البناء القيمي للإنسان ومقاييسه

القيم من الموضوعات العامة التي شمل الاهتمام بها كل المجتمعات والثقافات، وكذلك كانت موضوعاً مشتركاً بين الأديان السماوية، إضافة إلى وضعها موضوع البحث والتقصي من قِبل العلماء والفلاسفة على مر العصور، فهي تمثِّل جانباً رئيساً من ثقافة أي مجتمع وتؤدي دوراً بارزاً في تحديد اتجاهاته ومساره، فنحن لا نستطيع أن نطلق الصفة البشرية على أي مجتمع لم توجد لديه مجموعة من القيم التي يتصف بها وتحكم حياته.



القيم تعبِّر عن فلسفة المجتمع ومعتقداته التي تؤثر في شخصيات أفراده وطريقة ممارستهم للحياة الاجتماعية، وهي صورة المجتمع التي تعكس مدى تماسكه وانسجامه، فكلما زادت وحدة القيم داخل المجتمع زاد تماسكه وارتباطه، وكلما قلَّ هذا الارتباط ازداد معه التفكك الاجتماعي.

أصبحت القيم اليوم تمثِّل أزمة يعيشها العالم؛ وذلك نتيجة للأحداث المختلفة التي يشهدها والتي تمخضت عنها العديد من التغيرات في كافة المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والمعرفية، والتي أدت بدورها إلى التغيير في المنظومة القيمية لكافة أفراد المجتمع.

تبرز أهمية القيم أيضاً بوصفها من المفاهيم المرتبطة بالرغبات والدوافع والمعتقدات، ومن ثمَّ لا بد من دراستها وتحليل التغييرات فيها باستمرار للحفاظ على الفئات سريعة التأثر بالآخرين ولا سيما الشباب منهم، فربما يوجد شباب لا يستطيعون تلبية رغباتهم أو إشباع حاجاتهم بالأساليب المشروعة، فيصبحون عرضة للتأثر بأفكار مغايرة لثقافة مجتمعهم وفريسة سهلة للتيارات والجماعات التي يعجبون بقيمها ويسلكون سلوكها ويدينون لها بالولاء مقابل إشباع حاجاتهم.

إنَّ دراسة القيم لا تُعَدُّ موضوعاً شائكاً أو صعباً؛ وذلك لأنَّ القيم محدودة العدد يسهل التعرف إليها وحصرها وقياسها، فهي موجودة لدى كل الناس لأنَّها مكون رئيس من مكونات الثقافة، إضافة إلى كونها تمثل مع بعضها نسقاً قيمياً يحكم الفرد، وأكثر من كل ذلك فهي قيم يمكن توريثها من جيل إلى جيل.

مفهوم القيم:

تؤدي القيم دوراً مركزياً في سلوكات الفرد الظاهرية وتوجهاته الحالية والمستقبلية، كما أنَّها تتميز بقدر كبير من الاستقرار النسبي الذي يتجسد في استمرار القيم لفترة طويلة من الزمن؛ بل حتى يمكن أن تتسم بالخلود وتتحلى بالأبدية على الرغم من تغير الظروف في محيطها.

القيم ليست ثابتة ومتشابهة في كل المجتمعات؛ بل هي تختلف بين مجتمع وآخر، كما أنَّ التطور الذي يطرأ في ظهور حاجات جديدة للفرد ينتج عنه بالضرورة قيم جديدة تحل مكان القيم القديمة أو تصبح مكملة لها.

القيم هي حكم يصدره الإنسان بالاستناد إلى مجموعة من المبادئ والمعايير التي وضعها وحددها المجتمع الذي توجد فيه والذي يحدد السلوكات المرغوبة، ويقول "تالكوت بارسونز" إنَّ القيم هي عنصر في نسق رمزي مشترك يُعَدُّ معياراً أو مستوى للاختيار بين بدائل التوجيه التي توجد في الموقف، ويعرِّفها كذلك أنَّها المعايير التي تحكم بها على كون الشيء مرغوباً فيه أو غير مرغوب فيه.

كما يرى "محمد عاطف غيث" أنَّ القيم هي "الصفات الشخصية التي يفضلها أو يرغب فيها الناس في ثقافة معينة"، أما "الدقس" فيرى أنَّ القيم هي موجهات لسلوك الأفراد ضمن ثقافة معينة أو مجتمع معين، تُكتسب عبر التنشئة الاجتماعية ويعطيها الأفراد اهتماماً خاصاً، وتشكل ميادين تتكامل فيها الأهداف الفردية مع الأهداف العامة في المجتمع.

