اقتصاد السوق: مفهومه ونشأته ومبادئه

اقتصاد الدول هو مفتاح نهضتها وتقدمها وتحقيق رفاهية شعوبها، فهو الاستخدام الأمثل للموارد النادرة لتلبية الاحتياجات المتزايدة، وعلى مر التاريخ ظهر اتجاهان للاقتصاد؛ اتجاه مُحبَّذ لتدخل الدولة في الاقتصاد وذلك في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، ثم ظهر اتجاه فكري آخر يدعو إلى تقييد دور الدولة الاقتصادي، وهو ما عُرِف بـ "اقتصاد السوق"، فما هو مفهوم اقتصاد السوق؟ وكيف نشأ؟ وما هي مبادئه؟



أولاً: مفهوم اقتصاد السوق أو (Market Economy)

اقتصاد السوق أو ما يُعرَف بـ "الاقتصاد الحر" أو "نظام الاقتصاد الرأسمالي"، هو نوع من أنواع الأنظمة الاقتصادية القائمة على الملكيَّة الخاصة لوسائل الإنتاج، ومنح الحرية للأفراد والمنشآت في تبادل السلع والخدمات، وممارسة النشاطات الاقتصادية التي يريدونها دون تدخُّل الدولة أو أجهزتها، وتعتمد القرارات الاقتصادية والأسعار في اقتصاد السوق على التفاعلات بين الشركات.

اقتصاد السوق من مقومات النظام الرأسمالي؛ إذ يؤمن أنصاره بأنَّ "الربح المادي" هو أكثر ما يُحفِّز الإنسان على الإنتاج والمخاطرة والعمل والاستثمار، وإنَّ سعي الجميع إلى تحقيق مصالحهم الشخصية يضمن بلوغ المصلحة العامة للمجتمعات.

يُعَدُّ اقتصاد السوق عقيدة اقتصادية تُطبِّقها معظم الدول الغربية، ومن أبرزها الولايات المتحدة التي تُعَدُّ المثال الأبرز عن هذا الاقتصاد والمُدافع الأول عنه وعن الرأسمالية.

نشأة اقتصاد السوق:

قام الاقتصاديون الكلاسيكيون أمثال "آدم سميث" و"ديفيد ريكاردو" و"جون بابتيست ساي" بتطوير مصطلح "اقتصاد السوق"، وذلك في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، ويُبرِّر هؤلاء وغيرهم من أنصار السوق الحر أنَّ تدخُّل الحكومات في الاقتصاد يؤدي إلى عدم كفاءة اقتصادية.

لقد عَدُّوا أنَّ دافع الربح وحوافز السوق غالباً ما تؤدي إلى مسارات أكثر فاعلية وإنتاجية من التخطيط الحكومي للاقتصاد، وطرح "آدم سميث" في كتابه الشهير "ثروة الأمم" مصطلح "اليد الخفية"؛ وهي قوى العرض والطلب التي تحرِّك السوق حتى الوصول إلى التوازن.

ما هو الاقتصاد المخطط والاقتصاد المختلط؟

1. الاقتصاد المخطط أو الاقتصاد المركزي:

هو الاقتصاد التي تُتخذ فيه القرارات الاقتصادية من قِبل الحكومة المركزية التي تمتلك الأرض ووسائل الإنتاج، وينتشر هذا النوع من الاقتصاد في المجتمعات الشيوعية، ومن الأمثلة عن هذا النظام، كوريا الشمالية وكوبا والصين.

2. الاقتصاد المختلط:

هو اقتصاد يجمع بين الاقتصاد المخطط واقتصاد السوق؛ إذ تعود معظم صناعاته إلى القطاع الخاص، أما الخدمات العامة فتعود إلى الحكومة، وتتبع أغلب البلدان الغربية نظام الاقتصاد المختلط.

أمثلة عن الدول التي لديها نظام اقتصاد السوق:

حسب ما نشرته صحيفة (The Guardian) البريطانية، وبناءً على أبحاث قام بها معهد "فريزر للحرية الاقتصادية في التصنيف العالمي"، تم تصنيف الدول التي تتمتع بأكبر قدر من الحرية الاقتصادية كالآتي:

  • هونغ كونغ.
  • سنغافورة.
  • نيوزيلندا.
  • سويسرا.
  • الولايات المتحدة.

على الرغم من هذا التصنيف؛ إلا أنَّ بعض الخبراء الاقتصاديين يرون أنَّ ما يظهر من اقتصاد حُر في هذه البلدان هو فعلياً اقتصاد مختلط، وأنَّه لا يوجد نظام سوق نقي تماماً، فهو عُرضة لتدخل السلطة أو الحكومة عند الحاجة.

