لقد شَرَحَ الجزء الأول من المقال 3 مؤشرات تحدد مصير العمل التجاري، وهي دخول منافسين جدد إلى السوق، والتغيرات التكنولوجية، والتغيرات الثقافية، ويقدم الجزء الثاني والأخير منه بقية المؤشرات، فتابعوا معنا السطور القادمة.
4. التغيرات الاقتصادية:
تفيد تجارب وكلاء العقارات بأنَّ الركود الاقتصادي، وعدم استقرار معدل الفائدة وغيرها من العوامل الاقتصادية تؤثر في سوق العقارات، وتؤدي إلى تكبيد الوكلاء خسائر كبيرة، وهذا يعني أنَّ الاقتصاد يمكن أن يُحدِث تغييرات جذرية في بقية القطاعات، ولفهم تأثير العامل الاقتصادي يمكن النظر في تجربة شركة "ستاربكس" (Starbucks) التي تحقق عدداً هائلاً من المبيعات يومياً، ويبلغ ثمن كوب القهوة الواحد في متاجر "ستاربكس" 4$، وهي تحقق مبيعات وأرباحاً كبيرة، وتُعَدُّ مثالاً نموذجياً عن التأقلم مع الأزمات الاقتصادية على مستوى العالم.
انخفضت إيرادات شركة "ستاربكس" في الربع الثاني من العام 2008، وقُدِّر انخفاض الدخل التشغيلي العالمي آنذاك بحوالي 26%، وقد شهدت المبيعات ضمن المتاجر هبوطاً حاداً لأول مرة في تاريخ العلامة التجارية، واضطر المستهلكون إلى ضبطِ نفقاتِهم وتوفير أموالهم قدر الإمكان استجابةً لأزمة الركود الاقتصادي العالمي في ذلك الوقت؛ إذ تعرضت شركة "ستاربكس" لخسائر مالية لأول مرة في تاريخ العلامة التجارية في شهر "تموز" (يوليو) من العام 2008.
لقد بلغ صافي الخسائر حوالي 6.7 مليون دولار في الربع الثالث من العام، وفي الربع الرابع انخفضت الأرباح بنسبة 97%، والإيرادات بحوالي 53%، والمبيعات بنسبة 8% بعد أن انتشرت الأزمة الاقتصادية العالمية في قارتي "آسيا" (Asia) و"أوروبا" (Europe)؛ وهذا يعني أنَّ الشركة كانت في أسوأ حالاتها.
ألف "هاورد شولتز" (Howard Shultz) الرئيس التنفيذي لشركة "ستاربكس" كتاب "إلى الأمام: كيف حاربت شركة ستاربكس من أجل استمراريتها دون أن تخسر هويتها" (Onward: How Starbucks Fought for its Life without Losing Its Soul)، وفيه يحكي عن عودته لقيادة شركة "ستاربكس" بعد غياب دام لحوالي 8 أعوام بغية إنقاذها من تداعيات الأزمة الاقتصادية العالمية.
قام "شولتز" بإيقاف عمليات توسع الشركة، وتخفيض النفقات بحوالي 600 مليون دولار، وأمر بإغلاق ما يزيد عن 7000 متجراً تابعاً للشركة لمدة 3 ساعات بتاريخ 26 "شباط" (فبراير) من العام 2008؛ بغية إجراء جلسة لإعادة تأهيل الموظفين، وخاطب "شولتز" موظفيه قائلاً: "لا يهدف اجتماعنا اليوم إلى إجراء التدريب فقط؛ بل إلى التذكير بأهمية المحبة والعاطفة والالتزام الذي نكنُّه للمستهلك".
استثمر "شولتز" أزمة الركود الاقتصادي بوصفها حافزاً لإعادة التركيز على نشاطه الأساسي في الأعمال التجارية، وراح يفكر في طبيعة قطاع عمل "ستاربكس" والتغييرات التي يجب إجراؤها، ومن ثم أعاد شولتز شرارة الحب بين شركته وزبائنها، وقضى على الغرور الذي يسيطر على أي شركة تحب منتجاتها أكثر من زبائنها، ولهذا السبب تُعدُّ تجربة "ستاربكس" مثالاً حياً عن استثمار الأزمات الاقتصادية في تحقيق النجاح والتفوق على المنافسين في السوق.