تُعَدُّ نظرة "كوتون" هي النظرة الشاملة التي توضح معنى القيم والمغزى من وجودها فيقول: "هي القيمة اللفظية التي تُستخدم للدلالة على بعض القواعد والسنن التي خلَّدها الزمن، وتعطي معياراً يمكِّن الناس من تنظيم مدى جنوح رغباتهم إزاء الموضوعات المرغوبة فيها؛ إذ يستطيع الناس أن يضعوا عن ثقة الأشياء والأفعال وأساليب الحياة وما إلى ذلك موضع الاستحسان أو الاستهجان أو القبول، ومن ثم استجاباتهم للموضوعات المرغوبة فيها دلالات القيم المكتسبة التي تعكس ثقافة المجتمع".

ما هي الغاية من وجود القيم؟

  • توجه سلوك الفرد وأهدافه.
  • تساعد الفرد على التكيف والتأقلم بصورة إيجابية من خلال أداء ما هو مطلوب منه وبما يتلاءم مع تلك القيم.
  • تمثل دافعاً لكي يحسن الفرد من معتقداته.
  • تُعَدُّ المثل الأعلى في المجتمع الذي يتبعه الجميع فيزيد من تماسك الجماعة وانسجامها، ومن ثمَّ قوَّتها.
  • تتخذ القيم معياراً لتحديد أساليب الثواب والعقاب في المجتمع، فمن خلالها تُحفظ الحقوق وتُعرف الواجبات.
  • تساعد الفرد على تحقيق ذاته وبما يتوافق مع نفسه ومع المجتمع.
  • تُعَدُّ العنصر الأول من عناصر بناء شخصية الفرد التي تتمحور حولها كل الأشياء الأخرى.
  • تتخذ القيم معياراً للمقارنة بين المجتمعات والطبقات المختلفة.
  • تُعَدُّ القيم وسيلة لحل الصراعات وإنهاء الخلافات.

شاهد بالفديو: أحاديث الرسول محمد ﷺ عن الأخلاق

تصنيفات القيم:

1. على أساس المحتوى:

  • القيم الاجتماعية: تتمحور هذه القيم حول علاقة الفرد مع الآخرين وميله إلى تكوين علاقات وإبداء التعاون معهم.
  • القيم الاقتصادية: تتمحور هذه القيم حول الثروة وكيفية تحصيلها وزيادتها.
  • القيم الجمالية: تتمحور حول ميل الفرد إلى الجمال وكل ما هو متناسق.
  • القيم السياسية: تتمحور حول القوة والسلطة، وتهدف إلى فرض السيطرة والتحكم بالآخرين.
  • القيم الدينية: تتمحور حول الإيمان بفكرة وجود إله يتحكم بهذا الكون.

2. على أساس الانتشار:

  • القيم العامة: هي التي تنتشر بين جميع طبقات المجتمع؛ بين الريف والحضر؛ بمعنى تكون عامة في المجتمع.
  • القيم الخاصة: هي التي تكون محصورة بطبقة محددة أو مناسبة بذاتها أو دور اجتماعي معين.

3. على أساس الوضوح:

  • القيم الصريحة: هي التي يتم التعبير عنها صراحة في الكلام مثل القيم الاجتماعية ومنها العدالة.
  • القيم الضمنية: هي القيم التي يمكن أن نستدل على وجودها من خلال ملاحظة السلوك والميول والاتجاهات، وهذا النوع من القيم في الغالب يعبِّر عن الحقيقة مثل القيم المرتبطة بالسلوك الجنسي.

4. على أساس الاستمرار:

  • القيم الدائمة: هي القيم التي تستمر وتبقى زمناً طويلاً وتتوارثها الأجيال مثل القيم التي ترتبط بالأعراف والتقاليد.
  • القيم العابرة: هي القيم سريعة الزوال؛ أي الوقتية مثل القيم المتعلقة بالملابس.

5. على أساس البناء الاجتماعي:

  • القيم الإلزامية: هي التي تحدد قواعد السلوك والمراتب الاجتماعية.
  • القيم التقليدية: هي التي تهتم بالمحافظة على العادات الاجتماعية الموروثة.
  • القيم المثالية: هي الصورة المثلى التي يهدف المجتمع إلى الوصول إليها.
  • القيم الروحية: هي التي تنحصر في الأشياء غير المادية مثل قيم الشرف والحب والوفاء والولاء والصدق.
إقرأ أيضاً: كيف تحدِّد قيمك الشخصية لتعيشَ حياةً ملؤها الإنجاز؟

مكونات القيم:

1. المكون المعرفي:

يمثل معتقدات الفرد وأفكاره وأحكامه؛ إذ يدرك الموضوع عن طريق الوعي به والتفكير باستخدام العقل.