شاهد بالفيديو: أكبر 5 تحديات في الاقتصاد العالمي الجديد وطرق مواجهتها

ثانياً: نظريات اقتصاد السوق

سنتكلم عن أهم النظريات التي تناولت اقتصاد السوق:

1. النظرية التقليدية:

ترتبط النظرية التقليدية بالمفكرين الاقتصاديين "آدم سميث، ديفيد ريكاردو، ويليام بيتي"، ودرست النظرية الأداء الخاص باقتصاد السوق، وحددت قيمة السلع بناءً على كمية العمل المخصص لإنتاجها، وافترضت أنَّ السعر يتأثر بطبيعة سلوك كل من التاجر والمستهلك وبأيَّة تغييرات في الطلب والعرض، وعند التقاء مصالح هاتين القوتين معاً يتحدد سعر السوق، ومن الشروط الأساسية لاستمرار المُنتجِين في الإنتاج هو تحقيق التوازن في تبادل السلع.

2. النظرية الماركسية:

ترتبط بالمفكر "كارل ماركس"؛ إذ انتقد فيها النظرية التقليدية، وشرح فيها اقتصاد السوق باستخدام أسلوب الجدلية المادية، فاتفق "ماركس" مع أصحاب النظرية التقليدية بما يتعلق بتحديد قيمة السلعة حسب الوقت المبذول لإنتاجها، ولم يَعُدُّها علاقة أبدية، فهي تتأثر بظروف ومتغيرات متنوعة في المجتمع، وركَّز "ماركس" على دراسة تأثير وجود رؤوس الأموال في أيدي قلة من المنتجِين وتحكُّمهم بالأسعار وبطريقة توزيع الأجور على العمال.

3. النظرية الحديثة:

ترتبط النظرية الحديثة بالمفكرَين الرأسماليَين الجديدَين "فون بافرك، ألفرد مارشال"، ويرى هذان أنَّ اقتصاد السوق هو نتيجة العلاقة بين الأفراد والأشياء؛ أي ركزا على منفعة السلعة، وأنَّ هذه المنفعة هي ما تحدد قيمة السلعة؛ وذلك انطلاقاً من أنَّ الإنسان يسعى دائماً إلى إشباع حاجاته وتحقيق أقصى ربح، وكلما ازدادت حاجته إلى السلعة ازدادت قيمتها، ومن ثمَّ فإنَّ اقتصاد السوق يهتم بتحقيق أفضل الأرباح من خلال إنتاج سلع تُلبي رغبات وحاجات الأفراد.

إقرأ أيضاً: مفهوم الاقتصاد الاجتماعي ومبادئه

ثالثاً: مبادئ اقتصاد السوق

تتمثل مبادئ اقتصاد السوق بما يأتي:

  1. الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج، إذ يقوم اقتصاد السوق على أن تكون وسائل الإنتاج "أرض، آلات، مصادر الطاقة" مملوكة من قِبل الأفراد ملكية خاصة، ولهم الحق في بيعها وشرائها وتأجيرها والربح منها.
  1. التبادل التجاري والإنتاج إذ يتمتع المشترون والبائعون في اقتصاد السوق بالحرية الكاملة في الإنتاج والتبادل التجاري وتصنيع وبيع وشراء ما يريدون.
  1. المنافسة، حيث يتميز اقتصاد السوق بقوة المنافسة فيه، وهذا يُبقي الأسعار منخفضة ويُوفِّر السلع والخدمات بكفاءة أعلى، وكلما زاد الطلب على المنتجات حفَّز ذلك المتنافسين على الاستمرار بالإنتاج، وهذا يزيد العرض في السوق ويخفض الأسعار، ويبقى بذلك أفضل المنافسين في السوق.
  1. محدودية دور الحكومة حيث تؤدي الحكومة دوراً محدوداً في اقتصاد السوق، فهو يقتصر على منع التلاعب بالأسواق وحمايتها ومنع الاحتكارات وضمان استمرار عملها وإمكانية الوصول إلى الأسواق.
  1. تحديد الأسعار وفق العرض والطلب، حيث يتحدد السعر في اقتصاد السوق وفقاً لظروف العرض والطلب عليها، ويتناسب السعر طردياً مع الطلب؛ فيرتفع بارتفاعه وينخفض بانخفاضه، ويتناسب عكسياً مع العرض؛ فيرتفع بانخفاضه وينخفض بارتفاعه.
  1. توفُّر المعلومات فمن أهم خصائص اقتصاد السوق هو توفير معلومات متشابهة عن المنتجات لكل من المنتِج والبائع والمستهلِك.
  1. معظم السلع والخدمات مملوكة للقطاع الخاص.
  2. اقتصاد السوق قائم على تحقيق الربح المادي والمصلحة الذاتية.
إقرأ أيضاً: مفهوم الاقتصاد الإسلامي

رابعاً: أنواع اقتصاد السوق

تتمثل أنواع اقتصاد السوق بما يأتي:

1. سوق المنافسة الكاملة:

يتألف سوق المنافسة الكاملة من عدد كبير من الشركات الصغيرة تُنتج منتجاً متجانساً وتتنافس مع بعضها بعضاً؛ فلا يستطيع البائع أو الشركة الواحدة التأثير في أسعار السلع أو الخدمات، ولا تكون القوة التسويقية للشركات كبيرة في هذا السوق.

