الانزعاج الكامن في الشعور بالسعادة

أنهيتُ منذ وقت قريب أول مسودة لكتابي الجديد الذي أعكف على تأليفه، وكما كان الحال في كتبي السابقة، فكل لحظة قضيتها في كتابته كانت مملة وشاقة؛ إذ إنَّها لم تكن ممتعة وإنهاء المسودة جعلني سعيداً.



ملاحظة: هذا المقال مأخوذ عن المدوِّن والكاتب "جاي هارينغتون" (Jay Harrington)، والذي يُحدِّثُنا فيه عن تجربته هو وزوجته "هيذر" (Heather) في الصبر في أثناء السعي إلى السعادة الدائمة.

وكذلك الأمر في كل سباق جري شاركت به وكل مشروع عصيب أنجزته وكل حوار صعب أجريته، ومع أنَّني لم أكن أستمتع بأي من هذه الأمور، إلَّا أنَّني كنت سعيداً بأنَّني أنجزتها جميعاً. ولكن في المقابل قضيت ساعات بمشاهدة التلفاز، وتناولت الكثير من الطعام في جلسة واحدة، وتصفحت وسائل التواصل الاجتماعي دون توقف؛ إذ أعطتني هذه الأشياء راحة مؤقَّتة، ولكنَّ إرضاء نزواتي بهذه الطريقة نادراً ما جلب لي السعادة.

ما أحاول قوله من خلال ذكر هذه التجارب - ولا بد أنَّك مررت بتجارب مشابهة - هو أنَّه يوجد فارق بين الراحة من جهة والسعادة من جهة أخرى. وما يمنحنا الراحة الآنيَّة يأخذ من الرضى على الأمد البعيد، وما يتطلب جهداً وتوتراً يكون عادة أكثر إرضاءً؛ وهذه هي مفارقة السعادة.

الشعور بالسعادة

على سبيل المثال؛ خاضت زوجتي "هيذر" (Heather) تحدياً في الرسم يستمر 12 يوماً يُسمى "رسم الموسم" (Painting the Season)، وخلال أول 12 يوماً من شهر كانون الأول/ ديسمبر عكفت "هيذر" على ابتكار رسوم جديدة كل يوم؛ إذ تصور روح موسم الأعياد في شمالي ولاية "ميشيغان" (Michigan).

تستمتع "هيذر" بالرسم، ولكنَّ الرسم كل يوم وبجودة عالية عذابٌ بحد ذاته؛ ولإتمام التحدي تُدرِّس الأطفال في المنزل وتعمل مديرة إبداعية في وكالتنا التسويقية وتستيقظ باكراً كل يوم كي ترسم، وغالباً قبل الخامسة فجراً.

إنَّها متوترة حالياً ومتعبة؛ إذ تساءلتُ في أكثر من مناسبة عما دفعها إلى اتخاذ قرار خوض ذلك التحدي المحموم، ولكن مع مرور كل يوم مع وجوب رسم لوحة جديدة، فإنَّ الرضى لديها قد تعزز، وتحسنت مهاراتها وبنت ثقتها بنفسها، وببطء ولكن بعزيمة كانت تتخذ خطها لإنجاز أهدافها والوصول إلى أهدافها طويلة الأمد؛ وباختصار، هي متعبة ولكنَّها سعيدة، حتى لو كانت تجاربها اللحظية غير سارة أو غير مريحة.

الأمور التي نقوم بها لأنَّنا نظنُّ أنَّها تجعلنا سعداء - لأنها تمدنا بسرور مؤقت - لا تجلب لنا السعادة في الغالب والعكس صحيح، وينطبق الأمر نفسه على الأشياء المادية التي نرغب فيها.

يميل البشر بطبعهم إلى السعي إلى تحقيق الأحلام، فعندما نرغب في شيءٍ ونحصل عليه - سواءً كان ملابس جديدة أم منزلاً كبيراً - نرغب في شيء مختلف مباشرة بعد ذلك، ونمرُّ بلحظات مؤقتة من الفرح، ثم نعتاد على الأمر ويصبح ما هو جديد أمراً عادياً ونرغب في المزيد؛ إذ إنَّنا نستمر بمطاردة السعادة، ولكنَّها لا تستمر سوى لفترة عابرة.

