التجربة الروحانية: مشكلاتها ومعانيها ومستوياتها العليا

إنَّ الروحانية أو الارتقاء الروحي أو التطور الروحي يعني أن يصبح الإنسان قادراً على فهم مشاعره وعواطفه؛ إذ يصبح قادراً على تعديلها وتصريفها والتحكم بها بدلاً من أن تتحكَّم هي به، والمقصود بالتحكم ليس الكبت وليس القضاء على المشاعر والعواطف؛ بل بمعنى العمل بتناغم مع هذه الأحاسيس واحترامها، والنظر إليها بوصفها تجربة روحية يجب على الإنسان احترامها وليس التخلُّص منها.



ما هي أهم التصورات الخاطئة عن التجربة الروحية؟

كثيراً ما نسمع عن الأشخاص الذين يودون الانخراط في التجربة الروحية لما يُشاع عما تقدمه من فوائد كالسلام الداخلي والانعتاق من الألم والغضب والحسد وما إلى ذلك من المشاعر والخبرات السلبية، ولكنَّها مرَّت بكثير من الأخطاء والمشكلات، وأهمها:

1- الصورة الخاطئة:

إنَّ الصورة الموجودة في خيال الإنسان العادي تجاه الشخصية الروحانية هي ذلك اللباس ذو الهيبة والوقار، والذي قد يحمل اللون الأبيض في أغلب الحالات، وكذلك طريقة الحديث الهادئة والبطيئة وأسلوب الكلام الذي يغلب عليه الغموض والعمومية وعدم التحديد، وهي صورة خاطئة لا تمتُّ إلى الواقع بصلة؛ فالروحانية هي طريقة تفكير وأسلوب محاكمة لا علاقة لها بأي لباس أو زي والذي قد يلجأ بعض الناس إلى ارتدائه.

2- وهمُ نكران العواطف:

يظن عامة الناس أنَّ الروحانية تعني ألا يقيِّم الإنسان أي وزن للمشاعر السلبية أو السيئة مثل الغضب أو الحزن أو اليأس أو الحسد وغيرها؛ وهي لا تعني نكران هذه المشاعر؛ بل على العكس تماماً فهي تعني تقبُّلها كما هي كونها تجربة شعورية تثبِت إنسانية الإنسان، وتدعوه إلى التفكُّر في هذه المشاعر التي نسميها سلبية، لدرجة توصلنا إلى أن نتوقف عن تصنيف المشاعر إلى إيجابية وأخرى سلبية؛ بل نَعُدُّها مشاعرَ فقط، وهذا هو جوهر الروحانية.

3- الروحانية تعني ازدراء المادة:

بخلاف ما هو شائع شيوعاً كبيراً في العديد من المجتمعات، فإنَّ الروحانية لا تعني أبداً ازدراء الإنسان للمادة أو المال ورؤيته على أنَّه أمر مفسد في حياة الناس؛ بل على العكس تماماً فإنَّ الروحانية تهدف في نهاية المطاف إلى توظيف المادة والمال في خدمة الإنسان؛ وذلك من خلال حثه على أن يعيش حياته بطريقة منظَّمة يقدر فيها على تحقيق أكبر فائدة لمن حوله، مع تجنُّب إحداث أي ضرر لهم، والثانية قبل الأولى وأهم منها بكثير.

هل الروحانية تعني التخلي عن مباهج الحياة؟

يظن الكثيرون أنَّ الروحانية تعني أن يزهد الإنسان بمباهج الحياة جميعها ويبتعد عن كل نشاط أو عمل أو مهنة يكون الغرض منها جمع المال. إلا أنَّ جوهر الروحانية يختلف تماماً عن ذلك؛ إذ إنَّه - كما أسلفنا - طريقة لفهم الذات وجعلها تعمل بطريقة تتناغم مع المشاعر والعواطف.

وتقتضي الروحانية الاستمتاع بمباهج الحياة - طبعاً وفق الطرائق التي لا تؤذي الناس - فعلى سبيل المثال يمكن الاستمتاع بتناول الأطعمة اللذيذة التي تشتهيها النفس بشرط ألَّا تكون مؤذية للصحة، لكن تدعوك الروحانية إلى أن تمضغ ببطء وتتذوق الطعم اللذيذ بعمق وتغمض عينيك وتركز انتباهك في حليماتك الذوقية وهي تتلامس مع قطع الطعام اللذيذة وتحاول تحديد كل مكون من مكونات الطعام اللذيذ.