قال "شولتز" في عام 2011: "لقد عدت إلى شركة "ستاربكس" لأستلم منصب الرئيس التنفيذي في عام 2008 من أجل التغلب على المشكلات داخل الشركة، والتعامل مع الأزمة الاقتصادية العالمية، ولقد بذلنا قصارى جهدنا في العمل خلال العامين الفائتين، واليوم أصبحت علامتنا التجارية أكثر نجاحاً بفضل أزمة الركود الاقتصادي".
بلغت العائدات السنوية لشركة "ستاربكس" 32.25 مليار دولار في نهاية عام 2022؛ أي بنسبة زيادة تُقَدَّر بحوالي 10% عن العام الفائت.
تحفز الأزمات الاقتصادية على الابتكار وتحقيق النجاحات غير المسبوقة، ويضطر رائد الأعمال في وقت الأزمات إلى اتخاذ إجراءات واسعة النطاق بدلاً من أن يهدر وقته في التفكير والتخطيط، ويستثمر بعضهم الأزمات الاقتصادية في الإبداع والابتكار وإحداث التغييرات الجذرية في قطاع العمل، في حين يعجز آخرون عن التعامل مع التغيرات الاقتصادية، ومن ثم يتعرضون لخسائر مادية كبيرة تؤدي بهم إلى الإفلاس في بعض الأحيان.
تشير الإحصاءات إلى أنَّ 96% من الشركات يمكن أن تنهار بعد ما يزيد عن 10 سنوات من النماء والازدهار، وفيما يأتي مجموعة من الأسئلة الموجهة لرواد الأعمال الذين شهدوا الأزمة الاقتصادية العالمية في عام 2008:
- كيف أثرت الأزمة الاقتصادية العالمية في طريقة إدارتك للأعمال التجارية في الوقت الحالي؟
- ماذا تعلمتَ من الأزمة؟
- كيف ساهمت الدروس المستفادة منها في تطوير خبراتك في مجال الأعمال التجارية؟
- كيف يمكنك أن تطبق هذه الدروس في الأزمات الاقتصادية المستقبلية؟
- كيف تنوي القيام بأعمالك التجارية في الأعوام 2023، و2025، و2028؟
يجب عليك أن تتوقع التغيرات المستقبلية وتطبق الإجراءات اللازمة لزيادة فاعلية وكفاءة العمل، واستثمار الأزمات الاقتصادية في تحقيق النجاح والتفوق على المنافسين.
شاهد بالفديو: أسباب الأزمة المالية العالمية وطرق التخلص من آثارها
5. التغير في حياة المستهلك:
تستهدف بعض المنتجات والخدمات فئة محدودة جداً من المستهلكين، بمعنى أنَّها ليست موجهة لكافة شرائح المجتمع كالمنتجات الغذائية على سبيل المثال.
هل يمكن أن يؤثر تغير حياة المستهلكين في القطاعات التي تستهدف فئة محدودة من الجمهور؟
تجربة شركة "هارلي ديفيدسون" (Harley Davidson) كفيلة بالإجابة عن هذا السؤال؛ إذ ازدهرت تجارة دراجات شركة "هارلي" بين أفراد "جيل الطفرة" (baby boomers) عندما كانت الأفلام السينمائية في ذلك الوقت تروج لهذه الدراجات، واستهدفت المبيعات المستهلكين ضمن الفئات العمرية 35-55 عام، وقد تمت معظم المبيعات ضمن المجال العمري 40-45 عام؛ إذ تُعدُّ هذه النتيجة رد فعل طبيعياً تجاه أزمة منتصف العمر عند الرجال.
