التسامح بين الأطفال: كيف نعلم أطفالنا التسامح؟

تخيَّل أن نفقدَ قيمة التسامح من تعاملاتنا اليومية وأن يُساء إلينا فنترك كل أفكارنا وأحلامنا جانباً ونلتفت لرد الإساءة، ليعود الطرف الآخر ليفكر في ردِّ اعتباره منا مجدداً، فأيَّة حلقة لا نهائية من العنف والإساءة سوف تكون؟



التسامح ليس مجرد قيمة أخلاقية هامشية ولا شعار ديني نلتزم به امتثالاً لأوامر الله فقط؛ بل إنَّه تحرير للروح من شرك الثأر والانتقام وثقلهما ونارهما التي تتأجج في القلوب، وإنَّه تحليق في فضاءات الحرية والإنسانية السامية وعودة إلى الفطرة النقية والسوية.

أهم قيمة يجب أن نحرص على غرسها في أطفالنا هي التسامح، علَّنا نساهم في إنشاء جيل يطوي صفحات الحرب والقسوة ويبدأ من أول سطر جديد في رأس صفحة جديدة قصة حياة مليئة بالخير والمحبة، ولأنَّ العلم في الصغر كالنقش على الحجر كان لا بد من الحرص على تزويد أبنائنا بهذه القيمة السامية منذ نعومة أظفارهم لتكون وسيلتهم للعبور نحو الخفة والتحرر من مشاعر الرغبة بأذى الآخرين وبوصلتهم نحو إنشاء مجتمع متحاب ومتعاون، فعن غرس قيمة التسامح بين الأطفال والإجابة عن سؤال "كيف نعلم أطفالنا التسامح؟" نفرد هذا المقال.

أهمية تعليم الأطفال التسامح:

إنَّ أهمية تعليم الأطفال التسامح تكمن في تربية إنسان سوي متوازن لا يشغل باله أذى الآخرين له ولا يهدر طاقته في الانتقام والتفكير به، وإنَّ تعليم الأطفال التسامح لا يعني أبداً تربية أطفال ضعفاء يتنازلون عن حقوقهم، فالتسامح يحتاج إلى قوة أضعاف الانتقام والثأر، ولكنَّه ترفُّع عن رد الأذية انطلاقاً من الإيمان بعدالة الله تعالى وتوازن القوى في الحياة.

إنَّ أول ثمرة نجنيها من تعليم الأطفال التسامح هي إنشاء كائن رحيم بنفسه ومتعاطف مع ذاته لا يجلدها إذا ما أخطأت أو قصَّرت داخلاً بذلك في دوامة تأنيب الضمير والإحساس بالدونية؛ إنَّما يشفق عليها ويتعاطف معها آخذاً بيدها نحو حل المشكلات والتفكير السليم بطرائق التعاطي مع الأمور.

إنَّ أهمية تعليم الأطفال التسامح تظهر في بناء شخصيات قادرة على ضبط نفسها عن التصرفات التي تشدها إلى قاع الدونية والحقد والكره والانتقام، وتزيد من مرونتها لتقبل الاختلافات بينها وبين الآخرين فلا تطلق الأحكام ولا تتبنى الآراء المعلبة تجاههم، إضافة إلى جعلها محبوبة من قِبل الآخرين مكتسبة لاحترام وتقدير الناس، ومتسمة بنظرات إيجابية تجاه الحياة ومواقفها وتصرفات الآخر، وحاصدة بذلك حب الناس وتقبلهم، كون الجميع يهرب من الشخص الميال نحو الانتقام الذي يأكل الحقد قلبه ويشغل الثأر جل تفكيره.

لعلَّ من أهم نقاط أهمية تعليم الأطفال التسامح هي تزويدهم بأخلاق الأنبياء السامية، فالتسامح كان سمة مشتركة بين الرسل جميعاً، فالنبي محمد صلى الله عليه وسلم قد عفا عن أهل قريش بعد كل الأذى الذي ناله منهم، على الرغم من آثار الشوك والحجارة التي زرعوها في طريقه، والنبي المسيح عليه السلام قد نادى بإدارة الخد الأيسر لمن يصفع خدنا الأيمن.