ثم تشعر بالامتنان لهذا الطعام اللذيذ وللمال الذي جعلك قادراً على شراء هذه المكونات، وللمعرفة التي كوَّنت مهاراتك العملية والدراسية وأهَّلتك حتى تدخل في العمل الذي أعطاك هذا المال، ثم كن ممتناً لوجودك في هذه الحياة ولهذه اللحظة التي تعيشها وأنت على قيد الامتنان.

هل مفهوم الروحانية على تضاد مع مفهوم المادية؟

يظن معظم الناس أنَّ الروحانية في جوهرها هي مفهوم مضاد للمادية، أو أنَّ الروحانية تعني أن نحارب كل ما له علاقة بالمادية؛ وهذا اعتقاد خاطئ جداً؛ إذ إنَّ الوجود الروحاني للإنسان لم يكن ليتبلور إلَّا من خلال المادة؛ والتي تتمثل في جسده وفي الأشياء المادية من حوله؛ إذ بدأ وعيه يتشكل ويتطور من خلال التعرُّف إلى هذه الماديات ومحاولة تطويعها بين يديه ليجعلَ منها أشياء مفيدة في حياته؛ أي بمعنى آخر فإنَّه يُدخِل جزءاً من روحانيته في إعادة صياغة هذه الأجزاء المادية.

ما هو الزمن اللازم لدخول الإنسان في التجربة الروحانية؟

إنَّ التنوير الروحي لا يمكن أن يحدث دفعة واحدة أو من خلال خطوة واحدة أو فجأة، فنسبة أن يحصل هذا الأمر هي واحد بالمليون، ولا يمكن عَدُّه قاعدة؛ بل هو عملية طويلة الأمد قد تستمر طوال الحياة؛ وذلك لأنَّها تتضمن تطهير الوعي من الشوائب، وتطهير النفس من رواسب الأفكار الخاطئة، وهذا ما لا يمكن بلوغه مهما كان الزمان المُتاح بين أيدينا؛ لذا فإنَّ التنوير الروحي هو الرحلة والطريق بصرف النظر عن النهاية.

شاهد بالفيديو: كيف تطرد الطاقة السلبية من الجسد

"من أنت؟" وفق ما تقوله التجربة الروحانية:

قد يكون أهم سؤال تطرحه الروحانية عليك هو "من أنت؟" وعليك أن تجيب عن هذا السؤال الذي لا يمكن الوصول إليه إلَّا بعد سنوات من التأمُّل والتجارب والبحث والتفكير، فقد تظن في فترة ما أنَّك جزء من عائلتك وأنَّ انتماءك هو العائلة فقط، وربما يتغير فيما بعد وتشعر بنفسك منتمياً إلى دينك، وبعد فترة تجد أنَّ انتماءَك لوطنك أهم لأنَّه يجمع كل الهويات والانتماءات السابقة، ثم فيما بعد قد تجد هذه الهوية ضيقة، فتخرج منها وتتبنى هوية الإنسانية جمعاء، وتشعر بأنَّك جزء من أي إنسان حول العالم.

كل هذه الانتماءات والهويات لا تتعارض أبداً مع التجربة الروحية؛ بل على العكس قد يكون جوهر الروحانية هو البحث عن هوية، ومن وجهة نظر فلسفة التنوير الروحي فإنَّ كل الهويات التي يحاول الإنسان اعتناقها مثل العائلة أو القبيلة أو الوطن أو الإنسانية هي هويات فرعية، والهوية الأساسية التي غالباً ما يصل إليها الإنسان في التجربة الروحية هي "الوعي".

فنحن بصفتنا بشراً مجبولون بشكل أو بآخر من الوعي؛ إذ إنَّ كل ما نتلقاه من بيانات عبر الحواس الخمس أو حتى ما يسمى بالحاسة السادسة يمر عبر الوعي؛ الذي يحوِّل تلك البيانات إلى معلومات، ويبني عليها فيما بعد ويستخدمها في تفسير بيانات جديدة؛ وبذلك يكون الوعي هو المادة الأولى لأيَّة تجربة روحية.