2. سوق الاحتكار المطلق:

يتميز سوق الاحتكار المطلَق بوجود شركة واحدة فقط تتحكم بالسوق وباقي الشركات، وتمتلك قدرة تسويقية عالية جداً، وتتحكم بكمية الإنتاج والسعر.

3. سوق المنافسة الاحتكارية:

يتألف سوق المنافسة الاحتكارية من عدد كبير من الشركات الصغيرة والمتنافسة فيما بينها التي تبيع منتجات تختلف عن بعضها؛ إذ إنَّ تمايز المنتج عنصر أساسي في هذا السوق، وهذا يمنح الشركات القدرة على فرض الأسعار.

4. سوق احتكار القلة:

يسيطر عدد محدود من الشركات على السوق في سوق المنافسة الكاملة، وهذا يجعل المنافسة محدودة فيما بينها، ويتيح لهذه الشركات إما التنافس أو التعاون فيما بينها لرفع الأسعار وتحقيق الأرباح، ويُعَدُّ التسويق والإعلانات أداتين هامتين في هذا السوق.

شاهد بالفيديو: 7 طرق للتغلب على الظروف الاقتصادية العصيبة

خامساً: ميزات اقتصاد السوق

يتميز اقتصاد السوق بما يأتي:

  1. رفع كفاءة إنتاج السوق بسبب المنافسة العالية فيه، وهذا يجعل المتنافسين يسعون إلى تقديم الأفضل دائماً، وتنوع السلع والخدمات وتوفرها.
  2. عدم تدخل الحكومة في عمل القطاع الخاص ومنحه الحرية، وهذا يؤدي إلى ازدهاره الذي هو من أهم أسباب ازدهار اقتصاد الدول.
  3. تشجيع اقتصاد السوق على الاستثمار والابتكار بسبب الحرية التي يمنحها للأفراد والشركات.
  4. جذب الاستثمارات الأجنبية، وهذا ينعكس إيجاباً على الاقتصاد ككل.
إقرأ أيضاً: اقتصاد يولو (Yolo): ما هو؟ وكيف يمثل جزءاً من الحياة؟

سادساً: عيوب اقتصاد السوق

تتمثل عيوب اقتصاد السوق بالآتي:

  1. عجز القطاع الخاص عن تنفيذ المشاريع الكبرى قليلة الربح، مثل البنية التحتية والطرقات والجسور والبحث العلمي والصناعات الثقيلة.
  2. إهمال الجانب الاجتماعي والتركيز على تحقيق الربح المادي فقط.
  3. احتمال استغلال وظلم للعمالة، بسبب دفع أجور متدنية لها بهدف زيادة الأرباح الشركة.
  4. عدم المساواة الاجتماعية وترك فجوات اجتماعية واقتصادية بين أفراد المجتمع، بسبب تركز رأس المال في أيدي طبقة محددة.
  5. انتشار الجرائم الاقتصادية ومحاولات الحصول على المال بطرائق غير شرعية، خاصة عندما لا تتوفر وسائل قانونية للحصول على المال.
  6. من عيوب اقتصاد السوق تهرُّب القطاع الخاص من الاستثمار في قطاعات غير مربحة، ولكنَّها حيوية بالنسبة إلى البلاد، وهذا يتسبب بتراجع الخدمات العامة التي يحتاجها المواطنون.
  7. قد تتجه الشركات ورجال الأعمال في اقتصاد السوق إلى اعتماد الأتمتة وتسريح العمال، بهدف تعظيم أرباحهم وتقليل نفقات الأجور، وهذا يؤدي إلى تقليل الاستهلاك، ومن ثمَّ حدوث ركود في الاقتصاد.
  8. لأنَّ اقتصاد السوق يهتم بتحقيق الربح، فغالباً ما قد يهمل أصحاب رؤوس الأموال الموضوع البيئي وأثر أعمالهم وصناعاتهم في البيئة.
إقرأ أيضاً: اقتصاد السوق السوداء وأسباب ظهوره وتأثيره في اقتصاد الدولة

في الختام: اقتصاد السوق بين مؤيد ومعارض

ما يزال العالم منقسماً بين مؤيد ومعارض لاقتصاد السوق، فمنه من يراه نظاماً ناجحاً ويؤدي إلى نتائج اقتصادية أفضل وتحقيق الرفاه والحرية للأفراد، ومنهم من يراه نظاماً رأسمالياً لا إنسانياً بسبب تحكُّم طبقة من الأفراد بالثروة ورأس المال، ومن ثمَّ حدوث التفاوت الطبقي، ويجعل الحكومات رهينة بيد الشركات الكبرى والتكتلات الاقتصادية؛ لذا يبقى الخيار الأفضل برأي معظم خبراء الاقتصاد هو الاقتصاد المختلط الذي يجمع بين الأسواق الحرة وبعض التدخل الحكومي عند الحاجة.

المصادر: 1، 2، 3




مقالات مرتبطة