2. المكون العاطفي:

يتضمن الانفعال تجاه موضوع القيمية أو الميل إليه أو النفور منه، ويُعبَّر عنه بمشاعر الحب أو الكره وكل ما يمكن أن يثير أي شعور انفعالي.

3. المكون السلوكي:

القيم هنا معيار للسلوك؛ إذ تمثل استعدادات الفرد لإخراج المضامين السلوكية للقيمة من خلال التفاعل الاجتماعي.

إقرأ أيضاً: فلسفة الأخلاق: كيف يمكن للمعرفة أن تشكل الأخلاق؟

كيف يمكن قياس القيم؟

1. المشاهدة المنتظمة من خلال الملاحظة:

هذه الوسيلة من أقدم وسائل جمع المعلومات، فالملاحظة تعطينا المعلومات الصادقة عن الفرد دون تزييف ولا سيما إذا تمت دون إعلام الفرد بها.

2. المقابلة الشخصية:

هي مجموعة من الأسئلة المحددة سواء أكانت أسئلة محددة الإجابة أم مفتوحة الإجابة يوجهها فرد لآخر للحصول على معلومات منه وفق خطة محددة وأساليب متعددة.

3. تحليل المضمون:

مثل تحليل الرسائل ومعرفة القيم من خلال تحليل أسلوب الفرد ومقاصده من هذه الكتابة.

شاهد بالفديو: أقوال وحكم رائعة عن أهمية الصدق والأمانة

أشهر اختبارات ومقاييس القيم:

1. مقياس ألبورت وفرنون ولاندزي:

وضعه "ألبورت" ومن ثم تم تعديله مع "لاندزي"؛ إذ يتضمن 120 سؤالاً موزعاً على ست قيم، وهي القيم النظرية والاقتصادية والجمالية والدينية والسياسية والاجتماعية.

2. مقياس القيم الفارقة:

وضعه "ليبرنس"؛ إذ صنف القيم إلى قيم تقليدية وقيم عصرية، ويتضمن المقياس 24 زوجاً من الأسئلة تدور حول أشياء يجب فعلها أو الإحساس بها.

3. مقياس قيم العمل:

وضعه "دونالد أسوبر"؛ إذ يغطي 15 قيمة من القيم التي تؤثر في الدافعية للعمل مثل قيم الإبداع.

4. مقياس مسح القيم:

وضعه "بروكشيس"؛ إذ يتضمن هذا المقياس جزأين؛ الأول يدور حول القيم الغائية ويتألف من 18 قيمة، ويتمحور الجزء الثاني حول القيمة الوسيلية ويتكون أيضاً من 18 قيمة؛ إذ يُطلب إلى الفرد أن يقوم بترتيب هذه القيم من وجهة نظرة من الرقم 1 حتى 18.

5. مقياس وردوف وهاوكس:

يتضمن هذا المقياس وجود ثلاث مشكلات رئيسة يندرج تحت كل منها ثمانية حلول، ويُطلب من الفرد ترتيب كل منها من رقم 1 إلى رقم 8 حسب أهميتها من وجهة نظره.

في الختام:

تتطلب الحياة الاجتماعية التي نعيشها ولا سيما في الوقت الحالي وجود قيم يتفق ويحتكم إليها كل أفراد المجتمع، فمن غير وجود قيم فإنَّ الحياة تغدو مستحيلة، ولا يستطيع النظام الاجتماعي ضبط المجتمع وبناءه أو العمل على تحقيق أهداف الجماعة، عدا عن افتقاد الأفراد للأمان بسبب عدم وجود معايير ضابطة لسلوك أبناء المجتمع.

تمثل القيم جزءاً هاماً من التنظيم الاجتماعي الذي يضبط سلوك الإنسان ويوجه العلاقات الاجتماعية، فهي الركن الرئيس في تفاعل الأفراد بطريقة صحيحة، وعن طريقها يمكن قياس وتقدير مواقف الفرد، ومن ثم التنبؤ بها، فمن خلال دراسة نظام القيم لدى الفرد يمكن فهم شخصيته بشكل جيد، إضافة إلى كون القيم تبيِّن طبيعة المجتمع ونظامه والصفات التي يفضلها ويرغب فيها.




مقالات مرتبطة