ما هو التفكير الشائع الذي يمنعنا عن خوض تجربة روحية حقيقية؟

توجد عدة أنماط للتفكير تتعارض مع الروحانية، ولن نستطيع خوض تجربة روحية حقيقية إلَّا في حال تخلَّصنا منها؛ وذلك لأنَّها على تناقض تام مع جوهر التجربة التي نخوضها، وأهمها "إما أبيض أو أسود".

تنتشر طريقة التفكير هذه عند معظم الناس؛ لا بل يمكن القول إنَّها طريقة تفكير الأغلبية الساحقة من البشر؛ إذ بالنسبة إلينا يكون الشخص الموجود أمامنا إمَّا سيئاً أو جيداً، وإمَّا أن تكون هذه العادة ضارة أو نافعة، وإمَّا أن يكون عملنا ناجحاً أو فاشلاً، وإمَّا أن ننظر إلى ذواتنا على أنَّنا ناجحون أو فاشلون، وقس على هذا المنوال.

وفي حقيقة الأمر لا يوجد في الحياة ما هو أبيض أو أسود؛ وإنَّما خليط كبير جداً من الألوان، وجمالية الحياة ليست إلَّا في تنوُّع الألوان وتمايزها عن بعضها بعضاً، وقد بيَّن العلم وجود هذه الحقيقة في الطبيعة؛ إذ إنَّ أي لون هو عبارة عن خليط من الألوان التي تمتزج مع بعضها وفق نسب معيَّنة لتشكِّل لوناً جديداً، وكذلك فالطبيعة لا تحتوي لوناً أخضراً واحداً؛ وإنَّما عدداً لا نهائياً منه إذ يختلف في تدرجاته وتفاصيله.

إقرأ أيضاً: 6 أنماط تفكير تؤدي إلى الإصابة بالاكتئاب

مثال عملي يجسِّد أعلى مستويات الروحانية:

إذا أردنا أن ندخل في فيزياء اللون أكثر، نجد أنَّ اللون ليس إلَّا طولاً معيناً للموجة الضوئية، وفي حال تغيَّر هذا الطول يتغير معه اللون، فلون الشجرة على سبيل المثال؛ قد لا يكون هو اللون الذي نراه؛ وإنَّما هو انعكاس الأشعة الضوئية على الشجرة، ومن ثم تمتص أوراق الشجرة وبقية أجزائها جزءاً من هذه الأشعة - كل جزء من الشجرة يمتص الضوء ويعكسه بطريقة مختلفة؛ وذلك حسب خواصه - وتعكس الجزء الآخر الذي يصل إلى العين على شكل أمواج ضوئيَّة أو ما يسمى في الفيزياء بالفوتونات الضوئية، وترسل العين أطوال هذه الفوتونات عبر العصب البصري إلى الباحة البصرية الموجودة في الفص القفوي من الدماغ، والذي يُترجِم أطوال هذه الموجات إلى ما نسميه "الألوان".

إنَّ التفكُّر في هذه القضية العلمية وإسقاطها على ما نراه من اختلافات بين البشر هو مستوى عالٍ جداً من مستويات التفكير التي تنطوي عليها التجربة الروحانية، فكما أنَّ الألوان هي أطوال موجات ضوئية؛ فكذلك الإنسان هو خليط معقد من الألوان والأفكار والعواطف والمشاعر والمواهب والتباينات النفسية والجسدية، وعندما نصل إلى هذه القناعة يمكن القول إنَّنا فهمنا حقاً ما تعنيه "التجربة الروحانية".

إقرأ أيضاً: 10 مواد طبيعية تعزز الدماغ وتحسن الذاكرة والطاقة والتركيز

في الختام:

تشكِّل الروحانية ضرورة بشرية وإنسانية ونفسية، خلقَتها الحياة الحديثة والتطورات التكنولوجية والتقنية المتسارعة التي أصبحت جنونية في سرعتها بطريقة لم يتمكن الدماغ البشري من استيعابها دون أن تُحدِث له الإرهاق والصداع وحتى التخبط الذهني والنفسي في بعض الحالات؛ لذلك فقد وجد الإنسان الحديث في الروحانية مخرجاً ومتنفساً ممتعاً له من مشكلات ومصاعب الحياة، وطريقة لتحقيق التوازن النفسي والذهني وسط هذه الحياة المليئة بالمتغيرات.




مقالات مرتبطة