شاهد بالفيديو: أهمية التسامح للفرد والمجتمع

كيف نعلم أطفالنا التسامح؟

إذا ما أردنا أن نعلم أطفالنا التسامح يجب علينا أن نتبع الخطوات الآتية:

1. أن نكون قدوة متسامحة:

إذا ما أردنا الإجابة عن سؤال "كيف نعلم أطفالنا التسامح؟"، فلا بد أن نستعد لسماع عبارة "يجب أن نكون نحن قدوة حسنة"، فكيف نعلم أطفالنا خصلة ليست فينا؟ وكيف يمكن للطفل أن ينصت إلى صوت أبويه إذا ما كانت أفعالهما تخالف القول؟ علينا أن نكون قدوة متسامحة لأطفالنا ومتسامحة مع نفسها ومتسامحة مع الآخرين لكي يتبنى الصغار مفاهيم التسامح ويتشربوها بشكل عملي في تفاصيل حياتهم.

إذا ما كان العقاب سلاحنا الأول في مواجهة أي تصرف خاطئ يصدر عن الطفل فكيف سيتعلم الأطفال التسامح؟ وإذا ما كنا جلادين لأنفسنا نعاقبها على كل صغيرة أو كبيرة باللوم والتأنيب فكيف سيتعلم أطفالنا التسامح مع أنفسهم؟ إنَّ التعامل بتسامح مع الأطفال وأمامهم من شأنه أن ينقل إليهم هذه الخصلة الحميدة، كما أنَّه يساهم في إنشاء علاقة وطيدة بين الطفل والمربي.

2. إخبارهم قصصاً عن التسامح:

إنَّ من أفضل طرائق تعليم الأطفال التسامح هي تمرير هذه القيمة لهم عن طريق القصص، فالعلاقة بين الطفل والقصة أعمق من أن يمكن سبرها، والأطفال عموماً شديدو التأثر بعوالم الحكايات وما تحمله من قيم، فإنَّ سِيَر الأنبياء والرسل مليئة بالعبر والرسائل المشيدة بصفة التسامح، كما أنَّ صفحات الإنترنت ذاخرة بالقصص التي تشجع الأطفال على التسامح وتشرح لهم معانيها وصورها؛ لذا فإنَّ الخطوة الأولى لتعليم الأطفال التسامح هي سرد الحكايات الشائقة التي يتمتع أبطالها بهذه الصفة الإنسانية النبيلة.

3. تعزيز ثقة الطفل بنفسه:

لقد تحدَّثنا عن القوة التي يجب أن يتمتع الإنسان بها ليكون قادراً على التسامح، لذلك إذا ما أردنا تعليم أطفالنا التسامح فلا بد لنا من تعزيز قوَّتهم، ولا نعني هنا القوة البدنية فقط؛ بل نقصد القوة المعنوية والثقة بالنفس، فإنَّ الطفل الواثق بنفسه يعرف تمام المعرفة أنَّ الاعتذار لا ينقص من شأنه وأنَّ التسامح مع من أساء إليه ليس سوى انتصار على ذاته ورغبته في الانتقام ورد الإساءة.

يؤكد الاستشاريون في الصحة النفسية أنَّ الأطفال غير المتسامحين تنتج عنهم الأفعال الانتقامية لافتقارهم إلى مشاعر الأمان وضعف مهارتهم وقلة ثقتهم بأنفسهم، ويرون أنَّه من الضروري أن يُشعر الآباء أطفالهم بالأمان وأن يمنحوهم الثقة بأنفسهم، وذلك عن طريق استبدال الصراخ واللوم في المواقف الحياتية بالاحتواء والتقدير، فإذا ما كسر طفل كأساً زجاجياً مثلاً، يجب عليهم ألا يوبخوه فهو لم يفعل ذلك قاصداً؛ إنَّما يجب أن يطمئنوا على عدم إصابته بواحدة من شظايا الزجاج المتناثر بدلاً من اللوم والصراخ.

كما يجب عليهم الثناء على تصرفاته الجيدة وتطبيقه لمفاهيم التسامح التي علموه إياها وحرصوا على اكتسابه لها، فإذا ما رفض ضرب صديق ضربه يجب الثناء على فعل التسامح الذي قام به الطفل على الرغم من قدرته على رد الضرب والإساءة وعلى الرغم من قوَّته البدنية ودروس الرياضة القتالية التي يتعلمها، ويجب تبيان تأثير هذا الأمر إيجاباً في نظرة الأطفال تجاه أنفسهم وفي نظرة الآخرين لهم التي يملؤها الاحترام والتقدير.