تسمى هذه الظاهرة بـ "تكيف المتعة" (Hedonic adaptation) وهو مصطلح صاغه عالما النفس "فيليب بريكمان" (Philip Brickman) و"دونالد توماس كامبل" (Donald Thomas Campbell) في سبعينيات القرن الماضي لتفسير ميلنا إلى البحث عن حياة أكثر سعادة، قبل العودة إلى الحالة العاطفية الأصلية السابقة أو "النقطة المحددة" بعد الحصول على ما نريد، ونجري في حلقات مفرغة من المتعة ولا نصل إلى أي مكان؛ وذلك على الرغم من الجهود الجبارة التي نبذلها باستمرار.

إقرأ أيضاً: كيف تستخدم قوة القبول لتعزيز الرضى عن الحياة؟

غالباً ما يؤدي الاعتقاد بأنَّ "الأكبر والأفضل" يعنيان حياةً أكثر سعادة أقل، وهذه مفارقة أخرى، ونحن نعمل بجد لأنَّنا نرغب في المزيد، وعندما نحصل على المزيد سرعان ما يزول بريقه؛ لذا نحن نعمل بجد أكبر سعياً إلى المزيد، ونصبح أقل سعادةً نتيجة لذلك، وهلمَّ جراً.

في أثناء السعي إلى السعادة، يجب أن نتعلم الاستمتاع بأحداث الحياة وتجاربها، وليس مجرد التركيز في الوجهة؛ إذ يتعيَّن علينا التوقف عن التشبث بفكرة أنَّ هناك شيئاً أو شخصاً أو وظيفة واحدة في هذا العالم إذا حققناها أخيراً، فستجلب لنا السعادة الدائمة.

يطرح المختصون مفهوماً يُدعى "مغالطة الوصول" (arrival fallacy) - التي هي نتيجة طبيعية لمفهوم تكيُّف المتعة - وتُوصَف مغالطة الوصول أنَّها الاعتقاد الخاطئ بأنَّ الوصول إلى وجهة ذات قيمة يمكن أن يحافظ على السعادة.

يتطلب تحقيق السعادة الدائمة أن نستمتع بالرحلة في طريقنا نحو وجهة نَعُدُّها سامية، فالسعادة لا تتعلق بالوصول إلى قمة الجبل ولا بالتسلق بلا هدف حول الجبل؛ وإنَّما السعادة هي في تجربة التسلق نحو القمة.

بهذا المعنى فإنَّ الطموح بحد ذاته ليس بالأمر السيِّئ، ولكن يمكن أن يصبح إشكالياً عندما نسمح للسعي اللامتناهي إلى النمو وتحقيق المكاسب بإعاقة سعينا إلى السعادة، ويمكن أن يتعايش الطموحان "السعادة والنمو"، ولكن فقط بتوازن.

التوازن الذي يجب تحقيقه هو توازن صعب؛ إذ يمكن للحياة الطموحة؛ بل ويجب أن تكون حياة مثيرة ومرضية وسعيدة، لكنَّها تتطلب فهماً واضحاً للهدف وراء الطموح، وبالنسبة إليَّ ووفقاً لبحوث السعادة، فإنَّ الهدف واضح؛ وهو حياة ذات معنى وهدف وليس البحث عن ملذاتٍ مؤقتة وممتلكات مادية.

إنَّ الحياة الهادفة التي توجَّه فيها طاقات الفرد واهتمامه وطموحه نحو ما يهم حقاً، هي حياة مزدهرة، ويختلف "ما يهم بحق" تماماً بالنسبة إلى كل واحد منا، ولكن لدينا جميعاً هدف من المفترض أن نحققه، ويمكن أن يساعدنا الكفاح والنضال في الحياة على اكتشاف هذا الهدف. العمل الذي نبذله يترك لنا إحساساً أعمق بمعنى الحياة؛ إذ إنَّ مشاعر الضيق التي نُحِسُّ بها حينما نؤدي أعمالاً شاقة هي التي تُسعدنا؛ فالسعادة في السعي.

المصدر




مقالات مرتبطة