالة الحبِّ السامي للَّه؛ لأنَّ الحب والخوف لا يجتمعان في قلب شخص، فلا يمكنك على المستوى الشخصي أن تحبَّ شخصاً وتخاف منه بشدَّةٍ في الوقت نفسه؛ فكيف إذاً على مستوى طاقةٍ عظمى كاللَّه؟

إقرأ أيضاً: أهم 9 أمور في الحياة للإنجاز والسعادة

كيف تبدأ حالة التعلُّق؟

علينا بدايةً التفريق ما بين "الحبِّ" و"التعلُّق"، فالحبُّ هو الحالة التي ترافقها مشاعر إيجابيةٌ حصراً، من سعادةٍ واستمتاعٍ وشغفٍ وسلامٍ وراحةٍ وثقة؛ بينما يعدُّ التعلُّق الجانب السلبي للحب، والذي يرافقه مشاعر سلبيَّةٌ حصراً، مثل: الضيق النفسي والألم والعذاب والمعاناة.

عندما يستمد الإنسان طاقته من المصدر الصحيح للطاقة "اللَّه"، يصبح في حالةٍ من الطاقة النورانية الإيجابية، ويبدأ "العطاء"؛ فعندما يحبُّ شخصاً، تجده يعطيه اهتماماً وثقةً واحتراماً، ويطغى الأسلوب الراقي على علاقته، فُيغدِق الآخر بمشاعر الرومانسية والحنان والاحتواء والتفهُّم، ويكون تعبيره عن حبِّهِ في أسمى صوره.

ومن جهةٍ أخرى، يلجأ بالفطرة مَن يُعاني من انقطاع التواصل مع خالقه إلى تبنِّي مصدرٍ آخر للطاقة، وهنا تبدأ حالة التعلُّق، فتجده يستمدُّ طاقته من مصدره الجديد الذي قد يكون: مالاً أو شهرة أو ما شابه ذلك؛ فيتحوَّل من حبِّ اللَّه إلى حبِّ الهوى، ويتعلَّق بالهوى تعلُّقاً شديداً، فلا يشعر بالراحة إلَّا إذا قام بالممارسات المتعلِّقة بالهوى؛ فهي مصدر أمانه بدلاً من اللَّه. مثلاً: إذا كان عبداً متعلِّقاً بالمال، ستجده يركض ركضاً لاهثاً للحصول على المال، وسيشعر بفقدان التوازن والأمان والراحة في حال غيابه.

هل المُتعلِّق "مُحتاج" والمُحِبُّ "غني"؟

مَن يكون مصدر أمانه غير "اللَّه"، تكون حياته مشوّشةً وغير مستقرَّةٍ حكماً؛ فإذا أحبَّ شخصاً ما، فإنَّه يتعلَّق به بشدَّة، بحيث يعتبره مصدر أمانه وسبب وجوده في الحياة، مثلاً: أن تقول الزوجة لزوجها: "أنا من دونك لا شيء؛ فإن تخلَّيتَ عنِّي، فسأموت حكماً"؛ ويعني هذا أنَّها قد نست اللَّه وعبدت زوجها.

يبثُّ الشخص المُتعلِّق طاقة "احتياج"؛ ذلك لأنَّه في حالة توقٍ دائمٍ للطاقة، فهو لا يُشحَن من المصدر الأساسي "اللَّه"؛ ولأنَّ قانون الكون لا يُعطِي محتاجاً، بل يُعطِي الغني فقط؛ تجده يجذب إلى حياته عكس ما يريد تماماً. في حين يجذب الشخص الإيجابي الواعي طاقة "اللّه" والمستمتع بها، إلى حياته شخصاً إيجابياً مثله، بحيث يعيش معه المتعة الحقيقيّة.

يعيش الشخص المُتعلِّق طاقة "شحٍّ وفقر"، بحيث تجده متقلِّب المزاج، وفاقداً التوازن النفسي؛ لأنَّه يستمدُّ طاقته من الأشياء والأشخاص؛ لذا تختلف طاقته صعوداً أوهبوطاً، تبعاً للظرف الموجود، فمثلاً: إن كان متعلِّقاً بالشهرة، فسيحزن ويكتئب في حال قلَّ عدد متابعيه على وسائل التواصل الاجتماعي، ويفرح ويَسعد في حال زاد عددهم. بينما تجدُّ الشخص الذي يستمد طاقته من "الله" مطمئن البال ومرتاحاً ومستقراً، ولا يعبأ بنظرة الناس وآرائهم؛ لأنَّ قيمته أكبر من ذلك بكثير، ومُستمدَّة من الخالق، فهو غنيٌّ ومُكتمِلٌ بذاته وواثقٌ بربِّه.

لا يصل الشخص المُتعلِّق إلى المتعة الحقيقية، فالمتعة بالنسبة إليه مؤقتة، وسرعان ما تنطفئ ويملُّ منها؛ فهو يمتص طاقة الآخر؛ ممَّا يؤدِّي إلى نفور الطرف الآخر منه وابتعاده عنه؛ في حين يُدرِك الشخص الذي يحبُّ حبَّاً حقيقياً أنَّ المتعة حالةٌ تزداد في كلِّ يوم، فيسعى إلى احتواء الآخر بدلاً من استهلاكه.