تكمن المشكلة في أنَّ الجيل الذي يأتي بعد "جيل الطفرة" صغير جداً لدرجة أنَّ المبيعات ستتراجع حتى لو اشترى كل شخص من "الجيل إكس" (Gen Xer) دراجة "هارلي" عندما يبلغ سن الأربعين، ومن ثم سرعان ما يخرج جيل "الطفرة الكبيرة" الأخير من السوق نتيجة تقدمهم في السن، فتراهم يحتفظون بدراجاتهم دون أن يستخدموها إلى أن يقرروا بيعها في نهاية المطاف، لقد كانت قيادة الدراجة ممتعة بالنسبة إليهم فيما مضى، ولكنَّهم يحتاجون للمال عند تقدمهم في السن؛ لهذا السبب يقررون بيع دراجاتهم؛ أي يمكن أن تؤدي التغيرات الحياتية لفئة العملاء المستهدفين إلى انخفاض المبيعات عندما لا تستعد الشركة لمواجهتها، لذا عليك أن تسأل نفسك: ما هي سمات الجيل التالي؟ وكيف سنروج منتجاتنا لاستقطابهم؟
يقطع الإنسان خلال تجربته الحياتية مجموعة من المراحل التي تشبه أطوار نمو الأعمال التجارية، وتتغير أولويات الإنسان مع تقدمه في السن، وتطور شخصيته، وبخاصة بعد الزواج وإنجاب الأطفال، وهذا ينطبق عليك، وعلى عملائك وموظفيك.
6. التغير في حياة الموظفين:
يشتكي معظم أرباب العمل من الحالات التي يطلب فيها الموظف إجازة نتيجة الظروف التي يتعرض لها في حياته الشخصية مثل الطلاق، أو الإنجاب، أو بسبب رغبته بممارسة النشاطات الترفيهية أو الاستكشافية لاستعادة عافيته النفسية، أو لحضور مناسبة خاصة، وتكثر غيابات الموظف في مثل هذه الحالة، ويعمل بإنتاجية منخفضة في أثناء وجوده في الشركة، وهو ما يؤثر سلباً في سير العمل.
في حال واجهت مثل هذا التغيير في بيئة العمل، فعندئذٍ عليك أن تنظر في الاستراتيجيات التي تطبقها الشركة للاحتفاظ بالموظفين؛ إذ يطالب الموظفون في العصر الحديث بجداول عمل مرنة، وإمكانية العمل عن بُعد، والإجازات الطويلة، والتسهيلات التي تساعدهم على تحقيق التوازن بين الحياة الشخصية والعمل إضافة إلى فرص التنمية المهنية.
يمكنك أن تساعد موظفيك من خلال تشجيعهم على أخذ الاستراحات من العمل من أجل تحفيز قدراتهم على الإبداع والابتكار، وحاول أيضاً أن تستعلم عن مطالبهم واحتياجاتهم وتصغي إليها باهتمام حقيقي وتتخذ الإجراءات اللازمة لتلبيتها، لذا يجب عليك من ناحية أخرى أن تساعدهم على الحصول على الإلهام الذي يحتاجون إليه لتأدية مهامهم على أكمل وجه، وتعمل على تنمية مهاراتك القيادية حتى تنجح في تجاوز تأثير هذا التغيير.
لقد أدركت الشركات حول العالم أهمية الاستجابة لهذا التغيير عندما حلت جائحة "كوفيد- 19" (Covid-19) في شهر "آذار" (مارس) من العام 2020، واضطر جميع الأفراد حول العالم إلى ملازمة منازلهم خلال الجائحة، ووجب على الشركات أن تعثر على طريقة لتسيير العمل والاستمرار في تقديم الخدمات، وكان نظام العمل عن بُعد شائعاً في بعض القطاعات آنذاك، ولكن اضطرت جميع الشركات لتطبيقه على كافة الوظائف التي يمكن القيام بها من المنزل بسبب الجائحة.
انتهت الجائحة وعادت الحياة إلى مجراها الطبيعي، وعندها وجب على الموظف أن يتخذ قراراً صعباً بشأن عودته إلى مقر الشركة؛ ذلك أنَّه اعتاد على العمل عن بُعد، ونجح في توفير كثير من الوقت الذي كان يهدره في المواصلات، وبالنتيجة ازدادت إنتاجيته بفضل العمل من المنزل.