إقرأ أيضاً: تربية الأطفال: المكافآت والعقوبات تجاه أخطاء الأطفال

استراتيجيات من أجل تعليم الأطفال التسامح:

فيما يأتي بعض الاستراتيجيات التي تساعد على تمرير مفهوم التسامح للأطفال، وأهمها:

  1. من أجل تعليم الأطفال مبادئ التسامح لا بد أن نشرح لهم الغاية من هذا السلوك الإنساني وإيجابياته في مساعدتنا على تقبُّل اختلاف الآخرين وتعزيز روح الجماعة وحب المشاركة.
  2. شرح مبدأ أنَّ التسامح لا يعني الموافقة على سلوك الطرف الآخر، فإذا ما كنتُ قد تسامحتُ مع صديقي لأنَّه سرق كرتي؛ فهذا لا يعني أنَّني أدعم السرقة أو أشجع عليها.
  3. من أجل تعزيز سلوك التسامح الإيجابي لا بد من الثناء على الطفل عند تسامحه مع الآخرين.
  4. في مرحلة متقدمة من نمو الطفل يمكن إخباره عن أوامر الله سبحانه وتعالى للناس بأن يعفوا عن الذين يسيئون لهم اقتداء بالأنبياء وتجسيداً لمفاهيم التسامح.
  5. من خلال تعليم الأطفال التسامح نكون قد مررنا لهم مبدأ حق الطرف المقابل بالحصول على فرصة جديدة ليصحح خطأه ويثبت حسن نواياه.
  6. من خلال تعليم الطفل مبادئ التسامح نوضح له دور هذه القيمة في تنمية العلاقات الإنسانية والحفاظ عليها، وأنَّ من لا يعتمدها في حياته يكبر وحيداً بلا أصدقاء.
  7. في بعض الحالات يصاب الطفل بجرح بسبب مواقف مؤذية من صديقه، ففي مثل هذه الحالات ومن أجل تشجيعه على التسامح لا بد من ذكر مواقف طيبة قام بها لأجله هذا الصديق وذكريات سعيدة صنعاها معاً من أجل أن يلين قلبه ويستطيع محاكمة الأمور بشكل منطقي متوازن، وبهذه الطريقة يكتسب الطفل منطقاً قويماً وقدرة على الامتنان والتفاؤل ورؤية النصف الممتلئ من الكأس حتى في أحلك المواقف.
  8. من الضروري عدم إجبار الطفل على التسامح، فالتسامح لون من ألوان المحبة ولا يمكن فرضه على أحد؛ إنَّما يمكن إجبار الطفل على إمساك أعصابه والامتناع عن التصرفات الحمقاء الناجمة عن الغضب.
  9. من الهام أن يتفهم الطفل أنَّ التسامح مع الآخر لا يعني أبداً عودة علاقتهما إلى سابق عهدها، وقد يكون في بعض الحالات وضع نقطة النهاية لمرحلة معينة.
  10. علينا أن نعلِّم أطفالنا كيف يفرغون مشاعر الغضب وخيبة الأمل والمشاعر السلبية الأخرى قبل اتخاذ قرار المسامحة، ولا بأس بإظهار بعض من هذه المشاعر أمام الشخص الذي تسبب بها.
  11. يجب الانتباه إلى توضيح الفرق بين التسامح والسكوت عن الحق الناتج عن ضعف الشخصية للطفل، ويجب وضع أسباب التسامح قبل اتخاذ القرار بمنحه.
  12. ليس من الصواب أن نزرع حب التنافس مع الآخرين في نفوس أطفالنا، فهذه الصفة في بعض الأحيان قد تكون سبباً يولِّد مشاعر الحقد تجاه من هم أفضل منهم.
  13. لعلَّ أهم استراتيجية نقدمها لكل الآباء الراغبين في تعليم الأطفال التسامح هي إحاطة أبنائهم بالحب والاهتمام الوافرين؛ وذلك لأنَّ الأطفال المشبعين بهذه المشاعر هم الأكثر قدرة على العفو والتسامح.
إقرأ أيضاً: أهم القيم والأخلاق التي ينبغي أن تعلمها لأبنائك

في الختام:

إنَّ صفة التسامح هي من أسمى الصفات البشرية وهي السمة التي تمتَّع بها جميع الأنبياء والرسل والتي حثَّنا الله سبحانه وتعالى على تبنيها والتمسك بها، وإنَّ التسامح هو مفتاح سجن الروح العالقة في أقفاص الغل والانتقام وأجنحة الخلاص التي ترفرف بها بعيداً عن أرض الحقد والكراهية.




مقالات مرتبطة