يتعامل الشخص المُتعلِّق مع شريكه بمشاعر غيرةٍ مرضية، فهو إنسانٌ فاقدٌ للطاقة وفقيرُ التوازن؛ لذلك تجده يُمارِس على شريكه المنع والإكراه والعنف، ويهتك حريَّته وخصوصيته؛ في حين يتعامل الشخص المُحِبُّ مع شريكه بمشاعر غيرةٍ إيجابيَّة، تُضفِي على العلاقة مزيداً من الشغف والمتعة.

يسعى الشخص المُتعلِّق إلى تدمير الطرف الآخر في حال انفصاله عنه، فهو ينتقل من حبِّ الشخص إلى حبِّ "الأنا"، ولن يَرويَّ ظمأه إلَّا إهانةُ الطرف الآخر وتحقيره؛ بينما يسعى الطرف الذي يحبُّ بصدقٍ إلى الرحيل بسلامٍ ورقيٍّ في حال الانفصال عن الطرف الآخر.

الشّخص المُتعلِّق دائم الأخذ من الآخر، وينتظر أن يأتي التغيير من قبل الآخر. في حين يحترف الشخص المُحِب "العطاء" ويبدأ بالتغيير من داخله أولاً.

شاهد بالفيديو: أقوال وحكم رائعة عن العطاء

اطلب رغباتك من موقع قوة:

مَن يرغب في الزَّواج مثلاً، ويبثَّ إلى الكون طاقة "حاجة"، ويتبنَّى مقولة أنَّ "الزواج مصدر سعادته في الحياة"؛ فيجذب إلى حياته مَن يجعله يتألَّم ويُعانِي أكثر.

لكي تسعد في حياتك، عليك أن تطلب رغباتك من موقع قوةٍ وغنى، وليس من موقع ضعف وحاجة؛ لذلك عليك أن تَعِي أنَّك مكتملٌ بذاتك، وأنَّ الزَّواج عبارةٌ عن إضافةٍ جميلةٍ إلى الحياة، وأنَّك سعيدٌ وغنيٌّ بوجوده أم عدم وجوده؛ عندها فقط سيُعطِيك الكون مزيداً من الأحداث الإيجابية.

اعمل على كسر ارتباطك وتعلُّقك بالماديَّات أو الأشخاص، وذلك من خلال تخيُّل حياتك بوجود الأمر المُتعلَّق به، واستشعار المشاعر الإيجابية نحوه، سواءً أكانت أماناً أم راحةً أم سعادة؛ وتخيَّل بعد ذلك غياب الأمر نفسه عن حياتك إلى الأبد، وقُل لنفسك: "لا يهم، فأنا أستطيع إكمال الحياة من دونه"، وقُل أيضاً: "أنا قيمتي أكبر بكثيرٍ من هذا الأمر"، وردِّدها أكثر من مرَّة، واستشعر شكل حياتك القادمة دونه، وثق بأنَّها ستكون مُستقرَّةً وهادئةً ومتوازنة، وستجد بعدها أنَّك مُحفَّزٌ لسؤال نفسك السؤال التالي: "ما هي الطرائق الأخرى للوصول إلى ذات المشاعر التي كان ذاك الأمر يحقِّقها لك؟"، وستُفتَح أمامك الكثير من الأبواب التي لم تكن واعياً لوجودها في حياتك، وستنطلق من جديدٍ بثقةٍ وإيجابيةٍ واكتفاءٍ ذاتي، مُكتشفِاً أنَّ العمل الحقيقي يجب أن يكون بتنمية ذاتك الداخلية وتزكيتها، وتحقيق أهدافك وشغفك في الحياة، وليس بالتعلُّق المَرضي المُستهلِك للطاقة والنفس والروح؛ ولا تنسَ العمل بجديَّةٍ على إصلاح علاقتك مع "اللَّه"، فمن هنا يبدأ النجاح واليُسر والمتعة في الحياة.

إقرأ أيضاً: ما هو معنى الحياة وكيف تعيش حياةً هادفة؟

الخلاصة:

تعدُّ حالة "الحبِّ العليا" تجسيداً لحالة الغنى الحقيقي؛ فكُن غنيَّاً من الداخل، وبادر بالعطاء، وامنح الثقة والاحتواء والاحترام إلى الطرف الآخر؛ وإن تصرَّف شخصٌ معك تصرُّفاً سلبياً، فلا تُحقِّره، بل افصل ما بين فعله وشخصه، وتأكَّد أنَّه عبدٌ للَّه مثلك، فعليك ألَّا تكرهه، فطاقة الكره من أسوأ الطاقات في العالم، وتُدمِّر حياة الشخص تماماً، لذا انسف تعلُّقك بالماديات والأشخاص، وتعلَّق باللَّه وحده، واستمدَّ منه طاقتك، لترى كيف ستُصبح حياتك. 

 

المصادر: 1، 2، 3




مقالات مرتبطة