عارضت معظم الشركات نظام العمل من المنزل بعد انتهاء الجائحة، وأرادت من الموظفين أن يعودوا إلى مكاتبهم، فاعترض الموظفون بدورهم على مطلب الشركة، واحتجوا بأنَّ العمل عن بُعد ناسب أنماط حياتهم، وساعدهم على تحقيق توازن صحي بين حياتهم الشخصية والمهنية.
جاءت ظاهرة "الاستقالة الصامتة" (quiet quitting) رداً على عودة الموظفين إلى العمل من مقر الشركة، وصاروا يتعمدون القيام بالحد الأدنى المطلوب في العمل، والاكتفاء بإنجاز المهام الواردة في الوصف الوظيفي لمنصبهم دون أي زيادة، ولا سيما أنَّ الشركات لم تأخذ مطالبهم بالحسبان، وفضلت تحقيق الأرباح على صحة الموظفين وعافيتهم.
يقتضي الاستعداد لهذا التغيير إرساء نظام ثابت للترقيات، وصرف المكافآت، وزيادة رواتب الموظفين الذين يعملون بجد، وغيرها من الإجراءات التي تدل على تقدير الشركة لجهود موظفيها، ويزداد ولاء الموظف واجتهاده في العمل عندما تقدِّر الشركة جهوده وتراعي احتياجاته؛ وهذا يعني أنَّ مساعدة الموظفين على تحقيق التوازن بين الحياة الشخصية والعمل يعود بالفائدة على جميع الأطراف.
شاهد بالفديو: 10 نصائح للموازنة بين الحياة والعمل
7. التغير في حياة رب العمل:
قد تدرك فجأة أنَّك تدير الشركة بصفتك قائداً وليس بصفتك مالكاً حقيقياً، أو أنَّك بلغت مرحلة معيَّنة في حياتك وأنت بحاجة للقيام بالأشياء التي تسعدك أو قضاء مزيد من الوقت مع العائلة، ويمكن أن تشمل هذه التغيرات من ناحية أخرى التعرض للاحتراق الوظيفي، أو الزواج، أو الإنجاب، أو الصراع مع مرض خطير، وغيرها من الأحداث التي تؤثر في إدارة الشركة.
لقد شهدت حياة معظم الأفراد حول العالم تغيرات نوعية خلال فترة الجائحة التي دفعتهم لإعادة تقييم أولوياتهم، وحدوث التغيرات أمر طبيعي وحتمي في الحياة، ولا شك أنَّ حياتك اليوم تختلف جذرياً عما كانت عليه قبل 10 أو 15 سنة.
تجدر الإشارة هنا إلى أنَّ معظم التغيرات الحياتية التي يتعرض لها الإنسان تكون متوقعة أكثر مما يعتقد؛ لذلك تذكر أن تستريح وتتخلص من الضغوطات الناجمة عن التفكير بمسائل العمل عندما تتعرض لهذه التغيرات، ويجب أن تكون مستعداً لتطوير نفسك عند عودتك وتتصرف بصفتك مالكاً حقيقياً، وإلَّا فإنَّك ستضطر للبحث عن توجه مهني آخر، ولن يستفيد أحد من وجودك في الشركة إذا كنت تفتقر للحماسة وقوة الإرادة اللازمة لاستثمار الوقت والجهد في العمل.
في الختام:
يُنصَح بمراجعة المؤشرات الواردة في المقال مرة كل شهر، والتفكير بمستقبل الشركة، والإجابة عن الأسئلة الآتية:
- ما هي التوقعات التي يجب أن تفكر فيها؟
- هل أنت بحاجة للاستعداد للتغيرات المستقبلية؟
- كيف يمكنك أن تستفيد من التغيرات المتوقعة في التغلب على المنافسين في السوق؟
احرص على توقع التغيرات المستقبلية، وتحليل السوق والظروف المحيطة، واستثمار الفرص المتاحة، والاستفادة من التغيرات والأزمات؛ وذلك في التفوق على المنافسين.
أضف تعليقاً